أمم أمثالكم
بين الله سبحانه وتعالى عظم خلق الحيوان، وأنها جماعات وطوائف مخصوصة، كل طائفة تكون جنسًا قائمًا
- التصنيفات: التفسير -
المراد بالمثلية في قوله تعالى:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]
قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" (ص: 249): قوله عز وجل: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي: أصناف، وكل صنف من الدواب والطير مثل بني آدم في المعرفة بالله، وطلب الغذاء، وتوقي المهالك، والتماس الذَّرء، مع أشباه لهذا كثيرة.
وقال الراغب في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 86): الأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا، وجمعها: أمم، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}؛ أي: كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع.
وقال الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين: قوله: {إِلَّا أُمَمٌ} أي: طوائف وجماعات أمثالكم، أي: كل نوع على صفة وطريقة وشكل كما أنكم كذلك، فمن الدواب العزيز والذليل، والمرزوق بسهولة وبتعب، والقوي والضعيف، والكبير والصغير، والمتحيل في الرزق وغير المتحيل كبني آدم.
وقال محمد رشيد رضا في كتابه "تفسير المنار" (7/ 328، 329): اختلف المفسرون في وجه المماثلة بين الدواب والطير وبين الإنسان، ففي الدر المنثور عن مجاهد في قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال: أصنافًا مصنفة تعرف بأسمائها،
وعن قتادة: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة،
وعن السدي: خلق أمثالكم، فالأولان على أن المماثلة بالصفات المشتركة التي يتميز بها بعض الأنواع والأصناف عن بعض، وهي التي نسميها المقومات والمشخصات، والثالث: على أن المماثلة في أصل الخلق، أي: كونها مخلوقة مثلنا، ويتبع ذلك ما يلازمه من حكمة الله وتدبيره فينا وفيها، ونقل الواحدي عن ابن عباس أن المراد بالمماثلة أنها تعرف الله وتوحده وتسبحه وتحمده كما يفعل المؤمنون منا، ... المختار عندنا أن الله تعالى أرشدنا إلى أن أنواع الحيوان أمم أمثال الناس، ولم يبين لنا وجه المماثلة بينهما؛ لأجل أن نستعمل حواسنا وعقولنا في البحث الموصل إلى ذلك كما قلنا آنفا، وللماثلة وجوه كثيرة اهتدى بعض العلماء إلى بعضها، ويجوز أن يهتدي غيرهم إلى غير ما اهتدوا إليه.
وقال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (7/ 213): اعلم أن معنى قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} - إلى قوله:- {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أن لها خصائص لكل جنس ونوع منها كما لأمم البشر خصائصها، أي: جعل الله لكل نوع ما به قوامه، وألهمه اتباع نظامه، وأن لها حياة مؤجلة لا محالة، فمعنى {أَمْثَالُكُمْ} المماثلة في الحياة الحيوانية، وفي اختصاصها بنظامها.
وقال الشنقيطي كما في "العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير" (1/ 210): اختلف العلماء في مثلية هذه الأمم للآدميين على أقوال متعددة، بعضها حق. وحاصل هذا أن الله صرح بأن الدواب بأنواعها: بأنواع الوحوش، وأنواع السباع، وأنواع الطيور، كل نوع من هذه الأنواع أمة من الأمم التي خلق الله، أمثال الآدميين؛ لمشابهات بينها وبين الآدميين؛ لأن كلا من الجميع مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه، مرزوق يحتاج إلى خالق يرزقه ويدبر شؤونه. والكل مضبوط في كتاب: أوصاف الجميع، وآداب الجميع، وصفات الجميع، ومقاديرهم، وألوانهم، إلى غير ذلك. ومما يكون من تلك المماثلة: أن الجميع يحشرون إلى الله، كما قال هنا: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، ونص على ذلك في التكوير في قوله: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5].
وقال محمد أبو زهرة في تفسيره "زهرة التفاسير" (5/ 2491): (بين الله سبحانه وتعالى عظم خلق الحيوان، وأنها جماعات وطوائف مخصوصة، كل طائفة تكون جنسًا قائمًا، ... والنص فيه تعميم للأنواع كلها؛ لأن اجتماع (ما)، و (من) يدل على الاستغراق للجماعات والآحاد معًا، فهي في علم الله تعالى جماعات وأجناس وطبائع مختلفة مثلكم، وقوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] لإفادة التعميم في أن علمه تعالى يشمل الطائر في الجو، كما يشمل الدابة التي تدب في الأرض، والطائر الذي يطير، فذكر الذي يطير بجناحيه يدل على علم الله تعالى على ما في الأرض من دواب تدب، وأسماك ولآلئ تسبح، وما في الجو من طيور تطير، وكل هذه أجناس ذات طبائع مختلفة، وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى الإبداع في الصنع مع جمال التكوين والقدرة.
قلت: ما تقدم ذكره عن العلماء صحيح، وغالبه يدخل في معنى الآية دخولًا أوليًّا، ويحتمل أيضا أن تكون من المماثلة أنك تجد أمم الأرض من الناس يختلف بعضهم عن بعض في صفات خاصة بكل منهم، فمثلا اليمنيون لهم صفات تميزهم عن غيرهم في الشكل واللون والطبائع، وللشاميين صفات، وللعراقيين صفات، وللمصريين صفات، وللمغربيين صفات، وللأندنوسيين صفات، وللصينيين صفات، وللأفريقيين صفات، وللأوروبيين صفات، وهكذا، وكذلك تجد كثيرا من الطيور والدواب تختلف صفاتها باختلاف أماكن عيشها، فمثلا تجد العصفور أو البعوض أو الخروف أو القط الذي يعيش في جزيرة العرب غير الذي يعيش في الشام، وغير الذي يعيش في أوروبا، وغير الذي يعيش في أستراليا، وغير الذي يعيش في أميركا، وبعض ذلك الاختلاف بينها في الحجم والشكل واللون والطبائع ظاهر لنا، وبعضه قد لا يظهر لنا، وقد يظهر للمتخصصين في دراسة أنواع الطيور والحيوانات، والله أعلم، ومن بحث بواسطة قوقل عن صورة أي طائر أو حيوان سيجد أشكالًا وألوانًا مختلفة لكل طير أو حيوان كبير أو صغير، وبعضها غريبة جدًّا، فسبحان الله الذي يخلق ما يشاء!
وتشبه هذه الآية قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3]، وقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]، وقوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 12].
قال البيضاوي في تفسيره (3/ 181): قوله: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}أي: وجعل فيها من جميع أنواع الثمرات صنفين اثنين: كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير.
وقال الألوسي في "روح المعاني" (13/ 67): {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا}؛ أي: أصناف المخلوقات، فالزوج هنا بمعنى الصنف، لا بمعناه المشهور.
وقال السعدي في "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 695): {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أي: الأصناف كلها، {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} فنوَّع فيها من الأصناف ما يعسر تعداده. {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} فنوعهم إلى ذكر وأنثى، وفاوت بين خلقهم وأوصافهم الظاهرة والباطنة. {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} من المخلوقات التي قد خلقت وغابت عن علمنا، والتي لم تخلق بعد.
وقال الشنقيطي في "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (7/ 85، 86): الأزواج الأصناف، والزوج تطلقه العرب على الصنف. وقد بين تعالى أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53]، وقال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] أي: من كل صنف حسن من أصناف النبات. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10].
وسبحان الله من تأمل في النباتات والثمار وجد أن أقل شيء منها يكون زوجين، وقد يكون أكثر من زوجين، فمثلا: التفاح يوجد أحمر وأصفر وأخضر، والبطيخ يوجد مدور ومستطيل، ويوجد نوع داخله أحمر، وهو المشهور، ونوع داخله أصفر، وهو معروف في بلدان جنوب شرق آسيا، والباذنجان يوجد أسود وأحمر وأبيض وأصفر، {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].
__________________________________________
الكاتب: محمد بن علي بن جميل المطري