الروليت الأمريكي
مشكلة النظام الأمريكي أن الإدارة الجديدة - التي أخَّر ترامب تسليمها الملفات السرية الحساسة - تصرفت بعجلة وتخبُّط ظاهري بحيث لم تتمكن من إتقان السياسة الأمريكية المتَّبَعة في السنوات الأخير
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
إن من القواعد الأساسية في الأسماء والصفات إثبات ما أثبت الله تعالى لنفسه من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل؛ وهذا بسبب نزوع الإنسان إلى المقارنة الحسية بين المتشابهات لفظيّاً وهو ما يمكن تصوره بين المخلوقات المعروفة؛ ولكن يجب أن يقف الإنسان عند حدوده ولا يتجاوز حتى إلى المقارنة مع مخلوقات غير مشاهدة على طبيعتها مثل الملائكة والجن والشياطين وغيرها من المخلوقات: فتأثير الشياطين على بني البشر محسوس ولكنه غير معروف الكيفية، وكذلك الجن وعفاريتهم لديهم قدرات تفوق بني البشر، ومثل ذلك الملائكة الكرام.
ولنا في قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس دليلٌ على أنه مع تقدُّم الإنسان المعاصر فهو ما زال بعيداً عن جلساء سليمان، قال تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْـمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ 38 قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْـجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ 39 قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيم} [النمل: 36 - 40].
وما نهدف إليه: أنه مهما عظمت في نفوسنا إمكانيات الإنسان المعاصر فهي تبقى قاصرة ومحدودة القدرة والزمان والمكان. فسُنَّة التدافع والاستبدال مُصْلتة على كل أمة غالبة ودافعة لكلِّ أمة مستضعفة تسعى للنهوض، والتاريخ مليء بصور الانهيار والصعود.
والذي لا تخطئه العين هو دخول أمريكا في مرحلة تراجع حرجة؛ فالملفات المفتوحة كثيرة وممتدة عبر العالم والتعامل معها يحتاج إلى فكر سياسي إستراتيجي يتحرك وَفْقَ قدرات أمريكا الحقيقية عسكرياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً مع حساب دقيق لخريطة التغيُّرات العالمية؛ فأيُّ خطأ في التصرف أو التقدير سيكون له عواقب وخيمة على معدل التراجع الذي بدأ في مرحلة أوباما الأولى واستمر في ولاية ترامب الذي اعترف بحقيقة التراجع؛ ولذا رفع شعار العودة إلى (أمريكا العظيمة) وطلب من الحلفاء ضرورة المشاركة في تكاليف الحماية الأمريكية، وهي صيغة استعلائية لحقيقة كونها دفعاً لتكاليف السيطرة الأمريكية التي بدأت تثقل كاهل أمريكا المرهقـة، وكذلك أعلن نيته الانسحاب من مناطق توتر مكلفة مثل أفغانستان والعراق وسوريا، وكذلك التهدئة مع كوريا الشمالية، وتجاهل الفشل في فنزويلا، والتركيز على الصين باعتبارها خطراً أساسياً؛ وهو ما يعني مسايرة بوتين وأوردغان.
ومشكلة النظام الأمريكي أن الإدارة الجديدة - التي أخَّر ترامب تسليمها الملفات السرية الحساسة - تصرفت بعجلة وتخبُّط ظاهري بحيث لم تتمكن من إتقان السياسة الأمريكية المتَّبَعة في السنوات الأخير؛ وهو ما يمكن تسميته بـ (الروليت الأمريكي) الذي يشبه لعبة الروليت الروسية المشهورة التي يمارسها رجال العصابات والمدمنون في روسيا، وتتلخص في وضع رصاصة واحدة في مسدس ذي بكرة دوارة ويتناوب كلُّ واحد من الحضور في توجيه المسدس إلى رأسه والضغط على الزناد ويموت مَنْ تكون تلك الرصاصة من نصيبه. والفرق أن أمريكا تحمل مسدس الروليت وتوجهه إلى إحدى البلدان المستهدَفة بالتهديد والتي لا تعرف هل هو تهديد أجوف أو حقيقي؟ ونحن هنا سنكتفي بالتهديدات العلنية، وأما التي تمَّت خلف الأبواب المغلقة - وهي كثيرة - فلن نتطرق إليها.
ففي السنوات الأخيرة وفي محاولة لإضعاف قدرة الصين على التأثير العسكري غير المباشر على أمريكا بدأت الأخيرة مفاوضات مباشرة مع طالبان لترتيب الأوضاع في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، وأثناء المفاوضات الطويلة والمعقَّدة حصلت عدة أحداث ذات دلالة:
منها: إعلان أمريكا استهداف مراكز للقاعدة في أفغانستان بـ (أم القنابل)، وهي أكبر قنبلة غير نووية لدى أمريكا، وبما أنه لا توجد مراكز للقاعدة في أفغانسـتان وأن التفجير حصل قرب حدود الصين فكان ذلك رسالة تهديد مزدوجة موجهة إلى طالبان والصين.
ومنها: تهديد ترامب بمحو أفغانستان من الخريطة؛ وهو ما يُفهم منه أنه يوجِّه الروليت نحو طالبان التي ردَّت بإسقاط طائرة محمَّلة بضباط كبار أمريكيين في منطقة بأفغانستان بحيث لم تستطع أمريكا وحلفاؤها انتشال الحطام والجثث التي بقيت لدى طالبان، وهكذا استمرت المفاوضات تحت فوَّهة الروليت.
وأيضاً - وللهدف نفسه - حاولت أمريكا طويلاً خنق كوريا الشمالية وترويضها بالحصار ومحاولة نزع أنيابها بتفكيك سلاحها النووي وتدميره. وفي عهد ترامب استمرت المحاولات مع تصويب الروليت والتهديد به؛ إذ هدد ترامب بتدمير كوريا الشمالية، إلا أن الرئيس الكوري ردَّ بتوجيه مسدسٍ حقيقي نحو أعدائه وقال إن زر السلاح النووي موجود في غرفة نومه واستمرت المفاوضات وانتهت بلقاء مباشر على الحدود واختفت من وسائل الإعلام العالمية أخبار البرنامج النووي الكوري التي كانت تتصدر الأخبار لمدة طويلة من الزمن.
وكذلك: طفت على السطح تهديدات أمريكيـة بفرض عقوبات اقتصادية على الاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا والصين للحدِّ من الواردات وتشجيع الإنتاج الصناعي المحلي؛ ولكن تبيَّن أن التهديد خطير فهو مزدوج التأثير: فالفولاذ ومكونات الحواسيب والبرمجيات مستوردة وستؤدي عرقلة الواردات إلى ارتفاع الأسعار على المستهلك وهذا له أثر سلبي على مزاج الناخبين ولذا وضع المسدس جانباً، ولكنه رُفِع مجدداً بتهديد ترامب العلني بتدمير الليرة التركية وتصريح بايدن بالعمل على إسقاط أوردغان والعمل على معاقبة بوتين والتصريح بأن الصين تمثـل الخطر الأول على أمريكا... ومع أن هذه التهديدات تخفي وراءها مفاوضات تحت الطاولة إلا أن الإحساس بأن فوهة الروليت موجَّهـة إلى الجميع يُفقدُهم جميعاً الإحساس بالاطمئنان فلا يُعرَف من هو المستهدف الحقيقي؛ ولذا دخل العالم في مرحلة استقطاب جديد فأمريكا التي كانت ترغي وتزبد ضد الصين دخلت معها في مفاوضات وُصِفَت بالبنَّاءة، وفي ألاسكا في الوقت نفسه سارع الروس إلى بكين لتأكيد متانة التحالف الروسي الصيني.
لا شك أن العالم دخل في مرحلة استقطاب جديد واختار الروس أن يستغلوا الفرصة ويُنهوا الملفات العالقة مع أوكرانيا فبدأت حشود ضخمة للجيش الروسي بالتجمع على الحدود، ومع تهديد وزير الخارجية الروسي بتدمير أوكرانيا ساد الصمت أوروبا العجوز ولم تجد أوكرانيا سوى وعودٍ أمريكية جوفاء بالدعم، فأمريكا مضطرة لسحب قواتها من الخليج حتى تتمكن من تقديم دعم ملموس لأوكرانيا وهو ما لن يحصل قبل تأمين المنطقة، وتورطت أمريكا بخطأ دعوتها للروس إلى سوريا وليبيا نفسه، فقامت برعاية اتفاقية تحالف إستراتيجي بين إيران والصين وهو ما يعني تسليم إدارة المنطقة لإيران تحت مظلة حماية صينية؛ فمن بنود الاتفاقية مرابطة قوات صينية في إيران، ولا يخفى أن الهدف هو دعم إيران في أي صراع مستقبلي مع تركيا التي وجدت نفسها في بؤرة الصراع الروسي الأوكراني، وأوكرانيا متيقنة أن أملها الوحيد للنجاة هو تدخُّل تركي فعَّال.
من المتوقع أن المرحلة القادمة ستشهد صراعاً إستراتيجياً يمتد من أوكرانيا مروراً بشرق المتوسط وصولاً إلى باب المندب وبحر العرب، والذي نراه كذلك أن انسحاب القوات الروسية المؤقت من الحدود الأوكرانية مع تراجع أمريكا عن إرسال سفنها إلى البحر الأسود يعني أن الروليت حالياً مصوب نحو تركيا تحديداً؛ فقد نُسِي الحديث الأمريكي عن أهمية التحالف مع تركيا وحل محلَّه قيام وزارة الدفاع الأمريكية بإخطار تركيا بإخراجها رسمياً من برناج (إف 35) الشبحية، واتصل بايدن لأول مرة بأوردغان، وتساءلت الصحف الأمريكية: هل هدد بايدن أوردغان؟ وما علاقة المكالمة بقيام الجيش التركي بحملة ضد حزب العمال المدعوم أمريكياً؟ ولماذا صرَّح بايدن بأن ما جرى للأرمن عام 1915م كان إبادة جماعية؟ وكان الرد التركي محرجاً وحساساً؛ فقد أشار إلى الإبادة الجماعية للهنود الحمر وللسود أثناء جلبهم إلى أمريكا، وهدد بتبنِّيها وإثارتها ضمن حملة تعريفية بجرائم أمريكا حول العالم، وهو ما أزعج الإدارة الأمريكية؛ فهذه مواضيع قد يكون لها ارتدادات داخل المجتمع الأمريكي المحتقن؛ ولذا سارع بايدن إلى التقليل من أهمية تصريحه وأنه لا يعني توجيه اللوم بل ضمان عدم تكراره. وعلى أي حال فقد نجحت سياسة الروليت في إخافة الجميع لفترة من الزمن وبدأت تفقد زخمها؛ فاليد باتت مرتعشة وسيعود الروس إلى أوكرانيا وسينتهي الأمر إلى تقاسم أوكرانيا بين الروس والأتراك بحيث يضمن الروس الجمهوريات المتمردة ويضمن الأتراك حماية بقية أوكرانيا.
وفي النهاية لا ننسى أن الصين تنتهز فرصة قلة حيلة أمريكا في كل ورطة تقع فيها؛ فكما فتح لها نيكسون أبوب العالم اقتصادياً لتأمين خروجٍ آمن من فيتنام وضمان وقوفها ضد الاتحاد السوفييتي؛ فإن بايدن يفتح لها أبواب الشرق الأوسط وإفريقيا عسكرياً لمواجهة القوى الصاعدة في المنطقة ولن يطول الوقت حتى يتمرد الأتباع ويبحثوا عن ظل جديد.