ليلة القدر
ليلة القدر ليلةٌ يُفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويُسمَع الخطاب، ويُرد الجواب، ويكتب للعاملين المخلصين فيها عظيم الأجر والثواب.
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5].
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجَّلها الوجود كلُّه في فرح وغبطة وابتهال.. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى، ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرضُ مِثلَه في عظمته وفي دلالته وفي آثاره في حياة البشرية جميعًا.
وليلة القدر ليلةٌ يُفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويُسمَع الخطاب، ويُرد الجواب، ويكتب للعاملين المخلصين فيها عظيم الأجر والثواب.
ذكر الواحدي أن سورة القدر هي أول سورة نزلت بالمدينة بعد أنْ هاجر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت خير هدية تعطى لهؤلاء الذين باعوا المال والولد والنفس بتجارة لن تبور، وثمن لن يستطيع حاسبٌ إحصاءَ مقداره.
قال عروة: ذكَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل عبَدوا الله ثمانين سنة، ولم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع بن نون، فعجب أصحابه من ذلك، فأتاه جبريل، فقال: يا محمد، عجبت من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين؟ فقد أنزل الله عليك خيرًا من ذلك، ثم قرأ سورة القدر، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبب التسمية:
قيل: سميت بذلك لما روي عن ابن عباس وغيره: أنه تعالى يقدِّر فيها ويقضي ما يكون في تلك السَّنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة، إلى مثلها من السَّنة القابلة؛ قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
وليس المراد بدء تقدير هذه الأشياء؛ فقد سبق تقديرها في الأزل، وإنما المراد إظهار تقديره سبحانه ذلك للملائكة الذين يقومون بالتنفيذ.
♦ وقال أبو بكر بن الوراق: سميت بذلك؛ لأن من لم يكن ذا قدر وخطر يصير في هذه الليلة ذا قدر وخطر إذا أدرَكَها وأحياها.
♦ وقيل: لأن كل عمل صالح يوجد فيها من المؤمنين يكون ذا قدر وقيمة عند الله.
♦ وقيل: لأنه ينزل فيها ثلاثة من الملائكة ذوو أقدار.
♦ وقيل: لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، بواسطة ملَك ذي قدر، على رسول ذي قدر، لأمَّة ذات قدر[1].
فضائل ليلة القدر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه» [2].
وعن أبي هريرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه» [3].
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا شهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمها فقد حُرِم الخير كلَّه، ولا يُحرَمُ خيرَها إلا محرومٌ» [4].
ويروي أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت ليلة القدر، نزل جبريل في كوكبة من الملائكة، يصلُّون ويسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى».
ومن فضائل هذه الليلة أنها ليلة سلام؛ أي سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا ولا أذى، كما جاء في الحديث: «إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدًا بخبل ولا شيء من الفساد، ولا ينفذ فيها سِحر ساحر».
زمن ليلة القدر:
اختلف العلماء في توقيت ليلة القدر اختلافًا كثيرًا، حتى لقد ذكر فيها بعضهم خمسة وأربعين قولًا. وفي دليل الفالحين: اختلف فيها على أكثر من أربعين قولًا.
والصحيح المشهور أنها في العَشر الأواخر من رمضان.
فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان.. في تاسعةٍ تَبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى» [5].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَحرَّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»[6].
♦ وكان عمر وحذيفة وابن عباس وناس من أصحاب رسول الله لا يشكُّون أنها ليلة سبع وعشرين.
♦ ونقل عن صاحب التنبيه أنه قال: حروف ليلة القدر تسعة، وقد ذكرها الله تعالى ثلاث مرات، فتُضرب ثلاثة في تسعة، فيبلغ سبعًا عشرين، فدل على أنها في السابعة والعشرين.
♦ ويقول الفخر الرازي: وأخفاها الله تعالى كما أخفى سائر الأشياء؛ فإنه أخفى رضاه في الطاعات؛ حتى يرغب عباده في الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء؛ ليبالغوا في كل الدعوات، فهكذا أخفى هذه الليلة؛ ليعظِّموا جميع ليالي رمضان؛ فإن العبد إذا لم يستبن ليلة القدر أي ليلة هي، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان.
♦ وروي عن كعب أنه قال: إن الله تعالى اختار الساعات، فاختار ساعات أوقات الصلاة، واختار الأيام، فاختار يوم الجمعة، واختار الشهور، فاختار شهر رمضان، واختار الليالي فاختار ليلة القدر؛ فهي أفضل ليلة في أفضل شهر.
القربات في تلك الليلة:
ويُسنُّ الدعاء في هذه الليلة المباركة، وهي أحد أوقات الإجابة، فقد ذكر ابن رجب الحنبلي في كتاب (لطائف المعارف) أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ إن وافقتُ ليلة القدر، ماذا أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».
وقال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحبُّ إليَّ من الصلاة.
وذكر ابن رجب: أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقرآن والدعاء والتفكر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كلَّه.
علامات ليلة القدر:
1- قوة الإضاءة والنور في تلك الليلة، فعن ابن عباس أن رسول الله قال في ليلة القدر: «ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، وتصبح الشمس في صبيحتها ضعيفة حمراء»[7].
وعن عبادة بن الصامت: "من أماراتها أنها ليلة بلجة (مضيئة)، صافية ساكنة، لا حارة ولا باردة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، لا يرمى فيها بنجم حتى الصباح"؛ أي: لا تتساقط الشهب هذه الليلة.
2- أن الشمس تطلع في صيحتها ليس لها شعاع صافية، ليست كعادتها في بقية الأيام، ويدل على ذلك حديث أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه، أنه قال: أخبَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها»[8].
3- طمأنينة القلب وانشراح الصدر، فإن المؤمن يجد راحة في تلك الليلة أكثر مما يجده في بقية الليالي.
4- أن الإنسان يجد للقيام فيها لذَّة أكثر مما في غيرها من الليالي.
5- أنها ليلة مطيرة ندية، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري، قال: "اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأول من رمضان، واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال له: إن الذي تطلب أمامك، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا صبيحة عشرين من رمضان، فقال: «من كان اعتكف معي فليرجع؛ فإني رأيت ليلة القدر، وإني أُنسيتُها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء»، قال أبو سعيد: وكان سقف المسجد جريدًا من النخل، وما نرى في السماء شيئًا، فجاءت قَزَعة، فمطرنا، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهته تصديقَ رؤياه"[9].
_____________________________________________
الكاتب: عصام محمد فهيم جمعة