تعويضات اليهود وخبايا التطبيع
تشير التقديرات التي تحاول الدولة العبرية الترويج لها إلى أن ممتلكات اليهود من الأراضي تصل إلى قرابة 40 ألف ميل مربع وهذه المساحة تعادل خمسة أضعاف مساحة فلسطين المحتلة!
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
في عام 2009م أقر الكونجرس الأمريكي مشروع قانون بضغط من اللوبي اليهـودي في الولايات المتحدة الأمريكية يعترف بــما يروِّج له حديثـاً بصورة فجة مصطلحُ (اللاجئين اليهود)، وبموجب هذا القانون فإن أي «اتفاقِ سلامٍ بين العرب وإسرائيل يجب أن يتضمن علاجَ الحقوق المشروعة للاجئين وفيهم اليهود والنصارى من دول الشرق الأوسط». لم تتردد الدولة العبرية كثيراً في تحويل هذا القانون إلى ظاهرة تشريعية في الكنيست عام 2014م ليصبح يوم الـ 30 من نوفمبر في كل عام «يوم إحياء ذكرى طرد اليهود من الدول العربية وإيران»؛ على اعتبار أن تلك قضية عالقة ويجب أن يتبناها المجتمع الدولي بالتوازي مع تبنِّيه قضية اللاجئين الفلسطينيين.
بعد سنوات قليلة من بحث (سري) - كما وصفته قناة (حداشوت) العبرية - تمكنت شركة محاسبة عالمية بالتعاون مع جهات (إسرائيلية) من بينها جهاز الموساد من حصر ممتلكات 856 ألف يهودي هاجروا من ثماني دول عربية وإيران، ليتم تقديرها بـ 250 مليار دولار. وأشارت إلى أن (إسرائيل) ستطالب في الوقت الراهن تونس بتعويضات تقدَّر بـ 35 مليار دولار بينما ستطالب ليبيا بـ 15 مليار دولار، وستشمل تلك المطالبات كلّاً من المغرب والجزائر والعراق وسوريا ومصر واليمن وإيران.
وتشير التقديرات التي تحاول الدولة العبرية الترويج لها إلى أن ممتلكات اليهود من الأراضي تصل إلى قرابة 40 ألف ميل مربع وهذه المساحة تعادل خمسة أضعاف مساحة فلسطين المحتلة!
فكرة الطرح اليهودي الذي أصبح خطاباً دبلوماسياً تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تبنِّيه من قِبَل المنظمات التابعة للأمم المتحدة لا يتوقف فقط عند كونه ابتزازاً مادياً للدول والحكومات العربية بل أيضاً هو إعادة صياغة للمفهوم الإنساني في التعاطي مع القضية الفلسطينية إسوة بما فعلته الدبلوماسية اليهودية الناعمة مع الألمان في مسألة (الهولوكوست)، فقد صرحت وزيرة المساواة الاجتماعية السابقة في (إسرائيل) جيلا جمليئيل قائلة: «يجب الاعتراف بجميع الجرائم التي ارتكبت ضد المجتمعات اليهودية في الدول العربية».
قبل عقد من الزمان حاولت السلطة الفلسطينية الحصول على تعويضات تقدَّر بـ 100 مليار دولار عن الأصول التي تركها السكان الفلسطينيون بعد نزوحهم من أراضيهم إثر هجمات العصابات الصهيونية على قراهم ومدنهم، وقدمت وثائق بذلك؛ لكن تلك المحاولة باءت بالفشل لعدة أسباب، أبرزها أنها لم تحظَ بالاهتمام الدولي الكافي لدعمها، ولم تشهد تبنِّياً عربياً واضحاً لهذا الخيار بصفته أحد خيارات مقاومة الاحتلال، كذلك فإن الولايات المتحدة أيضاً لم تدعم هذا الطرح وتصدت - كعادتها - لأي قرار ينتصر للحق الفلسطيني.
تأتي مطالبات الدبلوماسية الإسرائيلية بتعويضات لليهود بالتزامن مع وقف الإدارة الأمريكية للدعم الموجه لمنظمة إغاثة ومساعدة اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تم إنشاؤها بقرارات دولية لتقديم المساعدات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم بسوريا ولبنان والأردن وقطاع غزة والضفة المحتلة، وكذلك مع الضغط الصهيوني المكثف للتطبيع مع الدول العربية بصفته فرصة لتجاوز الحق الفلسطيني والقرارات الدولية التي تدعمه، لذلك يتم تفسير كثير من التصريحات الإسرائيلية - لا سيما ما صرح به السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، داني دانون، في 1 ديسمبر 2015م حول (إحياء ذكرى اللاجئين اليهود من الأراضي العربية) - في سياق المقايضة بين حق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وبين ما تدعيه الدولة العبرية من مطالبات بشأن العصابات اليهـودية التي احتلت فلسطين تحت وصف (اليهود العرب).
وعلى الرغم من أن المطالبات الإسرائيلية ما تزال في سياق طلبات الإحاطة لأعضاء الكونغرس والمناورات الدبلوماسية في الأمم المتحدة مع وجود رفض من قبل المنظمات الدولية لتبنِّي ذلك الخيار؛ إلا أن ذلك لا يعني أنه بالإمكان تجاهل هذه الكارثة الدبلوماسية التي قد تنزل قريباً بصانع القرار العربي في حال حققت أدوات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة اختراقاً للاعتراف بمثل هذا المشروع وصدر فيه قرار نافذ عن الأمم المتحدة.
يقول مارتن كرامر، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، معقبـاً على هذا الأمر: «حينما وقَّعت إسرائيل اتفاقية كامب دايفيد مع مصر، لم تطالبها بتعويضات لليهود الذين خرجوا من مصر، لأن إسرائيل لديها مصلحة إستراتيجية في السلام مع الدول العربية، وإذا كانت أي دولة عربية مستعدة لعقد صفقة دون تعويض فإن الحكومة الإسرائيلية ستكون متحفزة لذلك». من هذا المنطلق يمكن تفسير مشروع التعويضات الإسرائيلي في سياق تشكيل أدوات ضغط لجرِّ مزيد من الدول العربية للتطبيع وإجبارها على التعامل بحياد مع الملف الفلسطيني.
تقول إحصائية نشرتها (الأونروا)، إن عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها مطلع عام 2020م بلغ 6.7 مليون فلسطيني في الخارج، ورغم كثير من المطالبات بحقهم في العودة إلى ديارهم ووجود قرارات أممية بهذا الصدد؛ إلا أن قضيتهم تواجه رفضاً إسرائيلياً صارماً على اعتبار أن مَنْحَهم حق العودة يعني نهاية المشروع الصهيوني، لذلك يرى بعض المحللين أن مطالبات اليهود التي أصبحت تطفو على السطح مؤخراً ربما تأتي في سياق تنازل (إسرائيل) عن مشروع التعويضات من الدول العربية مقابل توطين اللاجئين الفلسطينيين فيها.
إن ما كُشِف من معلومات حول هذا المشروع لا يخرج عن إطار محاولات الدولة العبرية انتزاع اعترافات أممية بقضية (اللاجئين اليهود) تمهيداً لاستثمارها في قرارات دولية يتم من خلالها القبول بمعادلة توطين اللاجئين الفلسطينيين وإسقاط حقهم بالعودة إلى ديارهم التي طُرِدوا منها عام 1948م.
كذلك فإن هذا الملف يُعدُّ ورقة رابحة لإجبار العديد من الدول العربية على التطبيع مع دولة الصهاينة هرباً من ملف التعويضات المكلف الذي قد تنجح الدبلوماسية الصهيونية بإقراره بدعم من الإدارة الأمريكية على المدى البعيد. لذلك ينبغي أن يكون هناك دبلوماسية عربية يقِظَة لإفشال هذا المشروع في بدايته قبل أن يتحول إلى عبء ثقيل ومكلف على النظام السياسي والاقتصادي العربي، والتهاون في التعاطي معه سيخلِّف تبعات وكوارث سيتم دفع ثمنها على مدار عقود طويلة سواء مادياً أم سياسياً.