الإجازة الصيفية
وتطوى أيام الأعمار، ويتسابق في اقتناصها الليل والنهار، ويتقلب المرء فيها غير مدركٍ لحاله ولا مترقب لانتقاله، وهكذا هي الحياة، مراحل ومحطات ومواطىء أقدام عجلى فوق صفحة الزمان،
- التصنيفات: مناسبات دورية - ملفات إجازة الصيف -
الحمد لله...
وتطوى أيام الأعمار، ويتسابق في اقتناصها الليل والنهار، ويتقلب المرء فيها غير مدركٍ لحاله ولا مترقب لانتقاله، وهكذا هي الحياة، مراحل ومحطات ومواطىء أقدام عجلى فوق صفحة الزمان، وهكذا أنت أيها الإنسان. يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم انقضى منك بعضك.
عباد الله:
كم هو مبهج أن يرتاح الإنسان بعد كد، وأن يتنفس بعد عناء، ولكن المؤمن الصادق مع ربه يعرف كيف يرتاح ومتى يتنفس، فالمؤمن الحق ليس له راحة في هذه الدنيا، حتى يطأ بقدميه جنة عرضها السماوات والأرض، أما ما دام في هذه الدنيا، فهو في ابتلاء وامتحان، شعاره: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
اعبده مخلصاً في عبادته، اعبده صادقاً في عبادته، اعبده طالباً لجنته، اعبده كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، ووالله لو عبدت الله ألف سنة ما عصيته فيها طرفة عين، ما أديت شكر نعمة واحدة من نعم الله عليك، كيف بك وأنت تعلم أن لله ملائكة ركعاً سجداً، يدعون الله في كل لحظة، ويعبدونه، وهم يقولون: سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك.
((أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع أربع أصابع، إلا عليه ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)) فلابد من التنافس في الطاعات فاستبقوا الخيرات.
ومع هذا فلا بأس من التزوُّد بحلال الدنيا ليساعد على التزوُّد لعناء الآخرة، وهذه هي نظرة المؤمن لهذه الأيام.
أخي المسلم:
عمرك مراحل تتنقل فيها، وتكدح في استغلالها وغرسها، فإن كان الغراس طيباً انتجت خيرا ونعيما، وحصدت من ثمارها فوزاً وفلاحا، وجاءك النداء المسعد، من الرحمن الرحيم يوم العرض والنشور: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19]، النداء: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
وإن كان البذر فاسداً ولم يكن خيرا، انتجت سوءً وبلاءً، وحصدت حسرة وندامة، وناداك المنادي يوم الأشهاد: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
تَأَمَّلْ: هَلْ تَرَى إِلَّا شِبَاْكَاً ♦♦♦ مِنَ الأَيَّاْمِ حَوْلَكَ مُلْقَيَاْتِ؟
إخوة الإيمان:
ونحن على أبواب سُعدٍ وهناء إن شاء الله نحتاج لوقفة تذكير ولحظة تنبه وكلمة مصارحة مع النفس، استدعاها أننا على أبواب إجازة، الإجازة تلك الكلمة المحببة للنفس، الأيام تمر وتتسارع في اقتطاع سويعاتها، ولهذا كان لابد من وقفات ولو يسيرة مع الأيام.
أخي:
تذكر ودع عنك شواغل الحياة وآلام الأيام وضائقة الحال، واسمُ بنفسك بين يدي ربك جل وعلا، وتذكر واعتبر ما دمت قادراً... قف معها كلمات قالها أحد الصالحين الصادقين مع ربهم: والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعلمون. هل الأعمار إلا أعوام؟ وهل الأعوام إلا أيام؟ وهل الأيام إلا أنفاس؟ وإن عمراً ينقضي مع الأنفاس لسريع الانصرام.
هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها. تتخطفها وهي راقدة. تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها. تقبضها وهي مكبة على أعمالها. تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. ها هو ابن آدم يصبح سليماً معافاً في صحته وحلته، ثم يمسي بين أطباق الثرى قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب.
عباد الله:
مسألة مهمة تلفت الانتباه، حالٌ واقع بين أرباب المال والتجارة، وبين أرباب الكتابات الصحفية والمقابلات والدعايات الخلابة والبراقة؛ فلقد بهرني كما آخرون ما تعصف به وسائل الدعاية والإعلام في هذه الأيام من ذلك، وإن كانت تلك الدعايات والمقالات والتحقيقات دائرة بين ما هو جيد ومفيد، وبين ما هو غث أو عقيم، إلا أنها مع الأسف لم تخل من التمويه والتلبيس في كثير منها؛ من أجل تحقيق مآرب شخصية ومكاسب تجارية، أو من أجل تلبية أهواء ورغبات متأثرة بأفكار لا تمت لثقافة الأمة ولا لقيَمِهَا بأي سبب.
إن ذلك هو ما نسمعه ونشاهده ونقرؤه، من الفرص كما يقولون، من ذكر المجالات الكثيرة التي يدعى أبناؤنا وأهلونا لاستغلال الإجازة فيها.
نعم الإجازة، فما الذي ينبغي أن تعنيه، والسياحة وما يجب أن تكون عليه، هي وقفات أرجو أن لا تكون طويلة ولا مملة.
منها: أن ندرك جميعاً - أيها الأحباب - ما الذي نريد تحقيقه، نريد استغلال الإجازة في النافع المفيد وفي الترفيه البريء وفي التسلية والمرح، كل ذلك مع الحفاظ على ضوابط ديننا، وأحكام شريعة ربنا سبحانه وتعالى. فلنبحث عن ما يحقق لنا ذلك حقاً. وإنا لواجدوه.
ثانياً: أن لا ننسى أن أيام الإنسان في هذه الحياة معدودة، ومدة بقائه فيها قصيرة؛ مهما أحس المرء بطولها فهي تمضي كلمح البصر، ولعلك تتذكر الآن موقفاً مرَّ بك قبل عدة أعوام فتحس بأنه كان في الأمس القريب.
قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله وقد بدا عليه الإرهاق: أخر هذا إلى العمل إلى الغد، فقال: لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عمل يومين؟؟؟
وكما قال أبو تمام:
وحالتْ بي الحالاتُ عما عهدْتُهــــــا *** بكَرِّ الليالي والليالي كما هيـــــــا
أُصِّوتُ بالدنيا وليستْ تجيبنـــــــي *** أُحاوِل أن أَبقى وكيف بقائـــيــــا
وما تبرح الأيام تحذِفُ مُدَّتـــــــــي *** بِعَدِّ حسابٍ لا كَعَدِّ حِسابــيـــــــــا
أَقولُ لنفسي حين مالَتْ بِصَفْوِهـــا *** إلى خطراتٍ قد نَتَجْنَ أَمانيــــــــا
هَبيني من الدنيا ظفُرتُ بكلّ مـــــا *** تمنيْتُ أو أُعْطيتُ فوقَ الأمانِيـــــا
أَلَيْس الليالي غَاصباتيَ مَهُجْتَـــــي *** كما غَصَبَتْ قبلي القرونَ الخواليـا
ومُسكنَتي لحداً لدّى حُفْرةٍ بهــــــا *** يطِولُ إلى أُخرى الليالي ثوائــيــــا
فقد أَنِسَتْ بالموتِ نفسي لأننــــي *** رأيــتُ المنايا يخْترمْنَ حَيــاتيــــــا
فيا ليتَني مِنْ بعدِ مَوْتي ومَبْعَثـي *** أكونُ رفاتاً لا عليَّ ولا لِيــــــــــــــــا
أخَــافُ إلهــي ثـمَّ أَرْجــو نوالَــه *** ولكنّ خوفي قاهِرٌ لرجائيـــــــــــــــــا
ولولا رجائي واتّكالي على الـذي *** توَحَدَّ لي بالصُّنْعِ كهلاً وناشيــــــــــــا
لما ساغَ لي عَذْبٌ من الماءِ بـاردٌ *** ولا طابَ لي عيشٌ ولا زلتُ باكيـــــــا
إنها الدنيا: تبكي ضاحكاً، وتضحك باكياً. وتخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، وتفقر غنياً، وتغني فقيراً. تتقلب بأهلها، لا تبقي أحداً على حال. العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم. يجب أن لا ننسى هذه الحقيقة من حال الدنيا.
ثالثاً: تذكر أنك ما فكرت في الإجازة وأنها فسحة لك ولعائلتك، إلا لأن الله تعالى قد أنعم عليك بنعمة من بين نعمه العظيمة، فاعلم أنك مسؤول عن هذه النعم؛ هدايتك للإسلام، وصحة في الأبدان، وأمن في الأوطان، ووفرة في الأرزاق، ورفاهية في الملبس والمأكل والمشرب، وراحة في المسكن والمركب، وطمأنينة في النفس، فلا تنس أن هذه النعم متى شكرت زادت، ومتى كفرت انقطعت ونقصت وبادت كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. ويقول جل وعلا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
رابعاً: لا تنس أخي المسلم أن تجعل للحرمين من إجازتك نصيباً؛ تنعم فيهما بمضاعفة الأجر، وتهدأ فيهما النفس بالذكر والعبادة والشكر، وتربي بها أهل بيتك، وتنمي معرفتهم بدينهم وبتأريخ أمتهم، وبسيرة خير البشر صلى الله عليه وسلم. وتدرك عظيم فضل الله عليك أن يسر لك الوصول إلى تلك البقاع الطاهرة وقد حرم من ذاك أناس من إخوانك المسلمين كثير.
خامساً: الإجازة طويلة، وأيام الرحلات فيها معدودة، فليكن من أيامها أيامٌ يستفيد منها الأبناء والبنات، بل والكبار؛ بالمشاركة في المراكز المدرسية الصيفية، والدور النسائية الخيرية. واعلم أن تلك المحاضن المباركة فرص استغلال وتوجيه للشباب والفتيات، وصرف لهم عن مسالك الردى والتيه والضياع وتخطف المغرضين، فشبابنا طاقات وقوة وفتوة، فإن لم توجه وتضبط صارت تلك الطاقات طلقات، ولهذا فإن من يريد مصلحة البلد وشبابه وفتياته يحرص على تلك المحاضن ويوجه إلى ضرورة الاستفادة منها والسعي لتحقيق أهدافها.
سادساً: نحن أمة لها ثقافتها الخاصة بها، وعندها دين واضح الأحكام وبين التشريع، فليس من العقل والدين أن نلبي رغبات الناس المخالفة لقيم الأمة وذلك بجلب الفساد، وإشهاره، ولكن نربأ بحياة الناس عما فيه غضب جبار الأرض والسماء، فليست الإجازة إجازة عن الطاعة والعبادة، فيعب المرء فيها من المحرمات بدعوى الترفيه والفسحة، ولكن الإجازة راحة من هموم الحياة الدنيوية، وأنس بالإخبات والطاعة لرب البرية، وتنعم بما أنعم الله به من الصحة والمال والإمكانات. وشكر صادق للرب الرازق.
وأخيـراً:
فإن هنالك محاضن توجيه ومنابع خبرة وموطن حصيلة معرفية عظيمة، هنالك منابع فكر وموئل تجارب هم كبار السن المجربين، مجالستهم والاستماع إلى أحاديثهم وأخبارهم، والاستفادة من خبراتهم وتجربتهم في الحياة، تلك محطة من محطات الإجازة، فكبار السن هم أشجار الوقار، ومناجع الأخبار، لا يطيش لهم سهم، ولا يسقط لهم وهم، إذا رأوك في قبيح صدوك، وإن أبصروك على جميل أيدوك وأمدوك.
عباد الله:
يقول الله تعالى مذكِّراً عباده ومنبهاً لهم على أمرٍ عظيم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116].
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ♦♦♦ وكل يوم مضى يدني من الأجل
عباد الله:
المرء بين يدي الله سيسأل عن هذا الوقت، فيم قضاه، كيف استغله، قال عليه الصلاة والسلام: «لن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به».
إذا كان الأمر كذلك، فلنقدم لنا عملاً نلقاه عند الله شافعاً لنا، فويل ثم ويل لمن أهدر وقته في الملهيات والضياع واللهو، فأضاع دنياه وآخرته، ثم يوم القيامة يكون مع الذين يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37]. فيأتيهم الجواب من الله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
عباد الله:
اشغلوا أنفسكم في هذه الإجازة بخير، والحمد لله فأعمال الخير كثير، وفرص الصالحات تترى علينا من كل نوع وبفرص كبيرة، فلنستغل لحظات أعمارنا، ولنوجه للخير من تحت ولايتنا.
________________________________________________
د. إبراهيم بن حماد بن سلطان الريس