خطـورة التعالم وسمومه
ما أكثرَ الخنفشاريين، والمتعالمين، والمتفيقهين وأدعياء العلم في عصرنا هذا للأسف الشديد.
- التصنيفات: الإسلام والعلم -
أوردَ الشيخُ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله في كتابه الممتع "التّعالم وأثرُه على الفكر والكتاب" حكايةً مفادُها: "أنّ جماعةً من الأدباء زارهم رجلٌ كذابٌ ومُحتال، إلا أنّه كانَ فصيحَ اللسان؛ وادّعى لهم أنّه من أهل العلم، فما سألوهُ عن مسألةٍ إلا أفاضَ في جوابها ارتجالًا بمَا حيّر ألبابهم وعقولَهم.
فقالَ أحدُهم: تعالوا نمتحنه لنعلمَ صِدقه من كذبه؛ وكانوا ستّة؛ فقالوا: ليكتب كلّ واحدٍ منّا حرفًا ثم نجمعها فتصير كلمة ونسأله عن معناها، فكتبَ كُلّ واحدٍ منهم حرفًا ثمّ جمعوا الأحرف فتألّفت منْها كلمة هي (خُنفشار) فقالوا أيّها الأديب هل تعرفُ الخنفشار؟
فأجابَ على البديهة:
بأنّه نَبْتٌ طيّب الرائحة ينبتُ بأطراف اليَمن إذا أكلتْهُ الإبل عقد لبنها، قال شاعرُهم اليماني:
لقد عَقَدَت محبتُكم فُؤادِي***كما عقد الحليبَ الخنفشار
وقالَ داود الأنطاكي في (تذكرته) كذا وكذا، وقال فلان وفلان .. وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوقفوه، وقالوا: كذبتَ على هؤلاء، فلا تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. وتحقّقَ لديهم أنّ ذلك المسكينَ: جِرَاب كذبٍ، وعيبة افتراءٍ في سبيل تعالمه، فتعجّبُوا من بديهته.
أقول: ما أكثرَ الخنفشاريين، والمتعالمين، والمتفيقهين وأدعياء العلم في عصرنا هذا للأسف الشديد.
• تجدُ أحدهم يتحدّث في أمورٍ كبيرة ومسائل كثيرة، يتقمّص بحرف (الدال) ويلبس جلباب العارفين، لكنّك تتفاجأ عندما تكتشف أنّه دخيل في هذا الميدان، ومعروف بمهنة أخرى غير المجال الذي يدّعيه، وأنّ "شهادة الزور" التي يحملها صادرة عن (جامعة السرّاب) الوهميّة.
• الآخر يتدخّل في موضوعات علميّة معقّدة لا ناقة له فيها ولا جَمل، ويشرّق ويغرّب، ويطلقُ التعميمات، ويظهر نفسه بمظهر أهل العلم، ويتشدّد في مسائل فقهية، كان الأصل فيها التيسير، ويحيل إلى كُتب لم يشمّ رائحتها، وعند التتبع يتّضحُ أنّه يعمل في مجال بعيد عن العلم، ولا يحسنُ قراءة النّص الشرعي، والفرق بين أصول العلم وفروعه، يا أخي .. كما أنّ مزاولة المهن العلميّة تحتاجُ إلى تخصّص وتعمّق، فكذلك الشأن في المسائل الشرعية؛ بل هي أجدر بذلك؛ تفاديا للقول على الله تعالى بدون علم، وقديما قيل: " من تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب".
• الثالث ينتقدُ أحد المشايخ الكبار خلال تدريسه لصحيح البخاري، ويرفع الصوت، ويسيئ الأدب، ولكن عندما يسأله الشيخ بهدوء وحكمة: ما هي مهنتك يا بُنّيَ؟ يقولُ: (أعملُ كلّ شيء)، وصدق ابن حزم رحمه الله عندما قال: "لا آفة على العلوم وأهلِها أضرُّ من الدُّخلاء فيها، وهم من غير أهلها؛ فإنّهم يجْهَلُون ويظنّون أنّهم يَعْلَمُون، ويُفْسِدُون ويُقَدِّرُون أنهم يُصْلِحُون".
• الرابع يتصدّر للفتوى بعد أخذه دورة في مبادئ علم الإفتاء - وهذه الظاهرة منتشرة في بلدان شبه القارة الهندية - حيثُ يشترك أحدهم في دورة الإفتاء التي لا تتجاوز عدة أشهر، ثم يتصدّر للفتوى في أمورٍ لو عُرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، ولو عُرضت على كبار العلماء في عصرنا لقالوا فيها: لا ندري، تورّعا منهم عن الفتوى الذي هو توقيعٌ عن رب العالمين، ولاشكّ أنّ مثل هذا التصدر من أشراط الساعة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنّ من أشراط الساعة أن يُلتمسَ العلمُ عند الأصاغرِ"؛ "صحيح الجامع": 2207.
يَمُدُّونَ للإفتاءِ باعًا قصيرةً ***وأكثَرُهمْ عندَ الفتاوَى يكذلك
• الخامس: شغله الشاغل وهوايته المفضّلة تتبع زلات العلماء وهفواتهم للتشهير بهم، والتنفير عنهم ونبذهم بألقاب ومسميّات عديدة، وإسقاط هيبتهم ومكانتهم، ولم يدرك أنه (كواو عمرو) أمام هؤلاء العلماء، وأنّه لم يصل إلى مدّهم ولا إلى نصيْفهم في خدمة الإسلام؛ حيث أفنوا حياتهم وزهرة شبابهم في العلم والعمل، وأنّ لحوم العلماء مسمومة.
وإنّ لِسانَ المَرْء ما لم تَكُنْ لَهُ *** حَصاةٌ، على عَوْراتِهِ لَدَلِيلُ
شمعة أخيرة:
كثر المتعالمون الذين يقرأون كتابًا أو كتابين، ثم يتصدّرون للفتاوى السريعة قبل النبوغ العلمي والنضوج الفكري، وبعيدًا عن مقاصد الشريعة والتأصيل والتّخصص؛ فأصبحت المسائل المهمّة، ومنْها النّوازلُ مَيدانا مُباحًا لخَوض الأدعياء، وارتيادِ الدّخلاء، وهُنا مكمن الخَطر.
وَكُلُّ يَدَّعِي وَصْلاً بِلَيْلَى *** وَلَيْـلَى لا تُقِرّ لَهُمْ بِذَاكَا.
______________________________
الكاتب: د. سعد الله المحمدي