علمتني صحابية
إيمان الخولي
لنعبد الله على مراد الله في كل شيء، وليس على مراد أهوائنا.فإن مَن أراد دين الله على مُراد الله وصدق في ذلك، وفقه الله تعالى عزّ وجلّ.
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
إنها أم شريك الدوسية... قد لا يعلم عنها الكثير، لكن الله هو أعلم بعملها منا، فهي من قبيلة دوس التي كانت تعبد صنمًا تسميه باسم (ذي الخلصة)، وهي زوجة أبي العكر، وهو أحد الذين أسلموا على يد الطفيل بن عمرو، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقيت زوجته في داره، وكانت قد أسلمت معه، ودفعت ثمن إسلامها بكل إيمان واحتساب وصبر.
* ولندعها تحكي قصتها مع أهلها...
تقول أم شريك: فجاءني أهل زوجي، فقالوا: لعلك على دينه...؟
قلت: أي والله، إني لَعلى دينه، قالوا: لا جرم والله لنعذبنك عذابًا شديدًا.
فارتحلوا بنا من دارنا، وساروا يريدون منزلًا، وحملوني على جمل ثقال شر ركابهم وأغلظهم، يطعموني الخبز بالعسل، ولا يسقوني قطرة ماء، حتى انتصف النهار، وسخنت الشمس، فنزلوا فضربوا أخبيتهم، وتركوني في الشمس حتى ذهب عقلي وسمعي وبصري، وفعلوا ذلك بي ثلاثة أيام.
فقالوا لي في اليوم الثالث: اتركي ما أنت عليه.
قالت: فما دريت ما يقولون إلا كلمة بعد كلمة، فأشير بأصبعي إلى السماء بالتوحيد، قالت: فما زلت على ذلك حتى وجدت برد دلو على صدري، فأخذته وشربت منه نفسًا واحدًا، ثم انتزع مني، فذهبت أنظر إليه، فإذا به معلق بين السماء والأرض، فلم أقدر عليه، ثم دلي إليّ ثانية، فشربت منه نفسًا، ثم رفع، ثم دلي إليّ ثالثة، فشربت منه حتى رويت وأهرقت على رأسي ووجهي وثيابي، قالت: فخرجوا فنظروا.
فقالوا: من أين لك هذا يا عدوة الله؟
قالت: أما هذا فمن عند الله رزق رزقنيه الله.
قالت: فانطلقوا سراعًا إلى قربهم، فوجدوها كما هي لم تحل، فقالوا: نشهد أن ربك هو ربك، وأن الذي رزقك ما رزقك في هذا الموضوع بعد أن فعلنا بك ما فعلنا هو الذي شرع الإسلام.
* علمتني هذه المرأة البسيطة _التي لا تعلم عن الإسلام شيئًا سوى الشهادة ولكنها وعت قيمة الإسلام_ أن ديني يستحق مني الكثير، وعلمتني أن أثبت على الإيمان الحق، وأنه علينا جميعًا أن ندافع عنه.
أمّا الآن... فإننا نرى مَن يبرأ من هذا الدين، ويثير الشبهات حول ثوابت الدين، وينكر أمورًا هي في الأصل فرض على المسلمين، كالحجاب والزكاة...
* علمتني أن الأخلاق فى التعامل مع الناس خير من ألف كلمة، كأنْ نتمسسك بالحجاب، وأن نثق في نصر الله، فقد كان تمسك أم شريك بدينها أمام الإيذاء الشديد هو سبب في دخول أهلها الإسلام، فقد كانت سببًا في حبهم لله ولدين الله.
كذلك علينا ألّا نتحوّل إلى أداة أو وسيلة لبُعد الناس عن الدين والالتزام بطاعة الله تعالى.
فلنصبر على الإيذاء في سبيل الله، حتى يصل هذا الدين للناس ويسعدوا به ويذوقوا جمال وعذوبة التحلي بما شرعه الله لعباده.
فكل فتاة ملتزمة بأوامر الله، ترجو للفتيات كلهن أن يتذوقن ما ذاقته وسعدت به.
* علمتني أنه مَن صبر على الطاعة واحتسب لله الأجر، جند الله له جنودًا يخففون عنه ويقضون له حوائجه ورزقه من حيث لا يحتسب، كما يرزق أولياءه المخلصين.
فاطمئني يا مَن صبرت على دينك وأوذيت فى سبيل الله، فأنت بعين الله، يحفظك في جوارحك ويسقيك من برد لطفه ورحمته، ولكن اصبري ولا تتراجعي عن طاعة التزمت بها لله.
والآن لننتقل إلى صحابية أخرى... الأم الصابرة...
* إنها الخنساء... الشاعرة المعروفة، هي تماضر بنت عمرو بن الحارث السلمية، وسبب هذا اللقب هو قصر أنفها وارتفاع أرنبتيه.
عُرفت بحرية الرأي وقوة الشخصية، واشتهرت بين الشعراء برثائها لأخويها صخر ومعاوية، والتي ظلت تبكيهما حتى عصر عمر بن الخطاب.
عاشت معظم عمرها في الجاهلية، إلى أن جاءت إلى رسول صلى الله عليه وسلم مع قومها، فأعلنوا إسلامهم.
وها هي نفسها الخنساء بعد الإسلام تحثّ أولادها على الجهاد والموت في سبيل الله، عندما نادى مناد الجهاد، جمعتهم ووعظتهم موعظة، قالت لهم:
"أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الغالية. يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران 200] ، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين بالله على أعدائه...".
فقاتلوا جميعًا، حتى استشهدوا، فبلغ ذلك الخنساء، فقالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلكم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
تأمل معي...
ما الذي تغير في هذه المرأة؟
فقد علمتنا درسًا، أنه عندما يملأ الإيمان القلب، فإنه يغير مفاهيم الصبر والموت والحياة.
نعم... إنه الإيمان الذي ينقل الإنسان من حالة اليأس والقنوط إلى حالة التفاؤل واليقين، ومن حالة القلق والاضطراب إلى حالة الطمأنينة والاستقرار، هذا التغير الذي يجعل الإنسان يتخطى المحن ويصل باليقين إلى رضا الله الذي هو أسمى هدف يصل إليه المسلم.
كما علمتني...
كيف تربي المسلمة الحق الصادقة في إيمانها أبناءها، فقد غرست فيهم حب الجهاد والشهادة، وهذه تضحية كبيرة، حيث تقدم الأم أعزّ ما تملك لله.
فأين أمهات المسلمين اليوم من هذه المرأة الصابرة المحتسبة؟
أين مَن فقدن أولادهن ليتعلمن الصبر واحتساب الأمر من هذه الصحابية؟
وأين الأم الواعية التي تدفع بابنها إلى الخير، وحضور مجالس العلم، والصلاة في السجد، واتباع كتاب الله؟
وأين الأم من تربية أبنائها على أخلاق مَن صلح من المسلمين الذين أناروا الطريق أمام الكثير، ونالوا شرف اتباع دين الحق في الدنيا بإخلاص؟
كانت الخنساء أُمًّا عاشت لتصنع رجلًا بأمة، رجلًا له قضية يعيش ويضحي لها، وحاله ليست كحال الكثير من أبناء الأمة الذين غُرسوا في التفاهات، والفتن مع الفتيات، للأسف... إننا نجد جيلًا قد خرج إلى الدنيا بلا هوية، ولا يحمل أي انتماء لدينه، جيلًا يأخذ ثقافته من الغرب، بما في ذلك من عادات وتقاليد لا تناسب هويتنا وقيمنا، فيضلّ وتتلاشى شخصيته، ولا يدري أن عزه في تمسكه بدينه، وليس الفرار منه.
* علينا أن نتقي الله في أولادنا، فنحن في حدِّ ذاتنا أمانة، ودورنا أمانة، وأولادنا أمانة بين أيدينا، فنحن لم نُخلق وهُم لم يُخلقوا عبثًا، ولكننا جميعًا خُلقنا؛ لنعبد الله على مراد الله في كل شيء، وليس على مراد أهوائنا.فإن مَن أراد دين الله على مُراد الله وصدق في ذلك، وفقه الله تعالى عزّ وجلّ.
إيمان الخولي