الهروب من الجيش يهدد بقاء الكيان الصهيوني
تهرُّب نحو ربع الشباب من الخدمة العسكرية في ذلك العام دفع رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال (غابي أشكنازي) إلى شجب ظاهرة التهرب من الخدمة في الجيش ووصفها بأنها «تنهش المجتمع والجيش في إسرائيل»
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
عَرفت المجتمعات البشرية تحولات عدة قبل قيام الدولة القومية بشكلها الحديث، لأن البحث عن الموارد والأمن والتعايش السلمي وغيرها من ضرورات الحياة، لا يختلف من حيث الجوهر والمضمون من مجتمع لآخر، لكن تحقق تلك الضرورات الحياتية استدعى مع مرور الوقت البحث عن وسائل أكثر حضارية، فاهتدت المجتمعات إلى طريق المؤسسات الرسمية لتمثل الجميع وتطورت تلك المؤسسات بقدر الحاجة إليها. لكن السرد التاريخي لتطور المجتمعات الطبيعية وما يكشف عنه من ملامح تطور مؤسساتها يبدو مختلفاً بالنسبة للمجتمع الصهيوني، فهذا الأخير له خصوصيته، أو بتعبير آخر: لم يعرف المجتمع الصهيوني تلك الصيرورة التاريخية التي تعيشها المجتمعات الأخرى، لأن العصابات المسلحة كانت بمثابة النواة الأولى له، وتلك العصابات أو التنظيمات المسلحة تأتي عادةً بعد الحياة المدنية، لكن العكس صحيح بالنسبة للمجتمع الصهيوني، وهذا ما يفسر أهمية البعد الأمني في العقيدة الصهيونية.
لم تكن حياة اليهود في أرض فلسطين قبل قيام الكيان الصهيوني عام 1948م مميزة عن المجتمعات الغربية التي كانت تحتضن غالبية اليهود قبل هجرتهم إلى فلسطين، ورغم ذلك كان الانضمام إلى العصابات الصهيونية المسلحة يستهوي جزءاً ليس بقليل من الشباب اليهودي، فالعصابات الصهيونية التي واجهت نحو سبعة جيوش عربية عام 1948م مكونة من نحو 20 ألف جندي، نجحت في تجنيد أكثر من 45 ألفاً من المقاتلين الذين تمكنوا من إعلان كيانهم على أرض فلسطين.
ذلك العدد الذي تجاوز ضعف الجيوش العربية آنذاك يدلل على عسكرية المجتمع الذي تحول في ظرف عقدين من الزمان من مجتمع صغير لا يتجاوز تعداده عشرات الآلاف إلى مجتمع يبلغ تعداده مئات الآلاف بفضل موجات الهجرة. وبعد مرور أقل من عقدين إضافيين وصل تعداد الجيش الصهيوني إلى نحو ربع مليون شاركوا في الحرب على العرب عام 1967م، واحتلوا ما تبقى من أرض فلسطين وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان. غير أن الملاحظة الجديرة بالاهتمام في هذا السياق هي أن تعداد الجيش الصهيوني قد تضاعف ست مرات في أقل من عقدين، في حين أن تعداد اليهود في أرض فلسطين لم يكن يتجاوز حدَّ مليوني نسمة؛ أي أن نسبة الجيش الصيهوني منهم نحو الثُمن، وهي نسبة كبيرة مقارنةً مع تعداد الجيوش في بلدان أخرى.
رغم تطور الجيش الصهيوني من حيث العنصر البشري والعسكري والتكنولوجي خلال العقود الماضية، ووصول نسبة انضمام الشباب اليهودي للخدمة العسكرية إلى 90%؛ إلا أن عام 2007م شكَّل علامة فارقة لم تعتدها المؤسسة العسكرية من قبل، لأن إشكالية تهرُّب الشباب اليهودي من الخدمة في الجيش الصهيوني بأعداد كبيرة أضحت ظاهرة تحظى باهتمامٍ كبيرٍ على مستوى قيادة الجيش والكنيست وعلى مستوى الإعلام الصهيوني، فتهرُّب نحو ربع الشباب من الخدمة العسكرية في ذلك العام دفع رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال (غابي أشكنازي) إلى شجب ظاهرة التهرب من الخدمة في الجيش ووصفها بأنها «تنهش المجتمع والجيش في إسرائيل».
كما ربطت صحيفة معاريف في ديسمبر 2007م بين الفئات المتدينة المعفية من الخدمة العسكرية ومدعي التدين، لكن الأسباب النفسية كانت هي السبب الأبرز في التهرب من الخدمة العسكرية ولم تزل، كما أن ما تقدمه الخدمة العسكرية من محفزات مادية لعناصر الجيش الصهيوني لم تعد محل اهتمام الشباب، لأن التهرب لم يتوقف عند النِّسب المذكورة، ومنحنى التهرب ظل يأخذ شكلاً تصاعدياً، فوصول نسبة المجندين الذين يفضلون الانضمام لوحدات قتالية داخل الجيش إلى 81% عام 2011م، تراجع ليصل إلى 65% بعد عامين فقط؛ أي بعد الحرب على قطاع غزة عام 2012م، وهذا ما دفع قيادة الجيش حينها إلى مطالبة الحكومة والكنيست بسن قوانين وتشريعات تفصل بين الخدمة العسكرية عموماً، والخدمة القتالية داخل الجيش لتجاوز ظاهرة التهرب.
خلال عام 2020م بلغت نسبة التهرب بين الشباب المرشحين إلى الخدمة العسكرية إلى الثلث، وهو ما وصفه (عوفير شيلح) رئيس لجنة مراقبة الدولة بالكنيست بـ (انهيار الدولة). وذلك التصريح يعيدنا إلى بداية المقال؛ فالدولة التي قامت على العصابات المسلحة من الطبيعي أن تكون مُعرضة للانهيار بانهيار الجيش، خلافاً للمجتمعات الطبيعية التي تتمكن مع الوقت من استعادة تماسكها بعد الأزمات.
والأكثر خطورة من ذلك أن نسبة الثلث المعلنة لا تُعبِّر عن مجموع السكان داخل الكيان الصهيوني! لأننا نتحدث عن كيان يصل تعداد سكانه نحو 9 ملايين نسمة منهم مليونان من العرب، ونحو 11% من المتدينين المعفيين بحكم القانون من الخدمة العسكرية، وبذلك يصبح أكثر من نصف السكان الذين تنطبق عليهم شروط الخدمة العسكرية، إما معفيون منها بحكم عنصرية الكيان إذا ما تعلق الأمر بوضع العرب، وإما معفيون للأسباب النفسية التي يعتمد عليها المتهربون، وإما بحكم القانون الذي يعفي المتدينين.
إذا كان وزراء الدفاع السابقون قد اعتادوا على تجديد قرار إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية بتوصيات منهم وقرارات تصدر عن المحكمة العليا من أجل تجنب المواجهة مع المتدينين، فإن هذا الخطر الداهم الذي يواجه مؤسسة الجيش لم يعد مُحتمَلاً بالنسبة للقيادة العسكرية الحالية، فالأمر بالنسبة لوزير الدفاع الحالي (بيني غانتس) أصبح مسألة حياة أو موت، لأن تصريحاته التي نقلها موقع (تايمز أوف إسرائيل) الإخباري في نهاية شهر يناير 2021م، توضح خطورة المرحلة التي تعيشها دولة الاحتلال؛ وخاصةً أن (غانتس) لم يكتفِ بالحديث عن إجبار المتدينين على التجنيد، بل تطرق إلى العرب داعياً إلى تجنيدهم داخل جيش الاحتلال.
وهنا قد تكون دولة الاحتلال على موعد مع أزمات داخلية خلال الأسابيع القليلة القادمة، لأن (غانتس) هدد بعدم تمديد القانون الذي يعفي المتدينين من الخدمة العسكرية، الأمر الذي سيجعل الحكومة الصهيونية في مواجهة مع المتدينين، وخاصةً أن قضية تجنيد هؤلاء كانت واحدة من الأسباب التي أدت إلى تصاعد الخلافات بين رئيس الحكومة (نتنياهو) و (غانتس) وقد وصلت إلى حل الكنيست في ديسمبر الماضي وتوجه الكيان إلى رابع انتخابات في غضون عامين فقط.
تصريحات (غانتس) التي جاءت ضمن خطة يسعى الجيش إلى تنفيذها بعد موافقة رئيس الحكومة (نتنياهو) للتخفيف من الأزمة البشرية التي تعيشها المؤسسة العسكرية، تأتي قبل أسابيع قليلة من الانتخابات المبكره المقررة في 23 مارس المقبل، وقد فسرها بعض المحللين في إطار الدعاية الانتخابية، وذلك أمر منطقي ومُعتاد داخل الكيان الصهيوني، لأن الحسابات الانتخابية تقوم على صفقات ومصالح مختلفة تظهر عادةً بين أحزاب اليمين المتطرف ورجال الدين، غير أن القضية الآخرى تتعلق بنحو مليوني عربي باتوا مطالبين بتقديم الخدمة العسكرية في كيان لا يعترف بوجودهم أصلاً! فقـانون القوميـة أو يهودية الدولة يتعارض مع مطالب (غانتس) لأن رفض دمج العرب في المجتمع الصهيوني له أسباب دينية عنصرية تتجاوز مسألة المصلحة العامة للكيان، وهذا الأخير يحاول على مدار عقود طويلة جلب المزيد من السكان عبر الهجرات متجاهلاً الاعتماد على السكان العرب، لذا فإن حديث (غانتس) هنا يدلل على مستوى عمق الأزمة التي يعيشها الكيان.
لم تكن تصريحات وزير الدفاع (غانتس) مجرد شعور شخصي بالخطر أو محاولة لتشجيع الشباب اليهودي على الانضمام إلى الجيش، لأنها اقترنت بخطة تعكـف المستويات العليا في الجيـش على صياغتها وعرضها على الحكومة، بهدف تجنيد أكبر عدد من الشباب بغضِّ النظر عن أي أسباب نفسية أو دينية. وتلك الخطة تحمل محفزات إضافية للمجندين، أبرزها تأهيلهم بعد الانتهاء من الدراسة وإيجاد وظائف مناسبة لهم، مع تقصير مدة الخدمة العسكرية، بحيث يكون الجيش الصهيوني ممثلاً للشعب كله، وليس لنصف الشعب كما جاء في تصريحات (غانتس).
يمكن للكيان الصهيوني مواجهـة كثير من الأزمات العرقية والدينية والأمنية، غير أن المؤسسة العسكرية تمثل عصب المشروع الصهيوني، ولم يُكتب النجاح لهذا الأخير خلال عقود طويلة إلا بفضل المؤسسة العسكرية التي لا يتوقف دورها عند توفير الأمن الداخلي والخارجي بأدوات ووسائل عسكرية واستخبارية؛ بل يتجاوز دورها أبعد من ذلك بكثير، فالتطور التكنولوجي الذي يعرفه الكيان حالياً لم يكن ليتحقق إلا بفضل المؤسسة العسكرية التي تشرف على وحدات لتطوير كثيـر من الوسائل التكنولوجية ثم تتحول إلى صناعة تميز دولة الاحتلال وتجذب لها الكثير من الحلفاء.
من ناحية أخرى فإن المؤسسة العسكرية ليست ببعيدة عن الواقع الاقتصادي، فصناعاتها تمثل رافعة حقيقية للاقتصاد الصهيوني، فضلاً عن دورها الاجتماعي، والملاحظ خلال العقد الأخير وصول كثير من المتدينين إلى مستويات قيادية عُليا داخل الجيش، وهذا ليس أمراً عبثياً حتى لو كان محل انتقاد العلمانيين، لأن نفوذ رجال الدين سياسياً لن يتحقق إلا بالموازة مع نفوذهم داخل الجيش، وهذا الأخير يقدم صورة حقيقية كاملة للكيان الصهيوني وليس مجرد مؤسسة عسكرية، لذا فإن اتجاه غالبية المجتمع الصهيوني إلى الحياة المدنية وتهرُّب هذه النسب الكبيرة من التجنيد هو بمثابة مؤشر خطير ينذر بتهديد حقيقي للكيان الصهيوني يفوق أي مخاطر أو مهددات أخرى.
_______________________________________________
الكاتب/ إياد جبر