صوموا تصحوا

خلق الله تعالى الأيام والشهور، واصطفى من بينها شهر رمضان الذي فضّله على باقي شهور العام، وجعل منه موسمًا للرحمات، التي تشع منها أنوار الإيمان ونفحاته.

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
صوموا تصحوا

خلق الله تعالى الأيام والشهور، واصطفى من بينها شهر رمضان الذي فضّله على باقي شهور العام، وجعل منه موسمًا للرحمات، التي تشع منها أنوار الإيمان ونفحاته.

 

وشهر رمضان هو الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان. وهو الشهر الذي فرض الله صيامه على المسلمين، وجعل ذلك ركنًا من أركان هذا الدين. وفيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد الشياطين. وفيه ينادي المنادي: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أدبر).

 

ومَن عَرف دلالات هذا الشهر، وفهم غاياته النبيلة، خلع نفسه، وجرّد جسدَه خلاله من قيود الحياة المادية المظلمة، منطلقًا نحو أفق سامٍ، وحياة روحية ملؤها ضياء الطاعة، ونور اليقين.

 

ويستمر الصائم على تلك الوتيرة المباركة حينًا من الدهر، إلى أن تـختم أيام الشهر الفضيل، وقد قضاها المؤمن بين صيام وقيام وذكر وطاعات، فإذا به يخرج بروح نقية، ونفس زكية، وقبل ذلك كلّه بذنب مغفور.

 

وقد أدرك السلف الصالح ما لصيام رمضان من فوائد جليلة، ظهرتْ ثمارها اليانعة في روح مَن صامه وجسدِه ونفْسِه على حد سواء. يقول ابن القيم رحمه الله: (الصوم جُـنّة من أدواء الروح والقلب والبدن، منافعه تفوت الإحصاء، وله تأثير عجيب في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ثم إن فيه من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها، وهو يدخل في الأدوية الروحانية والطبيعية، وإذا راعى الصائم فيه ما ينبغي مراعاته طبعًا وشرعًا عظم انتفاع قلبه وبدنه به، وحبس عنه المواد الغربية الفاسدة التي هو مستعدّ لها، وأزال المواد الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه).

 

وقد أثبت العلم الحديث أنّ شرائع الإسلام، وتوجيهات الشارع الحكيم لم تأتِ إلا بما فيه خير الإنسانية، وسعادة البشرية، وصلاح النفس والجسد. فالمولى لم يفرض من فريضة، وما نهى عن شيء، إلا لحكمة بالغة أقرتْها نتائج الدراسات المستفيضة التي ما برحتْ تكتشف ذلك بين حين وحين.

 

وتعمّ فوائد الصوم الصحية جميع أجرام الجسد، ولا يكاد يُحرم منها جهاز من أجهزة الجسم أو نسيج. وهذه العبادة الجليلة راحة سنوية تنالها أعضاء الجسم المختلفة، وتستجمّ خلالها بعد عناء طويل قدّمتْ خلاله خدمات جليلة، واستحقّت أن تستعيد بعدها نشاطها من جديد.

 

والمدهش في الأمر الذي يدلّنا على عظيم فعْل الصيام في صحة أجسامنا، ما اكتشفه علماء الطبيعة من أنّ الإنسان ليس هو المخلوق الوحيد الذي يصوم. بل إنّ جميع الكائنات الحية تمرّ بفترة صوم اختياريّ مهما توافر لها من عناصر الغذاء في الطبيعة من حولها. ومن الحيوانات ما يسكن في جحره أيامًا بل شهورًا متوالية، يمتنع فيها عن الحركة والأكل. ومن الطيور ما يكمن في عشّه، ويمتنع عن الطعام في مواسم معينة في كلّ عام. ويدفن بعض الأسماك نفسه في قاع المحيط أو قاع النهر فترة معينة بدون أكل. ومن الثابت الملاحظ أنّ هذه المخلوقات تخرج من فترة الصيام هذه أكثر نشاطًا وحيوية، كما تزداد نموًا وصحة.

 

وفي أثناء الصوم تحدث تفاعلات كيميائية يشهدها مسرح جسم الكائن الحي. وأهمها تنشيط عملية الهدم الفسيولوجي Catabolism التي يتخلص فيها الجسم من الخلايا الهرمة والمريضة وما يظهر في أنسجته من مواد سامة نتجتْ عن فائض الغذاء وتخزنتْ فيه. ويقوم الصوم في هذه الحالة مقام مشرط الجراح الذي يزيل النسيج التالف أو الضعيف من كلّ عضو مريض، فيعطيه بذلك فرصة يستردّ خلالها حيويته ونشاطه، في سلسلة من الأحداث التي تجعل الصوم وسيلة مضمونة النتائج لتطهير الجسم مما يظهر فيه من بؤر فاسدة تنمو فيها الميكروبات والأحياء الدقيقة التي لن تجد ما تقتاته من غذاء، فتجوع وتموت وتتحلل وينزاح ضررها عن أجسامنا.

 

ثم تأتي بعد ذلك فترة الأكل عقب نهاية الصوم، فتنشط عملية البناء الفسيولوجي Anabolism، التي تتكوّن فيها خلايا فتية وجديدة، وتلك الخلايا أمهر وظيفيًا، ولها دور ثابت في زيادة نمو الجسم ونشاطه الذهني.

 

والصيام خير معين على راحة الجهاز الهضمي وغدده المفرزة التي تعمل ليل نهار طيلة أيام السنة، ولا تنال حظها من الراحة والاستجمام إلا من خلال الصوم. وهو أيضًا أفضل علاج للبدانة، ولا سيما إن صاحب ذلك اعتدال في الطعام عقب الإفطار وقبل الإمساك.

 

وكثيرًا ما يصرّح مَن اعتاد صيام الفريضة والنوافل عن تخلصهم من أعراض الجهاز الهضمي المزعجة التي لازمتهم قبل صومهم، ككثرة التجشؤ Bleching، والشكوى من ظهور غازات البطن، والإصابة بعسر الهضم والتخمة.

 

ولقلب الصائم نصيب كبير من فوائده الصحية، إذ يؤدي الصوم إلى خفض نسبة دهون الدم والشحوم والكولسترول، وفي ذلك وقاية وعلاج من أمراض القلب المختلفة، وتقليل من احتمال تكون الجلطات. ومن جانب آخر يقلّ نبض القلب في أثناء الصيام، وكذلك ينخفض ضغط الدم، وكلّها عوامل تسهم في منح القلب قسطًا من الراحة، تقلّ فيه أعباء عمله التي أثقلتْ كاهله حينًا من الدهر قبل الصيام.

 

وتنال مفاصل الجسم كذلك نصيبها من فوائد الصيام الذي يقيها من العديد من الأمراض، ويأتي خفض حامض اليوريك Uric acid في رأس قائمتها، ويؤدي ذلك إلى الوقاية من الإصابة بداء النقرس Gout، وتخفيف حدة أعراضه.

 

وينشـّط الصوم كذلك جهازَ غدد الجسم، إذ يخفض الامتناع عن الطعام والشراب سكرَ الدم، فيرسل الدماغ نتيجة ذلك رسائل إلى الغدد الصماء، مستمدًا منها العون والمدد في إيجاد حلّ لما نزل في الجسم من طارئ، فتقوم الغدد الكظرية Adrenal والدرقية Thyroid والبنكرياس Pancreas بإفراز هرمونات خاصة، تحوّل السكر المعقد المخزن في العضلات والكبد، إلى سكر سهل الامتصاص، يتحرر فيمنح الجسم حاجته من الطاقة، فإذا استهلكتْ طاقة السكر تلك، عمد الجسم بعدها إلى مخزون الدهون، فيهدمها محررًا طاقتها الكامنة.

 

وفي الصوم كذلك وقاية من داء السكر. وحقيقة ذلك أنّ الصوم يؤدي إلى انخفاض سكر الدم، وهذا يتبعه قلة إفراز غدة البنكرياس لهرمون الإنسولين، مما يعني نيل البنكرياس قسطًا وافرًا من الراحة، يتوقف في أثنائه عن العمل، فيزيد هذا من نشاطه وحيويته. أما الإعراض عن الصيام فيؤدي إلى ارتفاع دائم ومستمر في سكر الدم، وهذا يرهق البنكرياس ويحمّله ما لا طاقة له بحمله من إفراز الإنسولين، فيصل الأمر في نهاية المطاف إلى إرهاق هذه الغدة وتوقفها عن ضخ الإنسولين في الدم، وبالتالي الإصابة بالداء السكري.

 

وتفيد نتائج البحوث والدراسات إلى أنّ للصوم تأثيرًا واضحًا في صحة الجلد. إذ يسهم الامتناع عن الطعام والشراب في قلة وصول الماء نحو الجلد، مما يخفض من نسبة رطوبته، وهو سببٌ لظهور قائمة طويلة من الفوائد التي يذكر منها: تنقية البشرة مما اعتراها من البثور وداء حب الشباب Acne، وتقليل حدة ما ينتجه الجلد من المفرزات الدهنية، وزيادة سرعة التئام ما يظهر في الجلد من جروح وتقرحات Ulcers، وتخفيف مظاهر الحساسية الجلدية، ورفع مقاومة الجلد تجاه نمو الميكروبات وتكاثرها. ونتاج ذلك كله أن يبدو جلد الصائم أكثر صحة ونضارة وحيوية، ويمنحه وقاية تجاه ما قد يصيبه من أمراض.

 

ومن فوائد الصوم الصحية التي لا تخفى على ذي بصيرة، أنه الفرصة الأمثل للتخلص من العادات الضارة والمحرمة، كتعاطي الخمر والدخان والمخدرات. فالصيام كفيل بتقليل تركيز تلك المواد السامة في الدم تدريجيًا، حتى تصل مع مرور الوقت إلى مرحلة يتطهّر فيها الجهاز العصبي، ويتخلّص من تأثيرها، وهذا ما يأمله المدمنون الذين يسعون بصدق إلى الخلاص من تلكم القيود التي أدمت معاصمهم، وهدمتْ صحتهم.

 

وكما يفيد الصوم جسم الإنسان، فإنه يعزز صحته النفْسية كذلك، وهذا واضح ملموس، إذ تتحسّن قوى الصائم العقلية والفكرية، وتقوى ذاكرته، ويسمو بقوى روحية، كالعاطفة والمودة والرحمة والصفاء النفسي.

 

وحتى تستفيد أجسامنا من عملية الصوم، وحتى تتحقق الفائدة المرجوة، فإنه لا بد لنا من التزام آداب الطعام، وسنن الإفطار، والتقيد بعناصر المنظومة المتكاملة التي أتت بها تعاليم الإسلام. فأيّ فائدة ترجى إن تحوّل هذا الشهر الفضيل إلى شهر مآدب سخية، تحضّر لها الأسرة بما لذ وطاب من مآكل ومشارب، منتظرة فيها مدفع الإفطار، الذي يعقبه هجوم على المائدة، وحرص على ملء المعدة وحشوها، بغية تعويض ساعات الحرمان. وليت القوم يدركون كبر جنايتهم تلك على أنفسهم وصحة أجسامهم، وتالله فإنها صورة مؤسفة، وليست من غايات الصيام وأهدافه النبيلة في شيء.

 

كلّ ما ذكر آنفًا - مع كثير غيره لا يتسع المجال لذكره -، دَفَع الغرب إلى الاعتراف بفضل الصوم وفوائده التي لا حدود لها. وها هي تعليقاتهم تنشر على الملأ، وقد ملأتْ كتبهم ونشراتهم. ومن ذلك قول أحد أشهر المعمّرين (ميشيل أنجلو) عندما سئل عن سر صحته الجيدة، وتمتعه بنشاط ملحوظ بعد تجاوزه الستين، إذ أجاب: (إنني أعزو احتفاظي بالصحة والقوة والنشاط في سنوات كهولتي إلى أنني أمارس الصوم بين حين وآخر، ففي كلّ عام أصوم شهرًا، وفي كل شهر أصوم أسبوعًا، وفي كل أسبوع أصوم يومًا).

 

وها هو الدكتور الأمريكي (بندكت) يصرّح قائلًا:( يخطئ من يعتقد أنّ الإنسان لا يتغذى إذا امتنع عن الطعام، لأنّ الجسد يظل يأكل رغم الصوم، وأول ما يأكله الجسد هو هذه المواد الضارة السامة التي توجد داخل الجسم، أي أن جسد الإنسان سيأكل نفسه، وأول ما يأكله هو هذه المواد الدهنية. وهذا يؤدي إلى انخفاض كمية الدهن والشحم الموجودة حول القلب والأحشاء الأخرى. والشيء المذهل حقًا أنّ الجسد عندما يأكل نفسه فإنّ العناية الإلهية الكبيرة تجعل هذا التآكل لا يطبّق إلا على المواد الضارة السامة غير الضرورية).

 

إنّ حديثنا حول فوائد الصيام من منظور صحي لا شك يطول، والأمر أكبر من أن نحصر فوائده في وريقات، فذاك لا يفيه حقه. وأختم بحمد الله الذي منّ علينا بنعمة الإسلام، التي شرعتْ لنا فرائض وعبادات كان في الالتزام بها صلاح دنيانا وآخرتنا.

_______________________________
الكاتب: د. حذيفة أحمد الخراط