الأسباب الشرعية والطبيعية للتركيز العقلي

أعظم معين على التركيز والفهم الإخلاص لله تعالى، فلا يكون همك أنك تنتهي مثلا من قراءة الكتاب، وإنما همك الأجر والثواب والاستفادة والعلم والعمل.

  • التصنيفات: طلب العلم -

 

 


المقدمة:
الحمد لله، وبعد:
فهذه كلمات تعين المتعلم وطالب العلم على التركيز وترك التشتت وشرود الذهن، وذلك لتجميع العقل لفهم المسائل ودراستها في أي فن من فنون العلم، والله أسأل أن ينفع بها ويتقبلها.
السبب الأول:
تقوى الله عز وجل، لأن التقوى أعظم مفتاح للتركيز العقلي لفهم العلم ومسائله؛ قال تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانࣰا }  [الأنفال: ٢٩].
قال الإمام ابن كثير في تفسيره على هذه الآية: (فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة).
وقال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:
(الفرقان: وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة).
• هذا واقع، فإن من اتقى الله وجد من نفسه فهما وتركيزًا، ومن كان في معصيته وجد من نفسه تشتتا وعدم تركيز.
وكما في الشعر السائر:
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي
فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ
وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي
السبب الثاني:
أن يكون هم العبد الأكبر الآخرة ولقاء الله عز وجل، فإن هذا يجمع شمل العقل ويمنع تشتته في أمور الدنيا وحاجاتها التي لا تنتهي، ويُصغر الدنيا في تصوره فلا يتشعب ذهنه وفكره فيها.
ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
السبب الثالث:
الدعاء فإن عقول العباد وقلوبهم بيده سبحانه، فيطلب العبد من الله تعالى أن يجمع له عقله وشمل قلبه ليفهم، ويستعيذ منه تعالى من تشتت الذهن والعقل وعدم تركيزه؛ قال تعالى:  {وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِیۤ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِی سَیَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ } [غافر: ٦٠].
السبب الرابع:
التوكل على الله تعالى والاستعانة به فهو المعين وحده لا شريك له، قال تعالى: { وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥۤۚ} [الطلاق: ٣].
حسبه: أي كافيه.
فإن الله تبارك وتعالى هو الموفق فمن جمع الله له عقله وفهمه فهو الموفق ومن شتت الله له فهمه وعقله وقلبه فهو المخذول.
السبب الخامس:
مدافعة وطرد الهم والحزن لأن الهم والحزن يضعف العقل فيضعف تركيزه، ويكون ذلك بالدعاء والاستعاذة بالله من الهم والحزن وصرف الذهن والتفكير إلى ما ينفع من أمور الدين والدنيا.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه؛ وذلك لأن الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن؛ قال تعالى: { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: ١٠]، فالحزن مرض من أمراض القلب، يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يُبتلَى العبد بها بغير اختياره؛ كالمرض والألم ونحوهما... ولكن الحزن لا يجدي عليه، فإنه يضعفه كما تقدم، بل الذي ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته في السفر، فجلس في الطريق حزينًا كئيبًا، يشهد انقطاعه، وسبق رفقته، فقعوده لا يجدي شيئًا، بل إذا عرف الطريق، فالأولى له أن ينهض، ويجدَّ في السير، ويحدث نفسه باللحاق بالقوم، وكلما فتر وحزن، حدث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع، فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين"؛ [طريق الهجرتين (٦٠٨، ٦٠٧/ ٢)].
السبب السادس:
تجميع العقل، والمقصود بذلك حقيقة التركيز وهو صب الاهتمام في الشيء المعين الذي تريده وتجاهل الأمور الأخرى التي ليس لها صلة بما تريده.
والاندماج بما تقرأه أو تريد فهمه وانقطاعك عما سواه من الأمور.
ومما يعينك على ذلك تذكر الأجر الحاصل بفهم المسائل الشرعية والعاقبة الحسنة المرجوة من هذا التركيز.
السبب السابع:
الأخذ بالأسباب الطبيعية من أجل التركيز العقلي، فالعبد المؤمن يجتمع فيه الأخذ بالأسباب الشرعية التي ذكرناها آنفًا والأسباب الطبيعة وهذا ما يميزه عن غيره في هذا الأمر وغيره من الأمور.
ومما يذكره أهل الطب والتخصص أن سوء التغذية من أهم الأسباب التي تُضعف الذاكرة وتُقلل التركيز، لذلك ينبغي التركيز على نوعيّة الطعام المُتناولة يوميًا، بحيث تحتوي على جميع الفيتامينات والمعادن الضروريّة التي يحتاجها جسم الإنسان، ويخص بالذكر فيتامين ب12 الذي له علاقة وثيقة بالذاكرة. ومما يساعد أيضا الرياضة والنشاط البدني.
ومن ذلك عدم النوم لساعات كافية خلال اليوم أو ترك القيلولة والاستراحة التي تجدد نشاط الجسم والعقل، ويقال أن شم الروائح الطيبة يزيد في العقل.
أيضا إيجاد المكان المناسب والهادئ البعيد عن تشتيت الذهن.
السبب الثامن:
ومن الأسباب المهمة تنظيم الوقت وترتيبه من خلال وضع برنامج للوقت يومي أو أسبوعي، وهذا بلا شك يجعلك منظم الذهن غير مشتت ولا مبعثر.
السبب التاسع:
أعظم معين على التركيز والفهم الإخلاص لله تعالى، فلا يكون همك أنك تنتهي مثلا من قراءة الكتاب، وإنما همك الأجر والثواب والاستفادة والعلم والعمل.
السبب العاشر:
حبك للشيء والقناعة به يجعلك تركز عليه، ومما يجعلك تحب الشيء تذكرك واستحضارك للفوائد المرجوة منه.
فالمحبة هي المحركة للأشياء ومنها التركيز. وعن المحبة يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة. الجواب الكافي (ص ١٤٢).
الخاتمة:
فهذه أسباب شرعية وطبيعية في اكتساب التركيز والتعود عليه، والعبد المؤمن يأخذ بالأسباب كلها لأن الأمر والخلق كله لله، والله الموفق والمستعان، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتبها :
يزن الغانم