التبكير إلى الصلوات

المساجد هي بيوت الله في أرضه، يأوي إليها عباده ليلاً ونهارًا للصلاة فيها والذكر، فالأصل أن من بداخلها ليس له مَطمَع أو حظ من حظوظ الدنيا، إنما إرادة الله والدار الآخرة؛ فلِذا كانت أحب الأماكن إلى الله، وأضيفت إليه إضافة تشريف لبيان عِظَم قدره

  • التصنيفات: الحث على الطاعات -
التبكير إلى الصلوات

المساجد هي بيوت الله في أرضه، يأوي إليها عباده ليلاً ونهارًا للصلاة فيها والذكر، فالأصل أن من بداخلها ليس له مَطمَع أو حظ من حظوظ الدنيا، إنما إرادة الله والدار الآخرة؛ فلِذا كانت أحب الأماكن إلى الله، وأضيفت إليه إضافة تشريف لبيان عِظَم قدرها، فتعظم الدار وتتأكد حرمتها بعظمة صاحبها، ولما كانت الأسواق - أماكن البيع والشراء - مظنةَ المخالفات الشرعية، فيعصى الله فيها - أصبَحَت مُبغَضة مِن الله؛ فعَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحَب البلادِ إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» رواه مسلم (671).

عبادَ الله:

من علامات توفيق الله لعبده ومحبته له أن يحبِّب له ما يحبُّه ويَرضاه، فيحبِّب له المساجد، فيألفها ويرتاح بالبقاء بها.

ومما يُغبَط عليه البعض من كبار السن الجلوس في المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ومن ذلك: إذا صلى أحدهم المغرب، بقي في المسجد حتى يصلي العشاء، قد فرغ نفسه في هذا الوقت، وعرف زواره أنه لا يوجد في هذا الوقت، قد حصل على خيري الدنيا والآخرة، فارتاح في هذا الوقت مما يحصل من ضجة الصِّغار وكثرة لعبهم وأرضى ربه، وحصل على الأجر الكبير، وكذلك ممن يغبط طلاب العلم الذين يتعلمون العلم ويعلمونه بين الصلوات، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

أسأل الله أن يزيد المطيع هداية وتوفيقًا، ويهدي الجميع لفضائل الأعمال؛ فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات»؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطَا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» رواه مسلم (251).

فأجر الرباط يحصل لمنتظِر الصلاة، ولو لم يكن مشغولاً بنَفْل طاعة من صلاةٍ وقراءة قرآن وذكر وغير ذلك من القُرَب، فجُلُوسه ينتظر الصلاة الآتية - في حدِّ ذاته - عبادةٌ يؤجَر عليها.

وكل من جلس ينتظر الصلاة، سواءٌ صلَّى الفرض وجلس ينتظر الفرض الآخر أم بكَّر للمسجد - فله أجر المصلي الراكع الساجد، وهو جالس ينتظر إقامة الصلاة؛ فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الملائكة تصلي على أحدكم، ما دام في مُصلاَّه، ما لم يُحدِث: اللَّهم اغفر له، اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنَعه أن ينقلِب إلى أهله إلا الصلاة» رواه البخاري (659)، ومسلم (649).

فذلك فضل عظيم، ينبغي للحريص على الفوز بالنعيم المقيم والدرجات العلى أن ينافس عليه، وأن لا يفرط فيه، ويغتنم وقت القدرة والفراغ؛ فقد يحال بينه وبين ما يشتهي، ويتمنَّى العمل فلا يقدر عليه:

أحْسِنْ إذَا كَانَ إمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ  ♦♦♦ فَلا يَدُومُ عَلِى الإنْسَانِ  إمْكَانُ

 

ومن علامات محبة الله لعبده توفيقه للخير، ومن ذلك التبكير إلى الصلوات، فتجد الرجل الحازم يبكِّر للصلاة يستعد لها قبل حضور وقتها، وربما حضر قبل الآذان؛ ففي التبكير خير كثير مَن حُرِمَه حُرِمَ خيرًا كثيرًا؛ كيف لا يكون محرومًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصفِّ الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوًا» رواه البخاري (615) ومسلم (437).

وفي التبكير للصلوات: أن المبكِّر يدرك المكان الفاضل، فيدرك ميمنة الصف الأوَّل، ويكون قريبًا من الإمام، ممتثلاً الأمر؛ فعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلاَمِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ -[ثَلاَثًا]- وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ» ، [أي: ما يحصُل في الأسواق من لغط ورفع للأصوات]؛ رواه مسلم (432).

لكن البعض يفهم أن المراد من الحديث منع الصغار المميزين من الصف الأول، والدنو من الإمام، وهذا مما لا يدل عليه الحديث، كيف يُمْنع الصغير المميّز من الصف الأول، ومن الدنو من الإمام، وقد أقر الصحابةُ على تقديم المميز ليصلي بهم؛ لأنه أكثرهم قرآنًا؟! فإذا جاز أن يتقدم عليهم جاز أن يكون معهم في الصف؛ فعن عمرو بن سَلَمة، عن أبيه في قصة قدوم أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال في حديثه: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمَّكم أكثركم قرآنًا»، فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآنًا منّي؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردة كنت إذا سجدت تقلَّصَت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تُغَطُّون عنَّا اسْتَ قارئكم - أي: دُبُرَه - فاشتروا، فقطعوا لي قميصًا، فما فرحت بشيءٍ فرحي بذلك القميص؛ رواه البخاري (4302).

ومن فضائل التبكير: أن المبكر يحافظ على السنن الرواتب القبلية، التي من حافظ عليها، بُنِي له بيتٌ في الجنّة لا يزول ولا يحول ولا يخرب؛ روى مسلم (728) بإسناده عن النُّعْمَانِ بنِ سالمٍ، عن عمرو بن أَوْسٍ، عن عَنْبَسَةَ بن أبي سُفْيَانَ، عن أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ؛ إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ»، قَالَتْ أَمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ، وقَالَ عَمْرٌو: مَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ، وقَالَ النُّعْمَانُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ فالعلم الحقيقي: هو العلم النافع الذي يورث العمَل، وهكذا كان عِلْم السلف من الصحابة ومن بعدهم من أهل القرون الثلاثة المفضلة، بخلاف بعض من أتى بعدهم.

ومِن فضائل التبكير: أن المبكِّر قد امتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم واجتنب نهيَه، بخلاف المتأخر الذي لا يحضر إلا بعد الإقامة، فتجده يأتي مسرعًا، له جلبة في المسجد يشوش بها على المصلين؛ ليدرك الركعة مع الإمام قبل أن يرفع من الركوع.

عن أبي قتادة قال: بينما نحن نُصلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ سَمِعَ جلبةَ رجالٍ، فلمَّا صَلَّى دعاهم، فقال: «ما شأنكم» ؟ قالوا: يا رسول الله، استعجلنا إلى الصلاة، فقال: «لا تفعلوا، فإذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصَلُّوا، وما سُبقتم فأَتِمُّوا» رواه البخاري (635) ومسلم (603).



معاشرَ الإخوة:

مما يسوء كل مسلم يحب لإخوانه الخيْرَ: ما نراه في بعض مساجدنا، عندما تُقَام الصلاة على عدد يسير، ربما لا يتجاوز أصابِعَ اليد الواحدة أحيانًا، فإذا سلَّم الإمام، قام أكثر المصلين بالقضاء، عجبًا من عاقل مؤمن بعداوة الشيطان له، لا يزال يوافقه بما يهوى ويستجيب لما يمليه عليه؛ {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}  [ص:79 - 83].

لنسأل أنفسنا عن سبب هذا التأخُّر، وهل هناك ما يشغلنا عن الصلاة، أو أنه التسويف والانشغال بأشياء لا تفوت من مأكل ومشرب ومحادثة وغير ذلك؟!

إخواني:

الكثير منا ليس براضٍ عن هذه الحال، ويتمنَّى لو غيّر هذا الواقع، وحضر مبكرًا للمسجد، وأصبح في عداد المبكرين للصلوات، ولا شك أنَّ هذا شعور طيِّب واستشعار للخطأ، لكن لا يكفي هذا الشعور، بل لا بد أن يترجم بعمل؛ ليبرهن على صدق صاحبه وأنَّه ليس مدعيًا، وليعلم أنَّ أوَّل الأمر يحتاج إلى مجاهدة الشيطان ومخالفة الهوى، ثم بعد ذلك يصبح التبكير جزءًا من حياة الواحد منا، ولو فقده لأمرٍ عارضٍ، لشعر بشيءٍ من الحزن والندم، فأول العبادة: مجاهدةُ النفس وإكراهها على الطاعة، وآخرها: أُنْسٌ ولذَّة وراحة بالٍ.

________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان