آداب الاعتكاف

والاعتكاف المطلوب اليوم ليس الاعتكاف الذي يجعل من المساجد مهاجع للنائمين، ومجالس للمتزاورين، وموائد للأكل، وحلقات للضحك، ومرتعًا لفضول الكلام؛ فهذا اعتكاف لا يزيد صاحبَه إلا قسوةً في القلب، وبعدًا عن الله.

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
آداب الاعتكاف

قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].

 

الاعتكاف مغسلة روحية، يجعلها الله سبحانه لعباده الصائمين؛ ليغسلوا فيها أرواحهم، ولتتطهر قلوبهم، فيحصل لهم القربُ من الله تعالى.

 

والاعتكاف هو زيارة الله في بيته، والانقطاع إليه، وحقٌّ على المزور أن يكرم زائره؛ لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشرةَ أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا.

 

♦ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (وشرع لهم الاعتكاف، الذي مقصوده وروحه عكوفُ القلب على الله تعالى وجمعيَّتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه؛ بحيث يصير ذِكرُه وحبُّه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كلُّه به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أُنسُه بالله بدلًا عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم)[1].

 

♦ والاعتكاف المطلوب اليوم ليس الاعتكاف الذي يجعل من المساجد مهاجع للنائمين، ومجالس للمتزاورين، وموائد للأكل، وحلقات للضحك، ومرتعًا لفضول الكلام؛ فهذا اعتكاف لا يزيد صاحبَه إلا قسوةً في القلب، وبعدًا عن الله.

 

♦ أما الاعتكاف المنشود، فهو الذي تسيل به دموع الخاشعين، وترق به قلوب المشفقين، وترفع فيه أكُفُّ المتضرعين.. إنه الاعتكاف الذي لا يعرف منه لحظة في غير طاعة؛ ليكون بذلك علاجًا فعَّالًا لثلاثة أمراض تُعَدُّ من أهم علامات موت القلب، وهي التي أشار إليها (ذو النون) في قوله: (ثلاثة من علامات موت القلب: الأنس مع الخلق، والوحشة في الخلوة مع الله، وافتقاد حلاوة الذكر)[2].

 

ولكي يحقِّق الاعتكاف هذه المنافعَ الروحية، فإن هناك أمورًا ينبغي للمعتكف أن يفعلها:

1- أن يحرص على عدم كثرة الخروج من المسجد إلا لحاجة ضرورية؛ فقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله ليُدخل إليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجِّلُه، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفًا".

 

ولذلك رأى كثير من أهل العلم ألا يخرُج من المعتكف إلا لحاجة ضرورية، إلى أن يخرج يوم العيد؛ ليشهد الفطر مع الناس.

 

ويرى بعض العلماء جواز الخروج لعيادة المريض واتباع الجنازة، إن كان يخشى فوات مصلحة شرعية بعدم الخروج، وقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خرج من معتكفه لينقلب بأهله إلى بيته، فإنه من باب أولى أن يخرج لمثل هذه الحاجات الشرعية، حتى ولو كانت هذه الحاجة لقضاء حاجة ضرورية لأحد من الناس، كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما حين خرج من اعتكافه ليقضي حاجة مسلم.

 

♦ ولكن الأولى بالمسلم إذا دخل معتكفه وكان في نيَّتِه أن يخرج لبعض الحاجات - أن يشترط ذلك؛ كمن يخرج إلى عمله، أو بعض أشغاله الضرورية، فلا بأس بذلك، على أن يشترط ذلك عند اعتكافه، أما أكمل الأحوال فهو أن يكون اعتكافه كاملًا.

 

2- اعتزال مجالس الأنس والسمر، فلا يكون الاعتكاف سببًا في اجتماع الناس وأخذهم في أطراف الحديث، وضياع الأوقات في كلام لا يفيد، أو تضييع الوقت في طول المنام؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يأمر بخباء فيضرب له، فيدخله بعد صلاة الصبح، يبقى فيه حتى يخرج لصلاة العيد. وذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكِف لا يُستحب له مخالطة الناس، حتى ولو لتعليم علم وقراءة القرآن؛ بل الأفضل له الانفراد بنفسه، والخلوة بربِّه.

 

3- تحرِّي ليلة القدر، والسعي الجاد للحصول على ثوابها: من أعظم ما يفعله المعتكِف أن يتحرى هذه الليلة حتى يحصل على أجرها؛ فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تَقدَّم من ذنبه».

 

وبتحقيق هذه الآداب، والأخذ بهذه الأسرار، يكون الاعتكاف مغسلة روحية، يخرُج العبدُ منها أنقى ما يكون من الذنوب، وأصفى قلبًا، يستقبل الحياة بروح جديدة، ويستأنف العمل على نور من ربه؛ ليكون المعتكف أهلًا لحمل الرسالة، والقيام بها، والدعوة إليها، فإذا ما نادى منادي الحق إلى الجهاد بالمال أو النفس أو اللسان، كان أسبقَ الناسِ إلى الميدان، وأصدق الناس في التضحية والبذل.

 

ليصدق فيهم قول القائل:

يُحْـيُــونَ ليـلَهــمُ بطـاعـة ربِّهم   ***   بتـلاوةٍ وتـضرُّعٍ وســــؤالِ 

في الليل رهبانٌ وعند جهادهم   ***   لعدوِّهم من أشجع الأبطالِ 

 

 


[1] زاد المعاد، ابن القيم، 2 /82.

[2] من الطارق، خالد أبو شادي.

__________________________________________________
 

الكاتب: عصام محمد فهيم جمعة