خير أيام الدنيا ماذا يشرع فيها ؟
ما يحصل في رمضان من تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النيران، مما يكون له أعظم الأثر في انبعاث الناس للعبادة وحماسهم لها.
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
تمهيد:
من رحمة الله (تبارك وتعالى) أن فاضل بين الأزمنة، فاصطفى واجتبى منها ما شاء بحكمته، قال (عز وجل): {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ..} [القصص: 68] وذلك التفضيل من فضله وإحسانه؛ ليكون عوناً للمسلم على تجديد النشاط، وزيادة الأجر، والقرب من الله (تعالى). ونظرة في واقع الكثير تنبئك عن جهل كبير بفضائل الأوقات، ومن أكبر الأدلة على ذلك: الغفلة عن اغتنامها، مما يؤدي إلى الحرمان من الأجر.
والأمر الذي يحتاج إلى وقفة تأمل: التباين الكبير بين كون عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل فيما سواها، وبين واقع الناس وحالهم في تلك العشر، فالكثير لا يحرك ساكناً، والأكثر لم يقم الأمر عنده ولم يقعد، ومن مظاهر ذلك مثلاً هجر سُنّة التكبير المطلق وهي من شعائر تلك الأيام.
وعلى الرغم من أن هذه الأيام أعظم من أيام رمضان، والعمل فيها أفضل، إلا أنه لا يحصل فيها ولو شيء مما يحصل في رمضان ؛ من النشاط في عمل الآخرة، ولا غرو، فالفارق بين الزمنين واضح، فقد اختص رمضان بما لم تختص به العشر، ومن ذلك: وقوع فريضة الصوم فيه، وهي (فريضة العام) على كل مسلم، مع ما يكون فيها من تربية للمسلم، وزيادة لإيمانه، بخلاف الحج فهو فريضة العمر.
ارتباط رمضان بنزول القرآن فيه مما جعله شهر القرآن، وذلك له أثر كبير في إقبال الناس فيه على كتاب الله الكريم.
الترغيب الخاص بقيام لياليه، وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام العشر، وتحري ليلة القدر.
وهذه الأمور الثلاثة جعلت لرمضان جوّاً خاصًّا متميزاً تنقلب حياة النّاس فيه، وتتغير أيًّا كان نوع ذلك التغير.
ما يحصل في رمضان من تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النيران، مما يكون له أعظم الأثر في انبعاث الناس للعبادة وحماسهم لها.
فيكون ذلك حافزاً للعلماء والدعاة والأئمة والخطباء ليخاطبوا قلوب الناس، ما دامت مقبلة على الخير.
كل ذلك وغيره يجعل هذه العشر ابتلاءً وامتحاناً للناس، فلا يحصل فيها من المعونة على الخير كما يحصل في رمضان ، والموفق من وفقه الله، فشمر وجد واجتهد.
فضل عشر ذي الحجة: قد دل على فضلها أمور [1] :
الأول: قال (تعالى): {وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2] قال غير واحد: إنها عشر ذي الحجة، وهو الصحيح [2]. ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء في تعيينها.
الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد أنها أعظم أيام الدنيا، وجاء ذلك في أحاديث كثيرة منها: قوله «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا: يارسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» [3] .
وقوله:«ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» [4] ، والمراد في الحديثين: (أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء أكان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من الجمعة في غيره ؛ لاجتماع الفضلين فيه) [5] .
الثالث: أنه حث على العمل الصالح فيها، وأمر بكثرة التهليل والتكبير.
الرابع: أن فيها يوم عرفة ويوم النحر.
الخامس: أنها مكان لاجتماع أمهات العبادة فيها، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها [6] .
أنواع العمل الصالح في أيام العشر: وحيث ثبتت فضيلة الزمان ثبتت فضيلة العمل فيه، وأيضاً فقد جاء النص على محبة الله للعمل في العشر، فيكون أفضل، فتثبت فضيلة العمل من وجهين.
وأنواع العمل فيها ما يلي:
الأول: التوبة النصوح:وهي الرجوع إلى الله (تعالى)، مما يكرهه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً، ندماً على ما مضى، وتركاً في الحال، وعزماً على ألا يعود. وما يتاب منه يشمل: ترك الواجبات، وفعل المحرمات. وهي واجبة على المسلم حين يقع في معصية، في أي وقت كان ؛ لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، ثم إن السيئات يجر بعضها بعضاً، والمعاصي تكون غليظة ويزداد عقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان ؛ قال (تعالى): {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم: 8]، وقد ذكر ابن القيم (رحمه الله تعالى): أن النّصْح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء: استغراق جميع الذنوب، و إجماع العزم والصدق، و تخليصها من الشوائب والعلل، وهي أكمل ما يكون من التوبة [7] .
الثاني: أداء الحج والعمرة: وهما واقعان في العشر، باعتبار وقوع معظم مناسك الحج فيها، ولقد رغب النبي -صلى الله عليه وسلم- في هاتين العبادتين العظيمتين، وحث عليهما ؛ لأن في ذلك تطهيراً للنفس من آثار الذنوب ودنس المعاصي، ليصبح أهلاً لكرامة الله (تعالى) في الآخرة.
الثالث: المحافظة على الواجبات: والمقصود: أداؤها في أوقاتها وإحسانها بإتمامها على الصفة الشرعية الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومراعاة سننها وآدابها. وهي أول ما ينشغل به العبد في حياته كلها ؛ روى البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قال: من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته» [8].
قال الحافظ: (وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به: امتثال الأمر، واحترام الآمر، وتعظيمه بالانقياد إليه، وإظهار عظمة الربوبية، وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل) [9] . والمحافظة على الواجبات صفة من الصفات التي امتدح الله بها عباده المؤمنين، قال (عز وجل): {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]، وتتأكد هذه المحافظة في هذه الأيام، لمحبة الله للعمل فيها، ومضاعفة الأجر.
الرابع: الإكثار من الأعمال الصالحة: إن العمل الصالح محبوب لله (تعالى) في كل زمان ومكان، ويتأكد في هذه الأيام المباركة، وهذا يعني فضل العمل فيها، وعظم ثوابه، فمن لم يمكنه الحج فعليه أن يعمر وقته في هذه العشر بطاعة الله (تعالى)، من: الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وغير ذلك من طرق الخير، وهذا من أعظم الأسباب لجلب محبة الله (تعالى).
الخامس: الذكر: وله مزية على غيره من الأعمال ؛ للنص عليه في قوله (تعالى): {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] قال ابن عباس: أيام العشر [10] ، أي: يحمدونه ويشكرونه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويدخل فيه: التكبير، والتسمية على الأضحية والهدي [11] ،ولقوله: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد).
السادس: التكبير: يسن إظهار التكبير في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق، وغيرها، يجهر به الرجال، وتسر به المرأة، إعلاناً بتعظيم الله (تعالى).
وأما صيغة التكبير فلم يثبت فيها شيء مرفوع، وأصح ما ورد فيه: قول سلمان: (كبروا الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً). وهناك صيغ وصفات أخرى واردة عن الصحابة والتابعين [12] .
والتكبير صار عند بعض الناس من السنن المهجورة، وهي فرصة لكسب الأجر بإحياء هذه السنة، قال: (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً) [13] . وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما [14]. والمراد: يتذكر الناس التكبير، فيكبرون بسبب تكبيرهما، والله أعلم.
والتكبير الجماعي بصوت واحد متوافق، أو تكبير شخص ترد خلفه مجموعة: من البدع التي ينبغي على المسلم الحريص على اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتنابها والبعد عنها، أما الجاهل بصفة التكبير فيجوز تلقينه حتى يتعلم، فإن قيل: إن التكبير الجماعي سبب لإحياء هذه السنة، فإنه يجاب عليه: بأن الجهر بالتكبير إحياء للسنة، دون أن يكون جماعيًّا، ومن أراد فعل السنة، فإنه لا ينتظر فعل الناس لها، بل يكون أول الناس مبادرة إليها، ليقتدي به غيره.
السابع: الصيام: عن حفصة (رضي الله عنها) قالت: (أربع لم يكن يدعهن النبي -صلى الله عليه وسلم-: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة) [15]. والمقصود: صيام التسع أو بعضها ؛ لأن العيد لا يصام، وأما ما اشتهر عند العوام ولا سيما النساء من صيام ثلاث الحجة، يقصدون بها اليوم السابع والثامن والتاسع، فهذا التخصيص لا أصل له.
الثامن: الأضحية: وهي سنة مؤكدة في حق الموسر، وقال بعضهم كابن تيمية بوجوبها [16] ، وقد أمر الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فيدخل في الآية صلاة العيد، ونحر الأضاحي، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحافظ عليها، قال ابن عمر (رضي الله عنهما): أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة عشر سنين يضحي [17] .
التاسع: صلاة العيد: وهي متأكدة جدًّا، والقول بوجوبها قوي [18] فينبغي حضورها، وسماع الخطبة، وتدبر الحكمة من شرعية هذا العيد، وأنه يوم شكر وعمل صالح.
يوم عرفة: وقد زاد هذا اليوم فضلاً ومزية على غيره، فاستحق أن يخص بحديث مستقل يكشف عن أوجه تفضيله وتشريفه، ومن تلك الأوجه ما يلي:
(1) انظر: (مجالس عشر ذي الحجة) للشيخ / عبد الله بن صالح الفوزان.
(2) تفسير ابن كثير، ج4 ص505.
(3) أخرجه البخاري، ح/969، و الترمذي، ح/757، واللفظ له.
(4) أخرجه أحمد، ج2ص75، 132، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(5) فتح الباري، ج2ص534.
(6) انظر: المصدر السابق.
(7) انظر: مدارج السالكين، ج1 ص316، 317.
(8) أخرجه البخاري، ح/6502.
(9) فتح الباري، ج11 ص351.
(10) صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق.
(11) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج24 ص225.
(12) فتح الباري، ج2 ص536، وقال الحافظ: (وقد أحدث في هذا الزمان زيادة لا أصل لها).
(13) أخرجه ابن ماجة، ح/209، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة، ح/ 173.
(14) البخاري، كتاب العيدين، باب العمل في أيام التشريق.
(15) انظر: المسند، ج6 ص287.
(16) انظر: مجموع الفتاوى، ج23 ص162، 164.
(17) المسند، ج2 ص38، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، والترمذي، ح/1559، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ح/261.
(18) انظر: الفتاوى، ج23 ص161.
______________________________________
الكاتب: عبد الحكيم بن محمد بلال