حنين الفراق

محمد بن سليمان المحيسني

ودَّعنا الشهر العظيم.. والضيف الكريم، ومرت أيامه سريعاً كالطيف أو كالضيف.. انقضت وفي القلب أسى، وفي النفس غصة على فراقه..

  • التصنيفات: الحث على الطاعات -
حنين الفراق

ودَّعنا الشهر العظيم.. والضيف الكريم، ومرت أيامه سريعاً كالطيف أو كالضيف.. انقضت وفي القلب أسى، وفي النفس غصة على فراقه..

 

عشنا في رحابه أحلى الأوقات، وأمتع اللحظات، فما أحلى أن يعيش المرء نهاراً كاملاً، وهو في أداء شعيرة تعبدية متصلة مستغرقة كل لحظات اليوم، طاعة لربه، وامتثالاً لأمره، في رهبانية مقننة مرشدة، لا غلو فيها ولا تفريط...

سَلَامٌ مِنَ الْرَّحْمَنِ كُلَّ أَوَانِ 

                    عَلَى خَيْرِ شَهْرٍ قَدْ مَضَى وَزَمَانِ 

سَلَامٌ عَلَى شَهْرِ الْصِّيَامِ فَإِنَّهُ 

                  أَمَانٌ مِنَ الْرَّحْمَنِ كُلَّ أَمَانِ 

لَئِنْ فَنِيَتْ أَيَّامُكَ الْغُرُّ بَغْتَةً 

                فَمَا الْحُزْنُ مِنْ قَلْبِيْ عَلَيْكَ بِفَانِ 

 

أيها المسلم! إن رب رمضان هو رب شوال، وهو رب كل الشهور والأزمان، وما رمضان إلا محطة للتزود لما بعده من الشهور، يستعان بها لقطع مرحلة من مراحل العمر، إلى أن يصل إليه من أراد الله له الوصول في عام قابل...

 

رمضان محطة للتهذيب والتزكية، ترمم فيه الأرواح والأبدان، يتم فيه إصلاح ما فسد، واستبدال ما تلف.. هو تجديد للطاقة، وشحذ للهمة، وتوثيق للعهد مع رب السموات والأرض، وزيادة للقرب منه.. هو رحمة من الرحيم، ومنة من الكريم، تستحق الشكر والتكبير والتعظيم، على تمامها واستكمال أيامها، والهداية إلى عظيم مقامها... قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]...

 

وإن من يعان على استكمال العدة، وتكبير الله في نهاية المدة، وحيازة فضيلة الشكر على عطية الله ورفده.. حق له أن يدعو فيجاب، وأن يستعين فيعان، وأن يستنصر فينصر، وأن يطلب التوفيق فيوفق..

 

فلقد أصبح قريباً من الجليل الوهاب، وصار من مستحقي مقام من يدعو فيجاب، قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]...

 

وهكذا تبدو منة الله وفضله في هذا التكليف الذي يبدو شاقاً على الأبدان والنفوس، حينما تتجلى فيه الغاية التربوية، ليتم الإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى، وتحوطه رقابة الله، وتغذيه حساسية الضمير.

 

فيا أيها الصائمون في نهار رمضان.. القائمون في ليله! لقد علمتم وذقتم حلاوة القرآن في رمضان، فلا تحرموا أنفسكم من ذلك المنهل العذب بعد رمضان...

 

ويا من عشتم مع سورة الفاتحة.. واستفتحتم بها أبواب السماء! استمروا في العيش معها، وتأملوها جيداً، فقد جمع فيها الخير كله، فيها المناجاة، وفيها الطلب، وفيها الهداية، وفيها النجاة من الضلال والغواية.. فلا تتركوا القرآن بعد رمضان، فرمضان رحل ولكن الله باق حي دائم لا يموت...

 

احرصوا على محبة ربكم، وتقربوا إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض، فهي السبيل إلى ذلك، فمن أحبه الله كان سمعه، وبصره، وسائر جوارحه.. يقول جل شأنه: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»...

 

لنحرص على دوام الذكر.. فمن ذكر الله في نفسه، ذكره الله في نفسه، ومن ذكره في ملأ، ذكره الله في ملأ خير منه..

 

أنت أيها العبد الضعيف يذكرك ربك في نفسه، وفي ملأ خير من كل ملأ.. بالله عليك ألا تشعر بأبعاد هذا الأمر العظيم.. هل هناك عاقل يمكن أن يفرط في مثل هذا؟

 

لنكن بعد رمضان قرآناً يمشي على الأرض.. وكما نخرج من الصلاة فتنهانا عن الفحشاء والمنكر، فلنخرج من رمضان وقد أصبحنا ربانيين قرآنيين، نجسد تعاليم كتاب الله واقعاً يمشي على الأرض..

 

ولنحذر أي شيء يمكن أن يعطل مسيرتنا نحو الله، وقد تزودنا لها بفضله تعالى طوال أيام الشهر ولياليه... لنقدم الخير للناس، ولنسعهم بأخلاقنا، ولتظهر علينا نفحات الشهر الكريم.. ولنكن ممن قال عنهم ربنا جل وعلا: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]...

 

علينا أن نقول للدنيا كلها: أننا نحب تكاليف ربنا، فنداوم على أعمال الطاعة، كصيام التطوع، وقيام الليل، والاستغفار بالأسحار، وكثرة الذكر على كل حال ما أمكننا ذلك...

 

وبعد رمضان يجب ألا ننسى إخوة لنا يعانون الجوع والمرض، وآخرون يكابدون الويلات والقهر.. تصب على رؤوسهم حمم القذائف والصواريخ والقنابل، حرموا نعمة الأمن والأمان، وشردوا عن الديار والأوطان، وفقدوا الأحباب والخلان...

 

فيا أحباب رمضان.. ويا من أسفتم على فراقه.. ويا من تمرغتم في روضاته! ليعش رمضان في قلوبكم دوماً، فرب رمضان هو رب شوال، وهو رب سائر الشهور، وما قدسية رمضان وفضله إلا منه سبحانه...

 

فلنتعلق به جل وعلا، ولنحفظ العهد معه، عسى أن نكون من الفائزين برضوانه، وعسى أن يجعلنا من عواده بفضله ومنه وكرمه.. فلا أوحش الله منك يا شهر الصيام والقيام، ولا أوحش الله منك يا شهر التجاوز عن الذنوب العظام، ولا أوحش الله منك يا شهر الذكر والتسبيح..

 

ليت شعري من المقبول منا فنهنيه، ومن المردود منا فنعزيه..

 

كل عام والجميع بخير.. والحمد لله رب العالمين...