الكفر بالطاغوت
ابتدأ بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله، لأن الكفر بالطاغوت تخلية القلب وتخليصه وتصفيته من كل شر، ويعقب ذلك التحلية بالإيمان بالله عز وجل، فلا يستقيم الإيمان بالله عز وجل إلا إذا صفا القلب وخلص من كل شائبة وكفر..
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - الشرك وأنواعه -
قال المصنف رحمه الله: (وَافْتَرَضَ الله عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ: الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ، وَالإِيمَانَ بِالله. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رحمه الله تعالى-: «مَعْنَى الطَّاغُوتِ: مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ، مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ»[1]).
الشرح الإجمالي:
(وافترض الله) وأوجب بالدليل المتقدم (على جميع العباد) المكلفين: (الكفر بالطاغوت)، والتبرؤ من الآلهة، (والإيمان بالله)، أي: إفراده بالعبادة وحده دون سواه، و(قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-) في بيان (معنى الطاغوت) هو: (ما تجاوز به العبد حده)، أي: الذي تجاوز به العبد قَدْرَه الذي ينبغي له في الشرع، سواء كان هذا الطغيان، أو التعدي والتجاوز من (معبود) مع الله تعالى، بأي نوع من أنواع العبادة، فمن صُرف له شيء من أنواع العبادة، وهو مقر بذلك وراض به فإنه طاغوت؛ (أو) من (متبوع) في معاصي الله جل وعلا؛ (أو) من (مطاع) من دون الله في التحليل والتحريم، بأن يحرم ما أحل الله أو يحل ما حرم الله [2].
الشرح التفصيلي:
هذا هو المقطع الأخير من هذه الرسالة المباركة -ثلاثة الأصول- للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأجزل له الأجر والمثوبة-، حيث ذكر المصنف أن الله: (افترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله)، ومعنى افترض، أي: أوجب سبحانه وتعالى على العباد جميعهم، فالعباد هنا يصدق أو يندرج تحته كل عباد الله جل وعلا ممن وُجِّه إليه الخطاب، وكُلِّف من الجن والإنس، فافترض الله عز وجل على جميع عباده الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، وأراد المصنف بهذا بيان أن التوحيد لا يتم إلا بعبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب الطاغوت[3]، وبدأ المصنف -رحمه الله تعالى- بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله؛ لأن الله سبحانه وتعالى بدأ بهما في قوله جل وعلا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [4]،
فابتدأ بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله، لأن الكفر بالطاغوت تخلية القلب وتخليصه وتصفيته من كل شر، ويعقب ذلك التحلية بالإيمان بالله عز وجل، فلا يستقيم الإيمان بالله عز وجل إلا إذا صفا القلب وخلص من كل شائبة وكفر، فإذا خُلِّص ونُقِّي تفرغت طاقته، وتوفرت همته على الإيمان بالله، فيجب على العبد أن يحرص على هذين المعنيين: الكفر بالطاغوت، وهو: تخلية القلب من كل شائبة شرك دقيق أو جليل؛ ثم الإيمان بالله، وهو: أن يعمر قلبه بكل ما يزينه، ويجمله ويحقق عبوديته لله عز وجل، ويحقق فيه وصفي السلامة والإنابة، فالسلامة والإنابة عليهما عَلَّق الله عز وجل النجاة يوم القيامة، فمن جاء بقلب سليم، ومن جاء بقلب منيب حصل له فوز الدنيا والآخرة[5].
والكفر بالطاغوت هو: البراءة من كل ما يُعبد من دون الله، والإيمان بالله هو: الإيمان بربوبيته وإلهيته[6]؛ فصفة الكفر بالطاغوت: «أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها وتبغضها، وتكفِّر أهلها وتعاديهم»[7]، ومعنى الإيمان بالله: «أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده دون من سواه، وتُخْلِص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم»[8]، قال المصنف في بعض رسائله: (والكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يُعتقد فيه غير الله، من جني، أو إنسي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك؛ وتشهد عليه بالكفر والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك أو أخوك؛ فأما من قال: أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة، والقباب على القبور، وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول: لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت)[9]؛ فالطاغوت هو الشيطان، وما زيَّنه من عبادة الأوثان؛ والكُفْرُ بالشيطان يحصل: بالبراءة منه، ومعصيته في كل ما أمر به ونهى عنه؛ وكذلك الأوثان يكفر بها المؤمنون، ويتبرؤون من عبادتها مع وجودها، ومن عبادة المشركين لها، فنفي الأوثان، الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، يحصل بتركها، والرغبة عنها، والبراءة منها، والكفر بها وبمن يعبدها، واعتزالها واعتزال عابديها، وبغضها وعداوتها [10].
ولما ذكر المصنف هنا الطاغوت؛ كان مناسباً لأهميته أن يذكر معنى الطاغوت اصطلاحاً[11]؛ فقال: (قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: معنى الطاغوت: ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود، أو متبوع، أو مطاع)؛ قال: (ما تجاوز به العبد حدَّه)، والضمير في قوله: (حدَّه) يعود على العبد، وحدُّ العبد أن يكون عبداً، ولا يجوز أن يخرج عن هذا الحد، فلا يكون رباً، ويأمر كما يأمر الله جل وعلا[12]؛ ويمكن أن يعود الضمير في قوله: (حدَّه) على الحد الشرعي له، فالشرع حدَّ للأشياء حدوداً، وبيَّن علاقة المسلم بها، فإذا تجاوز العبد بشيء ما حدَّه الشرع، فذلك الشيء طاغوت، فالطاغوت: اسم لكل ما تجاوز به العبد حدَّه [13].
قال: (من معبود، أو متبوع، أو مطاع)؛ فجعل التجاوز في ثلاثة أمور: في العبادة، وفي الاتباع، وفي الطاعة [14]، وقوله: (من معبود)، (من): هذه بيانية لما يقع فيه التجاوز، يعني: سواء كان التجاوز في عبادةٍ بصرفها إلى غير الله، أو متبوعٍ باتباعه على ضلالة، أو مطاعٍ بطاعته فيما لا يجوز طاعته فيه[15]، فمن صُرِفَ له شيءٌ من أنواع العبادة، وهو مقرٌ بذلك وراض به، فإنه طاغوت؛ لأنه تجاوز حدَّه، وقدره في الشرع؛ لأن حدَّه في الشرع أن يكون عابدًا لله تعالى لا أن يكون معبودًا؛ فإذا رضي أن يكون معبودًا فقد تجاوز حده، فإذا عَبد أحدٌ غيرَ الله جلَّ وعلا، أو اتبعه وأطاعه، وتجاوز في ذلك الحدَّ الذي أُذن به شرعاً؛ فإنَّ ذلك الغير يكون طاغوتًا بالنسبة للعابد أو المتبع أو المطيع، ولا يكون طاغوتًا على وجه الإطلاق إلا إذا كان ذلك المعبود أو المتبوع أو المطاع راضيًا بذلك، لأنَّ من الناس من يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، أو يعبد عيسى عليه السلام، أو يعبد رجلاً صالحًا، وهؤلاء لا يرضون بذلك بل ينهون عنه، ويتبرأون منه، والمتبرئ من الشيء ليس من أهله؛ فالذي لا يرضى بعبادته فإنه ليس بمذموم[16]، فمراده بـــــ (المعبود والمتبوع والمطاع)، أي: غير الصالحين، أما الصالحون فليسوا طواغيت وإن عُبدوا أو اتُبِعوا أو أُطيعوا[17]، والأمراء يُطاعون شرعاً أو قدراً، فيُطاعون شرعاً إذا أَمروا بما لا يخالف أَمرَ الله ورسوله، وفي هذه الحال لا يصدق عليهم أنهم طواغيت، والواجب لهم على الرعية السمع والطاعة، وطاعتهم لولاة الأمر في هذا الحال بهذا القيد طاعة لله-عز وجل –؛ لأن لله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [18]؛ وأما طاعة الأمراء قَدَراً فإن الأمراء إذا كانوا أقوياء في سلطتهم فإن الناس يطيعونهم بقوة السلطان وإن لم يكن بوازع الإيمان؛ لأن طاعة ولي الأمر تكون بوازع الإيمان، وهذه هي الطاعة النافعة لولاة الأمر، والنافعة للناس أيضاً؛ وقد تكون الطاعة بوازع السلطان، بحيث يكون قوياً يخشى الناس منه ويهابونه؛ لأنه ينكل بمن خالف أمره [19]؛ لكن من كان له سلطان على الناس وغلا فيه الناس؛ حتى جعلوا طاعته لازمة كطاعة الله سبحانه وتعالى، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تجاوز الإنسان بهذا المطاع حدَّه[20]، فحدُّ أي مخلوق أن يكون مؤمناً لله، مُطيعاً لله، وعابداً لله، ومتبعاً دينه؛ فإذا تجاوز العبد حده، ورضي بأن يُعبد صار طاغوتاً؛ وكذلك المتبوع إذا رضي أن يُتَّبع بالباطل صار طاغوتاً؛ وكذلك إذا رضي أن يُطاع في معاصي الله صار طاغوتاً[21]؛ فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى رسوله إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته[22]؛ وحاصله: أن الطاغوت ثلاثة أنواع: طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة[23].
والمصنف -رحمه الله تعالى- لم يبين معنى الإيمان بالله؛ لأنه تقدم بيان معنى الإيمان بالله بياناً واضحاً شافياً بالأدلة؛ لكن لما كان الكفر بالطاغوت -الذي افترض الله جل وعلا على العباد الكفر به- يحتاج إلى بيانٍ، فإنه خصه ببيانٍ وافٍ واضح[24]، والطاغوت في الأصل مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد في كل شيء[25]، وهو الظلم والبغي.
أما من حيث المعنى الاصطلاحي فإن الطاغوت له معنيان:
أحدهما خاص: وهو الشيطان، وهو المراد في القرآن عند الإطلاق؛ فإذا أُطلق الطاغوت في القرآن كان هو المراد.
والآخر عام: وهو المراد في القرآن إذا كان الفعل المذكور معه على صيغة الجمع لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257][26][27].
وقد فُسِّر الطاغوت في كلام السلف بمعانٍ عديدة، ولم يرد في كتاب الله عز وجل إلا ذمّه، والأمرُ بالكفر به؛ حيث جاء ذكره، وقد جُمعت هذه التفاسير بما قاله ابن القيم -رحمه الله تعالى- في حده؛ وقد عرَّف جماعة من العلماء الطاغوت بتعاريف أُخر، فقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في تعريفه: «والطاغوت: وهو كل ما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ»[28]، وقال: «والطاغوت: كل مُعظم ومتعظم بِغَيْر طَاعَة الله وَرَسُوله من إِنسان أَو شيطان أَو شيء من الأوثان»[29]، وعرّفه أيضاً في موضع آخر فقال: «الطاغوت اسم جنس يدخل فيه الشيطان، والوثن، والكهان، والدرهم والدينار، وغير ذلك»[30]؛ وهناك تعاريف أخرى[31]؛ والحاصل من مجموع كلامهم -رحمهم الله تعالى-: أن اسم الطاغوت يشمل: كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلال، يدعو إلى الباطل، ويحسنه، ويشمل أيضاً: كل من نصَبَه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله؛ ويشمل أيضاً: الكاهن، والساحر، وسدنة الأوثان، الداعين إلى عبادة المقبورين وغيرهم، وأصل هذه الأنواع كلها، وأعظمها: الشيطان، فهو: الطاغوت الأكبر [32]؛ فالطاغوت: عام في كل ما عُبد من دون الله، فكل ما عبد من دون الله، ورضي بالعبادة، من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت [33].
[1] ينظر: أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 103).
[2] ينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (98)؛ وتيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالمحسن القاسم (203).
[3] شرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (150).
[4] سورة البقرة، الآية [256].
[5] شرح الأصول الثلاثة، د. خالد المصلح (85).
[6] شرح الأصول الثلاثة، عبدالرحمن بن ناصر البراك (48).
[7] الدرر السنية (1/ 161).
[8] المصدر السابق.
[9] المصدر السابق (2/ 121).
[10] المصدر السابق (11/ 269).
[11] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (232).
[12] المحصول من شرح ثلاثة الأصول، عبدالله بن محمد الغنيمان (216).
[13] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (232).
[14] المحصول من شرح ثلاثة الأصول، عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي (106).
[15] شرح الأصول الثلاثة، د. خالد بن عبدالله المصلح (86).
[16] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (232).
[17] شرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (151).
[18] سورة النساء، الآية [59].
[19] شرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (151).
[20] شرح الأصول الثلاثة، عبدالرحمن البراك (48).
[21] شرح الأصول الثلاثة، عبدالله بن محمد الغنيمان (216).
[22] أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 103-104).
[23] الدرر السنية (10/ 503).
[24] شرح الأصول الثلاثة، د. خالد المصلح (85).
[25] تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري (2/ 1753).
[26] سورة البقرة، الآية [257].
[27] تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (58).
[28] مختصر منهاج السنة النبوية، للشيخ: عبد الله بن محمد الغنيمان (1/ 119).
[29] جامع الرسائل، المحقق: د. محمد رشاد سالم (2/ 373).
[30] مجموع الفتاوى (16/ 565).
[31] الدرر السنية (2/ 300).
[32] الدرر السنية (2/ 301).
[33] المصدر السابق (1/ 161).
______________________________________________
الكاتب: د. فهد بن بادي المرشدي