همم
حاولْ جَسيماتِ الأمورِ ولا تَقُــلْ ... إن المحامدَ والعُلــــى أرزاقُ
وارغبْ بنفسِك أن تكون مقصِّراً ... عن غايةٍ فيها الطِّلابُ سِباقُ
- التصنيفات: تزكية النفس -
عُلوُّ الهمَّةِ من أهمِّ الصفاتِ البشريةِ التي غَرسَها اللهُ عز وجل في النفسِ البشريةِ، وعُلوُّ الهمَّة هو الذي يَمنحُ الإنسانُ قيمتَه بين الناسِ، ويرفَعُ قَدرَه ويُعْلي ذِكرَه، وربَّما بقيَ اسمُه في ذاكرةِ الأجيالِ التي بَعده مرتبطًا بالثناءِ والذكرِ الحسنِ عُقودًا وقُرونًا.
وهو من أجلِّ الصفاتِ التي يتميزُ بها الإنسانُ المؤمنُ، وخاصةً أن همتَه تقوده إلى ما فيه الخيرُ لنفسِه ولأمتِه، فبِهمَّةِ المسلمين المخلِصين يُشقُّ طريقُ العزةِ والكرامةِ للأمَّةِ.
فعُلوُّ الهمَّة هُو المنبَع الذي تتدفَّقُ منه أنهارُ الحياةِ في وُجدان الأمةِ بالخيرِ والرشادِ، وهُو الذي يُثمر إقامةَ الدينِ وعمارةَ الدُّنيا بالأعمالِ العظيمةِ التي تتطلَّب الكَدَّ والاجتهادَ والمثابرةَ والتضحيةَ، فهذه كلُّها مِن ثمارِ عُلوِّ الهمَّةِ.
وعُلوُّ الهمَّةِ من الأعمالِ القلبيةِ التي تبْعثُ الإنسانَ على العملِ والجدِّ والاجتهادِ للوصولِ إلى الأهدافِ التي يَطمحُ إلى تحقيقِها، والهمَّةُ العاليةُ قد تكونُ أبلغَ من الأعمالِ، فنيةُ المؤمنِ قد تكونُ خيرًا من عملٍ قد يدخُله به غرورٌ أو ينالُه أذىً يجعلُه يندَمُ عليه
ومَن تعلَّقت همَّتُه بأعمالِ البِرِّ، كتلاوةِ القرآنِ والإنفاقِ، لكن حالَ بينَه وبينَ ما تسمُو إليه هِمَّتُه من ذلك عجزٌ معنويٌّ أو ماديٌّ أعطاه اللهُ مثلَ أجرِ من يَغبطُه ممَّن يقرأونَ القرآنَ ويُنفقونَ في سبيلِ الله.
وقد جاء دينُنا الحنيفُ بالحثِّ على علوِّ الهِمَّة، قال تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً» (رواه البخاري). ورُبّ درهمٍ سبقَ ألفَ درهمٍ بهمةِ صاحبِه وصِدقِه.
وعلوُّ الهمَّةِ من القيمِ الدينيةِ التي تُعتبرُ مبادئَ أساسيةً للنجاحِ في الحياةِ بصفةٍ عامةٍ، والحديثُ عنه من الضـرورياتِ الملحَّةِ التي تَفرضُها طبيعةُ الحياة، وتحثُّ عليه عقائدُ وتشريعاتُ الدينِ الإسلاميِّ الحنيفِ.
وقد علمَ أصحابُ الهممِ العاليةِ من أبناءِ الإسلامِ قديمًا وحديثًا أن نهضةَ الأمَّةِ وعزَّها لا يُمكنُ أن تتحققَ إلا بالجدِّ والإخلاصِ في العملِ، فعلوُّ الهمة أن تتعلَّمَ ألا تجلسَ مكانَك مستسلمًا مستكينًا، بل أن تنهضَ وتكونَ من السباقين في أعمالِ الخيرِ، حتى تحفِّزَ بنهوضِك مَن حوْلَك مِن أبناءِ دينِك إلى العملِ من أجلِ تحقيقِ الرِّفعةِ للدينِ وأهلِه.
وإذا ألقيتَ نظرةً عابرةً إلى حياةِ السلفِ الصالحِ تجدُ أنَّهم من أصحابِ الهممِ العاليةِ، وقد دلت الآثارُ الواردةُ عنهم على عنايتِهم بموضوعِ علوِّ الهمةِ، وحثِّهم للناسِ عليه ، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا تُصُغِّرَنّ همتَك , فإني لم أرَ أقْعَدَ بالرجلِ من سقوطِ همتِه)، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وَكَمَالُ كلِّ إنسانٍ إِنَّمَا يتم بِهمةٍ تُرقّيه وَعلمٍ يُبصِّره ويَهديه).
ففي هذين الأثرين ما يدلُّ على أهميةِ علوِّ الهمةِ وحثِّ المسلمين على أن يَكونوا من أصحابِ الهممِ العاليةِ.
ومن تأملَ حالَ الصحابةِ رضوان الله عليهم وجدَ أن القاسمَ المشتركَ بينهم هو علوُّ الهمةِ، فقد كانتْ هممُ الصحابةِ عاليةً وإن تنوّعت ميادينُهم من طلبٍ للعلمِ ودعوةٍ وجهادٍ وتربيةٍ وعبادةٍ، وقد قال عمر واصفًا هِممَ الصحابةِ: (وددت لو أنَّ لي ملءَ هذه الدارِ رجالًا كأمثال أبي عبيدةَ ومعاذٍ وسالمٍ مولى أبي حُذيفةَ؛ فأطوفُ بهم الديارَ أبلِّغُ بهم دعوةَ اللهِ في الآفاقِ).
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من الأمثلةِ الرائعةِ على علوِّ الهمةِ في العبادةِ فقد كان في يومٍ أصبحَ صائمًا، واتَّبعَ جنازةً، وأطعم مسكينًا، وعاد مريضًا، أما في طلبِ العلمِ فهذا عبدُ الله بنُ مسعودٍ الذي قال: (والله لقد أخذتُ مِن فِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورةً، والله لقد علمَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أني من أعلمِهم بكتابِ الله، وما أنا بخيرِهم).
أما في علوِّ الهمةِ في الجهادِ فهذا حنظلةُ الذي أسرع إلى الجهادِ وهو جنبٌ صبيحة عُرسِه فقاتل فاستُشهدَ فغسَّلته الملائكةُ، والكتبُ مليئةٌ بنماذجَ من علوِّ همةِ الصحابةِ رضوان الله عليهم ومَن جاءَ بعدهم من المسلمينَ إلى يومِنا هذا في مختلفِ الميادينِ.
وقد ذخرَ التراثُ العربيُّ الإسلاميُّ بالحثٍّ على علوِّ الهمَّةِ، فمن ذلك قولُ الشاعرِ مبيِّنا أن لا حدودَ لأصحابِ الهممِ العوالي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مَرومٍ ... فلا تَقنَعْ بما دُونَ النَّجوم
وقال آخرُ مبيِّنًا أن من أسوءِ ما يعابُ به الإنسانُ أن تقصُرَ به همتُه عما يُمكنُه الوصولُ إليه من معالي الأمور:
ولمْ أَرَ في عيوبِ الناسِ عيبًا...كنقصِ القادرينَ على التَّمامِ
وقال آخر يحثُّ على الالتحاقِ بركبِ أصحابِ الهممِ العوالي:
حاولْ جَسيماتِ الأمورِ ولا تَقُــلْ ... إن المحامدَ والعُلــــى أرزاقُ
وارغبْ بنفسِك أن تكون مقصِّراً ... عن غايةٍ فيها الطِّلابُ سِباقُ
____________________________________________
الكاتب: د.عبدالله بن معيوف الجعيد