إياك أن تعد نقاطًا ....
محمد عزت السعيد
واعلم ...يا صديقي .... أن الأخوة الصافية من كل منفعة، والنقية من كل شائبة، تنمو وتزدهر وتكبر في نفوس أصحابها، ولعلك تجد البذرة التي بذرتها يومًا وقد أثمرت
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
ما أعظم الأخوة في الله تعالى! نعم ... في الله، ولله، لا لغيره ... لا لمنفعة مادية ولا لمصلحة شخصية، لا لغرض أو هدف، وإن كانت -هذه- مع الإخلاص- لا حرج فيها، ففي تعدد النوايا الخير الكثير، والأجر الكبير، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» "
والأخوة الصادقة والمحبة الصافية تمامًا كالماء الصاف إذا خالطته شائبة أو طالته نجاسة لا علاج له إلا سَكْبه، وإن عولج فتكلفته غالية عالية، ولعل الإشارة الربانية واللفتة القرآنية في قوله -تعالى-:" { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} " الحجرات: 10، والتي جاءت حصرًا وقصرًا توضح ذلك، فالمؤمنون ما هم إلا إخوة، تنتفي عنهم صفة الإيمان إذا زالت عنهم أخوتهم.
والذي يقلب صفحات التاريخ يلحظ أن أحد الأسس الثلاثة التي بَنى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته في أيام مهدها الأولى في المدينة المنورة هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فجعل لكل واحد من المهاجرين أخًا له من الأنصار؛ توطيدًا لتلك الروابط وتقوية لهذه الأواصر، حتى إن أحدهم كان يرث الآخر بعد وفاته، وظل هذا التشريع معمولاً به حتى نزلت آيات سورة الأنفال: " { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} " (75)
وللأخوة حقوق وواجبات كثيرة، زخرت بها آيات القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية المطهرة، ولي أن أقف على بعض منها على سبيل المثال والإجمال لا الحصر والتفصيل، ومن هذه النصوص القرآنية قول الله – تعالى-:" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} " [ الحجرات:11]
أي أدب هذا الذي يغرسه القرآن الكريم في نفوس أتباعه؛ يسمو بهم، ويعلو بأخلاقهم، فيجعل لبعضهم على بعض حقوقًا مادية أو معنوية، ظاهرة وباطنة، فلا يحل لأحد منهم التحدث عن أخيه في حضوره أو غيبته بما يكره، أو أن ينال من عرضه أو ماله أو شرفه أو كرامته، بل إن آيات القرآن الكريم تصور من ينال من حق أخيه في غيبته في أبشع صورة وأشنع بيان، قال الله تعالى:" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} " [ الحجرات:12]
أي ما دمتم تكرهون هذا المنظر الشنيع والفعل القبيح فإياكم أن تنالوا من أخوتكم بصغير قول أو كبيره، بقليل فعل أو كثيره، وإلا شملتكم السيئة وأحاطت بكم الخطيئة من كل جانب؛ فاتقوا الله وخافوه؛ واحذروا معصيته وغضبه.
وقد تواردت أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وامتلأت بها كتب السنة، وقد جعل السلف الصالح أبوابًا في كتبهم، خصوها للأخوة وحقوقها، وقد أقف عند بعضها دونما تعليق أو دراسة، فمما ورد في أحاديثه – صلى الله عليه وسلم، ما رواه أبو هريرة «أن الأسلمي ماعزًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشهد على نفسه بالزنى، فرجمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمع النبي رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِم رَجْم الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: (أين فلان وفلان ؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، فقال: انزلا فكلا جيفة هذا الحمار، فقالا: يا نبي الله ومن يأكل هذا؟ قال: فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)»
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيرًا، يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» ". [رواه مسلم] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشمِّتْهُ، وإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] .
وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" «يأَيُّها النَّاسُ، اسمَعوا واعقِلوا، واعلَموا أنَّ للَّهِ عبادًا لَيسوا بأنبياءَ ولا شُهَداءَ، يغبِطُهُمُ النَّبيُّونَ والشُّهداءُ علَى مَنازلِهِم، وقُربِهِم منَ اللَّهِ. فجَثا رجلٌ مِنَ الأعرابِ مِن قاصيةِ النَّاسِ، وأَلوَى بيدِهِ إلى النَّبيِّ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ: ناسٌ منَ النَّاسِ لَيسوا بَأنبياءَ ولا شُهَداءَ، يغبِطُهُمُ الأنبياءُ والشُّهداءُ علَى مجالِسِهِم وقُربِهِم منَ اللَّهِ؟ انعَتهم لَنا..حَلِّهِم لَنا - يعني صِفهُم لَنا فسُرَّ وجهُ النَّبيِّ بِسؤالِ الأعرابيِّ، وقالَ هم ناسٌ من أفناءِ النَّاسِ، ونَوازعِ القبائلِ، لم تصِلْ بينَهُم أرحامٌ متقاربةٌ، تحابُّوا في اللَّهِ وتصافَوا، يضعُ اللَّهُ لَهُم يومَ القيامةِ مَنابرَ من نورٍ، فيَجلِسونَ عَلَيها، فيجعَلُ وجوهَهُم نورًا، وثيابَهُم نورًا، يفزَعُ النَّاسُ يومَ القيامةِ ولا يفزَعونَ، وَهُم أولياءُ اللَّهِ لا خَوفٌ عليهم ولا هُم يَحزَنونَ» "
ولقد حدثني صديقي عن إخوان له يصلهم، ولا يجد منهم وصالاً، يبرهم ولا يرى منهم إلا الجفاء، يهاتفهم ويرسل إليهم جميل الكلمات وعذب العبارات، لكنهم لا يعبؤون بأخوته، ولا يهتمون بحبه لهم.
قلت له يا صديقي: صفاء نفسك وطهارة قلبك وحبك لإخوانك الذي امتلأت به جوانبك، وفاض به صدرك، يجعلك تلتمس لهم العذر بعد العذر، ولا تفقد فيهم الأمل، ولا تركن إلى اليأس من أفعالهم، بل إن قلبك النقي يزداد لهم حبًا ابتغاء مرضاة الله، ويجعلك تبحث عن معينات لهم ليبادلوك هم أيضًا حبًا بحب.
واعلم – يا صديقي- أن لغة القلوب وإشارات العيون تصل سريعًا، وأن عبارات المحب وحروف الود سهلة رقيقة، لكنها قد تسقط مع ازدحام الهموم وتكاثر الشواغل، إلا أنها – وإن تعثرت بها الطرق، وتشعبت بها السبل تصل لا محالة، ويكفي أن ما يخرج من القلب يصل إلى القلب لا محالة.
يا صديقي ... جرب أن تبوح لهم بحبك صراحة، والتمس هدي صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –ففي حديث أنس – رضي الله عنه «- أن رجلاً كان عند النبي ﷺ فمر رجل به فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي ﷺ: أأعلمتَه؟ قال: لا، قال: أعلِمْه، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له"» [رواه أبو داود بإسناد صحيح] .
وتحَيَّن كل فرصة لتعبر بها عن حبك له، ولا تعُدَّ عليه نقاطًا ومواقفَ جفاك فيها، أو لم يبادلك فيه حبًا بحب، فإنك إن فعلت ازددت منه بعدًا، وتملك الشيطان من ناصيتك، وزرع في نفسك بذور الفرقة، ولا تزال تنمو وتكبر حتى تهجر أخاك وتفارقه، وقد يرضى الشيطان منك بالهين القليل في بادئ الأمر، ثم لا يزال ينمو الجفاء ويكبر حتى تفقد أخاك.
واعلم ...يا صديقي .... أن الأخوة الصافية من كل منفعة، والنقية من كل شائبة، تنمو وتزدهر وتكبر في نفوس أصحابها، ولعلك تجد البذرة التي بذرتها يومًا وقد أثمرت، والشجرة التي غرستها وقد أورقت، ولا أجمل من التغافل في الله والحب فيه، قال تعالى: " { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} " [ آل عمران: 103] ، وما أجمل مقالة الإمام علي – رضي الله عنه- حينما حضرت الوافاة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حيث قال: وُضِعَ عُمَرُ علَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ، يَدْعُونَ ويُصَلُّونَ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ وأَنَا فيهم، فَلَمْ يَرُعْنِي إلَّا رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ فَتَرَحَّمَ علَى عُمَرَ، وقَالَ: ما خَلَّفْتَ أحَدًا أحَبَّ إلَيَّ أنْ ألْقَى اللَّهَ بمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وايْمُ اللَّهِ إنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مع صَاحِبَيْكَ، وحَسِبْتُ إنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أسْمَعُ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يقولُ: ذَهَبْتُ أنَا وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، ودَخَلْتُ أنَا وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وخَرَجْتُ أنَا وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ.