الدعوة إلى الأصول

منصور بن محمد المقرن

فبها تختصرون الأوقات وتوفرون الجهود والأموال، وترون ثماراً يانعة مفرحة لبذلكم بإذن الله، وقد قيل ( من حُرم الأصول؛ حُرم الوصول).

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله -

{بسم الله الرحمن الرحيم }

كلما شاع منكر في مجتمع بادر العلماء والدعاة – مشكورين- لبيان حكمه والتحذير منه، إلا أن المنكر لا ينقطع بل يمتد، ومرتكبوه لا ينقصون بل يزيدون، ولعل أبرز أسباب تلك الدوامة التي لا تنتهي، والأعاصير التي لا تتوقف، هو:

  • أن المفسدين قد أتوا على أصول الإيمان فأضعفوها، وأجلبوا على منظومة المفاهيم والقيم فأفسدوها، فاهتزت لدى الكثير حصانتهم الشرعية، بل وضعف اعتزازهم بدينهم وثقتهم به. وقد أسهم في تحقيق ذلك:
  • قصور الخطاب الدعوي في العقود الماضية في حديثه عن أصول الإيمان التي متى استقرت في القلب حفظته بإذن الله من مضلات الفتن، وكذلك القصور في بيان المفاهيم والقيم الربانية وأثرها في صلاح وسعادة الناس.

ولهذا كان لا بد من تقديم خطاب دعوي يرتكز على الأصول الإيمانية التالية:

الأصل الأول: محبة الله وتعظيمه في القلوب

متى ما ضعف هذا الأصل العظيم ضعفت معه أعمال القلوب والجوارح.

فقد بيّن الله تعالى أن أحد أبرز أسباب المعاصي -وأعظمها الكفر- هو ضعف توقير الله في القلوب، ودعا سبحانه إلى التأمل والتدبر في صفاته سبحانه، فقال تعالى:  {مالكم لا ترجون لله وقارا}  ثم نبه سبحانه بعدها مباشرة إلى قدرته الموجبة لتعظيمه ومحبته وعبادته وحده فقال (وقد خلقكم أطوارا ...) [نوح 13-14] . وفي آية أخرى يبين عز وجل سبب كفر من كفر، فيقول: {وما قدروا الله حق قدره} ثم يعقبها بذكر ما يدعو إلى طاعته وهو عظمته سبحانه، فقال: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر 67 ] . قال ابن القيم : "فإن صعب عليهم (أي العصاة) ترك الذنوب فاجتهد أن تُحبب الله إليهم بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها، والاستقلال منها"[1].

الأصل الثاني: غرس محبة النبي _صلى الله عليه وسلم_ في النفوس

من أحب أحداً أطاعه، كما قيل: إن المحب لمن يحب مطيع، ولذلك لما تمكنت محبة النبي صلى الله عليه في نفوس الصحابة،  بذلوا أموالهم وأرواحهم، وتركوا محبوبات أنفسهم، مسارعة منهم للاستجابة لنبيهم. والسيرة النبوية زاخرة معطرة بذكر نماذج مشرقة لذلك.. ومما يبين الأهمية البالغة لتحلي المسلم بهذا الأصل العظيم، ما ورد في الحديث الصحيح: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده، والناس أجمعين» [رواه البخاري]

الأصل الثالث: بيان محاسن الدين وجمال مقاصده

فلا يكتفى بذكر الأحكام الشرعية بل يُبين للناس ثمرات العمل والتمسك بها في الحياة الدنيا والآخرة، وعاقبة اهمالها. ويربط كل أمر أو نهي بمقاصد الشريعة العظمى. وتُزيّن لهم وتُحبب إليهم المعتقدات والأوامر، انطلاقا من قول الله _عز وجل_ {هو الذي حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} [الحجرات – 7] .

قال ابن القيم رحمه الله: "أن خواص الأمة ولبابها لما شهدت عقولهم حسن هذا الدين وجلالته وكماله، وشهدت قبح ما خالفه ونقصه ورداءته، خالط الإيمان به ومحبته بشاشة قلوبهم،  فلو خُيّر بين أن يُلقى في النار وبين أن يختار دينا غيره لاختار أن يُقذف في النار وتُقطع أعضاؤه ولا يختار دينا غيره. وهذا الضرب من الناس هم الذين استقرت أقدامهم في الإيمان، وهم أبعد الناس عن الارتداد عنه وأحقهم بالثبات عليه إلى يوم لقاء الله، ولهذا قال هرقل لأبي سفيان: أيرتد أحد منهم عن دينه سخطة له؟ قال: لا. قال: فكذلك الإيمان إذ خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد" [2].

الأصل الرابع: بناء المفاهيم والقيم والتصورات الصحيحة

ينطلق الإنسان في أعماله وسلوكه وفقاً لما لديه من مفاهيم وقيم، ولهذا فقد ركز المفسدون عبر إعلامهم ومناهجهم على تنحية المفاهيم والقيم الإسلامية، واستبدالها بالمفاهيم والقيم المادية، بل لعل هذا يعتبر أكبر إنجازات المفسدين. فالقيم والموازين الربانية والتصورات والمفاهيم حول الكون والحياة والإنسان ودوره وفق المنهج الإسلامي غائبة عند كثير من المسلمين، ولذلك تراهم لا يترددون في الانجراف نحو المنكرات ولا ينفع معهم في الأغلب معرفة حكمها.

ومن أمثلة ذلك: مفهوم السعادة، وهي مطلب الناس جميعاً. فقد صوّرها المفسدون بأنها تستجلب بالمال أو الجاه أو الشهرة أو بها جميعاً. فإذا رسخ هذا المفهوم الخاطئ عند أحد لم يتردد في تحصيل المال من أي طريق ولو كان محرماً، وقد لا  ينفع معه بيان حرمة الربا أو الرشوة أو الميسر ونحوها. أما لو بيّن الخطاب الدعوي مفهوم السعادة وفق الأدلة الشرعية، وأنها تستجلب بطاعة الله وليس بما حرمه تعالى، فإن الكثير من الناس لن يجذبه بريق المال المحرم وسهولة تحصيله.

الأصل الخامس: الإيمان بالغيب واليوم الآخر والقضاء والقدر

فلقد كثر ذكر الإيمان بالغيب واليوم الآخر في القرآن الكريم وذلك لثمراته العظيمة على تصرفات المرء وسلوكه، قال عمر _رضي الله عنه_ (لولا يوم القيامة لكان غير ما ترون) [3] لأن تذكر الجزاء والحساب يصرف عن المعاصي ويرغب في الطاعات، كما أن الإيمان بالغيب يُضعف التعلق بالماديات ويربط القلب بما وعد الله تعالى عباده المتقين من بركة في الأعمار والأرزاق والأولاد ونحو ذلك في الدنيا، وبالنعيم المقيم في الآخرة، وقد ورد ذكر الحياة الدنيا في القرآن في معرض التقليل من شأنها أكثر من 50 مرة، كما ورد ذكر الآخرة على سبيل التعظيم أكثر من 70 مرة، وورد ذكر الإيمان باليوم الآخر قرينا للإيمان بالله تعالى قرابة 20 مرة، كما نبه القرآن إلى أن أحد أسباب معصية العصاة محبة الدنيا ونسيان الآخرة: «كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» [القيامة 20-21] ، فما نصيب هذه الحقائق الإيمانية في دعوتنا؟

أما الإيمان بالقضاء والقدر فإنه ركن من أركان الإيمان، ومن ثماره ضبط الحرص الذي يُعد رأس كل خطيئة، وضبط الرضا والتوازن في حياة المؤمن.

ختاماً : أيها الآباء والأمهات والمربون والدعاة الفضلاء :

إن هذه الأصول الإيمانية العظيمة  أسرع وأيسر طريقة للتأثير، فبها تختصرون الأوقات وتوفرون الجهود والأموال، وترون ثماراً يانعة مفرحة لبذلكم بإذن الله، وقد قيل ( من حُرم الأصول؛ حُرم الوصول).

أما كيفية غرس هذه الأصول؛ ففي علمكم وخبرتكم ما ييسر الأمر عليكم بإذن الله، كما أنكم لن تعدموا أن تجدوا من تحدث أو كتب في ذلك.

أخوكم ومحبكم / منصور بن محمد الـمقرن
 

[1] الفوائد – 1/169

[2] مفتاح دار السعادة – 2/13

[3] شعب الإيمان 17/129