النظام الإسلامي
انفلتتْ ألسِنة كتَّاب الغرْب وأقلامُهم في صُحُفهم وإذاعاتِهم في اتِّهام النِّظام والتَّشريع الإسلامي، وأخذوا يُعيدون ما استُهْلِك من الكلام على مرِّ العُصور في هذا الشَّأن
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
انفلتتْ ألسِنة كتَّاب الغرْب وأقلامُهم في صُحُفهم وإذاعاتِهم في اتِّهام النِّظام والتَّشريع الإسلامي، وأخذوا يُعيدون ما استُهْلِك من الكلام على مرِّ العُصور في هذا الشَّأن، ولم يخْلُ عصرٌ من العصور في توجيه النقْد اللاَّذع والقوْل البذيء المُتهافِت إلى بعْض الأحْكام في النِّظام الدِّيني الإسلامي، حتى أصبح الحديث فيه نغمةً مرْذولة ثقيلة على القلوب والآذان.
وإنَّ تلك الحملات لتستعِرُ وتتأجَّج حين تلوح في الأفُق بوارقُ القوَّة والوَعْي والانبعاث في الشُّعوب الإسلاميَّة، وكأنَّ تلك الحملات قذائفُ معدَّة أو قنابل مسدَّدة تنتظِرُ الأمر بالانطِلاق فتنطَلِق، وتنتظر المناسبات لتؤدِّي دورَها المقرَّر لها.
فكلَّما حدثتْ صحْوةٌ إسلاميَّة في شَعْب من الشُّعوب الإسلامية ثارت ثائرتُهم، وأطلقوا كلماتِ الرَّجعية والتعصُّب والبربريَّة، وما إلى ذلك، مما مهدت به أقلامُهم ووعتْه قواميسُهم، يصِفون بِها الإسْلام، ويشنِّعون على أحْكامه، وخاصَّة ما يتعلَّق منها بزيِّ المرأة، وقطْع يدِ السارق وجلْد المخمور، وأخذوا يتباكَوْن على الحضارة، ويستغيثون بالعالَم أن يتدارَكَها ممَّا تتعرَّض له بتطبيق نظام الإسلام.
إنَّ هؤلاء الكتَّاب ليطعنون الحضارة ويهزؤون بِمقوماتِها قبل أن يتَّهموا الإسلام وينالوا منْه، فهل الحضارة في تقْدير هؤلاء هي الخمْر والجنْس والتلصُّص؟! أم الحضارة عمرانٌ وبنيان، وعِلْم وفنٌّ[1] بكلِّ ما تسَعُه هذه العناوين من معانٍ، وتنطوي عليْه من حقائق؟ فإن كانتِ الحضارة عمرانًا وبنيانًا، وعلمًا وفنًّا، فما أنكرَتِ الحركاتُ الإسلاميَّة شيئًا من هذا، ولا حظرتْه بِحُكم دينِها وتقاليدها.
وإن كانت الحضارة خمرًا تفتِكُ بالعقول والأبْدان، وتنبعِثُ منْها الشُّرور والآثام، أو جِنْسًا تُهتَك فيه الأعْراض، وتَختلِط به الأنْساب، أو لصوصيَّة تُهدِّد أمْن النَّاس وتنهب أموالَهم وحقوقهم، وأنكرتْها الحركاتُ الإسلاميَّة، وأزمعَتِ القضاءَ عليْها، فإنَّما تنكر شرًّا وترفُض باطلاً وتُحارب ضلالا، ويُشاركها في ذلك ذَوُو العقول والحكْمة والفِطَر السليمة، إنَّ السرَّ في تلك الحملات المسعورة شيء وراءَ الغيرة على الحضارة وعلى الحريَّة، ووراء الغيرة على حقوق الإنسان.
لقد تَجاهل هؤلاء الكتَّاب ما تخوض فيه الشُّعوب من ويلاتٍ وحُروب، تذْهَبُ فيها الأرواح بغير حساب، لتحقيق مغامرات وإنْماء ثروات، بالاحتِكار والسيطرة والنفوذ، حتَّى إنَّهم ليضحُّون بشعوبٍ كاملة في سبيل ذلك، كما فعلوا في فلسطين وغيرها، فإذا استيقظ شعبٌ وهبَّ للدِّفاع عن حقوقِه وأموالِه، وإصلاح ما اعوجَّ من أخلاقِهم علا صياحُهم وتَجاوَب نباحُهم، وتداعَوْا إلى الشَّرِّ ليدفعوا ما يهدِّد مُخطَّطاتِهم من الخطر.
إنَّ هذه الحملة المسعورةَ لتشْويه الإسلام تستهْدِفُ الشُّعوبَ الإسلاميَّة قاطبةً، وتستهدفُ - أوَّل ما تستهدف - النظام الإسلامي، وربَّما كان التاريخ يُعيد نفسَه، فقد استهدف الإسلام في فترات تاريخيَّة مُختلفة لأمثال تلك الحملات، كما يَعرفُ مَن له صلةٌ بالتَّاريخ، ومن هُنا تأتي مسئوليَّات الشُّعوب الإسلامية لتقِفَ في مُواجهةِ ذلك الخطَر صفًّا واحدًا، بكلِّ ما تَملك من الوسائل، ممَّا لم يُتَحْ لَها من قبل، وهي تَملِك من الوسائلِ المادِّيَّة والمعنويَّة أمضى الأسلِحة، فالانبِعاث الدِّيني الذي نحسُّ مظاهرَه في كلِّ مكان، والثَّروات المعدنيَّة، هي الأسلحة التي لوْ أُحْسِن استخدامها كانت كفيلة بالنصر، ولعلَّ الانبعاث الإسلامي الذي بدتْ مظاهرُه في كثير من الشعوب الإسلاميَّة هو الذي أزْعج هؤلاء الكتَّاب وهاج حفائِظَهم.
ولعلَّ الانبِعاث هو الذي خبل عقولَهم، وزلْزل أرْكانَهم، وأضلَّ أقلامَهم، وجَمع قاصيَهُم بدانيهم، وغربَهم بشرقِهم، فاتَّفقوا في غايتهم واختلَفُوا في وسائِلِهم.
إنَّ الكتلة الشرقيَّة تناهض الإسلام؛ حرصًا على مصالِحها ونشرًا لِمبادئِها، وتعمل ذلك جهد المستميت جهارًا نَهارًا.
وتتخيَّر من المواقع والشُّعوب ما هو أنسبُ لظُروفِها وأقربُ إلى غايتِها، والغرب أيضًا يُناهض الشُّعوب الإسلاميَّة حرصًا على مصالِحِه، متقنِّعًا غير سافر، ومستتِرًا غير مُجاهر، ويصطنع الحذَر والحيطة؛ مراعاةً لعلائقه ببعض الشعوب.
إنَّ هذا الصِّراع الدَّائر بين الشَّرق والغرب قد قضى الله أن تكون ميادينُه بعض الشعوب الإسلاميَّة، وهذا الصراع له جانبُه السياسي وجانبه المادي والاجتماعي، ويعسر عزْلُ أحد الجانبيْن عن الآخَر، ومن هُنا كانتْ صِلة الشُّعوب الإسلاميَّة بِما يدورُ في العالم من صِراعٍ، فالجانب المادِّي هو الذي قضى على الشُّعوب الإسلاميَّة أن تكون في مواقِع الصِّراع.
والصراع السياسي والمادِّي ليس له في الواقع ضوابط من خُلُقٍ أو دين، بل هو نارٌ مستعِرة تأتي على ما تُصادفه؛ ومن هنا كانتْ خطورته على المعتَقَدات والأدْيان.
فلا حرجَ أن تشوَّه محاسنُها، ويصوَّر حقُّها باطلاً، وهُداها ضلالاً، وعدْلُها ظلْمًا، ورشدُها غيًّا، ولهؤلاء الكتَّاب نقول: هل أنتُم حقًّا حُماة الحريَّة؟ وهل أنتم حقًّا أهلُ الغيرة على الكرامة الإنسانيَّة؟ إذا كنتم حقًّا كذلك فأين مواقِفُكم من حكوماتِكم ودولكم؟ ومن سلوكهم الإنساني حين يستنْزِفون الشعوب ويُبيدونَها بالآلاف والملايين؟ وينزلون بها من ألوان العسْف ما لم تعْهَدْه البشريَّة في أحطِّ العُصور؟!
لقد خرست ألسنتُكم وأقلامُكم عما جرى ويَجري من فظائع في الصراع الدولي، وإن وقع شيءٌ من ذلك منكم كان من وحْيِ السلطة والمصْلَحة، لا بداعي الغيرة الخالصة والقلوب الحانية الرحيمة.
ليعلم هؤلاء المتحدِّثون عن الحضارة أنَّ للحضارة الإسلاميَّة عند شعوب الإسلام، وفي إطار الإسلام - مفهومًا يُخالف مفهومَ الحضارة عند الشعوب غير المسلمة.
فمفهوم الحضارة فيما يختصُّ بالمرأة عند الشُّعوب غير الإسلاميَّة: أن يُطْلَق لها العنان في سلوكِها وزِيِّها، تنتقل بفتنتِها في كل نادٍ، وتَهيم بعواطفِها في كل واد، تستغوي وتستهْوي مَن تشاء، ولكن مفهوم الحضارة في الإسلام بالنِّسبة للمرأة أن تلزَم حجابَها وحِشمتَها؛ احتِفاظًا بكرامتها، وحرصًا على علاقتها الأسريَّة أن تعصف بها الشكوك والظنون.
ومفهوم الحضارة عند تلك الشعوب فيما يَختصُّ بِمُعاقرة الخمر: أنَّ كلَّ إنسانٍ له أن يشربَ ما يشاء، يُعربِدُ وينتهِكُ من الحرُمات ما شاء، ولكنَّ مفهوم الحضارة الإسلامية في ذلك: تَحريم الخمر تحريمًا قاطعًا؛ قضاءً على الجريمة، ووقايةً للمجتمع من آثارِها وذيولها.
ومفهوم السَّرقة: أنَّ التلصُّص والاختِلاس جزءٌ من الحريَّة، يعيث بها اللصُّ فسادًا، ولا يؤاخَذُ إلاَّ عند التلبُّس بالجريمة، وإنْ أُخِذَ بعقاب أُخِذَ بعقاب لا يعادل فظاعةَ جُرْمِه، ولا يَمنعه من معاودةِ تكْرارها.
ومفهوم الحضارة الإسلامية في هذا الشَّأن: أن يُؤاخَذ مقترِف هذه الجريمة بأشدِّ العقوبات التي تُناسب فظاعتَها، وتؤدِّي الغرض منها في زجْرٍ وتأديب.
هذا مفهوم الحضارة في الإطار الإسلاميِّ، ولمن يدين بالإسلام من الشعوب، ولكلِّ شعب منها أن يُمارس حضارتَه على هذا الأسلوب، وليس لغيره أن يندِّدَ به أو يعترِض عليها كما حتمت بذلك المواثيق الدوليَّة.
إنَّ الحضارة شؤونٌ عامَّة تشترك فيها كلُّ الشعوب؛ لأنَّها تكاد تكون شؤونًا إنسانيَّة عامَّة، تمسُّ النَّاس جميعًا، وشؤونًا حضاريَّة خاصَّة، تتميَّز بها كلُّ أمَّة؛ لأنَّها تستمدُّها: إمَّا من دينها أو طبيعتها أو نظام الحياة فيها، وتلائِم مُجتمعاتِها وأحوالَها، وهذه الشؤون حقٌّ لأهْلِها، وهم أولو الرَّأْي فيها، وأقدَر على الحكم عليْها، والواجب أن تُتْرَك لأهلها، يقرِّرون منها ما أثبتَتِ التَّجربة صوابَه، ويرفضون ما استبانَ فسادُه، فلهم الربح إنْ أحسنوا وعليهم الخسارة إن أساؤوا.
لقد ختمتِ العصبيَّة الهوجاء على قلوب بعضِ هؤلاء الكتَّاب، وجعلتْ على أبصارِهم غشاوةً فأعمتْهُم أن يرَوْا مَحاسِن الشَّريعة الإسلاميَّة، أو يفهموا أسرارَ بعْضِ الأحْكام الحضاريَّة الإسلاميَّة، ولم يدركوا أغراضَها ومقاصدَها التي أوحتْ بتقريرها وفرضها، وقيَّموها تقْييمًا خاطئًا، وحكَموا عليها بِما حكموا به، وزلَّت أقدامهم وخانَهم الإنصاف والتَّوفيق.
ولكنَّ الذين عُنُوا بدراسة الشريعة، ووقفوا على أسرارها، وتعمَّقوا أغراضها ومقاصدها - شهدوا لها بالإحكام والإحسان، كما شهِدوا بصلاحيتها لسياسة البشريَّة وكفايتها في تدبير شؤونِها.
والكلمة الأخيرة التي نقولُها لِهؤلاء الكتَّاب المسرفين في النقْد والتَّجريح: عليْكم أنفسَكم وشعوبَكم، ودعوا الشُّعوب الإسلاميَّة لشأنها وما ترى فيه الخير لمجتمعها، فما خوَّلكم الله الوصايةَ عليْها، وما جعلكم حُماةً لها.
إنَّكم لو فعلتُمْ لأرَحْتم النَّاس من مشاكلِكم وصراعاتِكم، فما اختلَّت أحوال الشعوب ونزلَ بِها ما تُعاني من ألوان العذاب؛ إلاَّ حين وصَّيتم أنفسَكم فلم تُحْسنوا الوصاية، وجعلتم أنفُسَكم قادة فلم تبلغوا - ولم تبلغ بكم الشعوب - غاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
مصطلح الفن بحاجة إلى تحرير، فإن كان المراد به ما شاع عند المعاصرين مما يندرج تحته كثير من الأمور المشتملة على المخالفات الشرعية؛ فإن الإسلام يأباه ولا شك، كما أن بعض الترف غير المحرم كرهته الشريعة؛ لما يترتب على الدخول فيه من تعلق بالدنيا، يفضي إلى الركون إليها، ومن ركن إليها وتعلق بها، آل به الأمر إلى المحرمات، وربما آل إلى ما فوق ذلك؛ قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 106، 107].
____________________________________
الكاتب: حسن سعد الدين