وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
الله تعالى قد اشترط للعلوّ والغلبة، وزوالِ الضّعف والفتور عن الأمّة، شرطا مُهمّا وهو الإيمانُ الرّاسخ القوي بالله تعالى، الذي هو أصلُ كلّ خيرٍ وأساسُ كلّ نجاحٍ؛ حيثُ إنه يحيي القلوب والأبدان، ويمنحُها قوّة داخلية تمنعه عن الهزيمة النفسية والانقياد للوهن والاستكانة.
- التصنيفات: تزكية النفس - أعمال القلوب -
قال أهلُ التفسير في قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]: نزلت هذه الآية الكريمة تسليةً وتعزيةً لأصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم، وجبراً لخواطرهم وقلوبهم على ما أصابهم من القَتل والجراح في غزوة أحُد في السنّة الثالثة من الهجرة النّبوية، فينْهاهم ربّهم عن الوهن والحزن، ويُقوّي عزيمتهم، ويشجّع حماسهم على طلب العدوّ بقوله: {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي أنتم الظاهرون على أعدائكم، ولكم العقبى والظفر، والنّصر والتمكين، وأنتم الأعلون في الإيمان، ورجاءِ نصر الله وثوابه، والأعلون قدراً ومنزلةً ومكانةً عند الله.
(جامعُ البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، تحقيق د. بشار عوّاد معروف، ط، مؤسسة الرسالة بيروت، 1415هـ ج 2 ص: 333، تيسيرُ الكريم الرحمن، للسعدي، ط، دار ابن الجوزي، السعودية، 1440هـ، ص: 146)
وأشارَ الإمامُ القرطبي رحمهُ الله إلى نكتة نفيسة، فقال:
(وفي الآية بيانُ فضل هذه الأمّة؛ لأنّه خَاطبهم بما خاطبَ به أنبياءه؛ فقال لموسى: {إنك أنت الأعلى} [طه: 68]، وقال لهذه الأمة: {وأنتم الأعلون} وهذه اللفظة مشتقّة من اسمه (الأعلى) فهو سبحانه (العليُّ) وقال للمؤمنين: وأنتم الأعلون).
(الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، تحقيق د. عبد الله عبد المحسن التركي، ط، مؤسسة الرسالة، بيروت 1427هـ ج 5 ص:334)
والمتأملّ في الآية الكريمةِ يدركُ أنّ الله تعالى قد اشترط للعلوّ والغلبة، وزوالِ الضّعف والفتور عن الأمّة، شرطا مُهمّا وهو الإيمانُ الرّاسخ القوي بالله تعالى، الذي هو أصلُ كلّ خيرٍ وأساسُ كلّ نجاحٍ؛ حيثُ إنه يحيي القلوب والأبدان، ويمنحُها قوّة داخلية عظيمة تمنعه عن الهزيمة النفسية والانقياد للوهن والاستكانة.
والإيمان مصدر لسعة الرزق، ونزول البركة، والرفعة والعزّة، وموجبٌ لحفظ الله ورعايته الخاصة للعبد: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] فهو يدافِعُ عنهم، ويدفع عنْهم كلّ شرّ، و(المؤمنُ عزيزٌ غالبٌ مؤيّد منصورٌ مكفي مدفوع عنه بالذات أينَ كان ولو اجتمعَ عليه مَنْ بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهرا وباطنا)، كما قال ابن القيم رحمه الله.
والإيمان يثمر للعبد للراحة النفسية والطمأنينة ومحبّة الله تعالى، والرزق الحسن، واللسان الصادق، والذكر الجميل، والحياة الطيبة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} [مريم: 96].
والمؤمن الصادق كُتب له العلوّ والرفعة والنصر والسيادة في الحياة وفي الممات بحسب إيمانه، وهذا العلّو يشملُ أشياء كثيرة:
فمنها العلُوّ في الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وعلُوّ في الدين: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وعلُوّ في الرسالة والنبوة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبا: 28].
وعلُوّ في الكتاب: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصّلت:41].
وعلُوّ في القبلة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [البقرة: 144].
وعلُوّ في المنهج: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 96].
وعلُوّ بالتمكين في الأرض: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[النور:55].
أعزّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلا *** وأكرم من فوق التراب ولا فخر.
شمعة أخيرة:
قال ابن القيِّم: للعبد من العُلُوِّ والعِزَّة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظٌّ منهما، ففي مُقَابَلة ما فاته من حقائق الإيمان، علمًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا"
(باختصار من إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، ط، دار المعرفة، بيروت 1395، ج 2 ص: 181).
____________________________________
الكاتب: د. سعد الله المحمدي