الغلول

الغالُّ يُفضح يوم القيامة على رُؤوس الأشْهاد؛ يقول ربُّنا عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، فيأتي بِما غلَّ حاملاً له على رقبته، معذَّبًا بحمله وثقله، موبَّخًا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد.

  • التصنيفات: الفقه وأصوله - فقه المعاملات -

عَنْ عمْرو بن عوفٍ الأنصاري - رضي اللهُ عَنهُ -: أنَّ رَسُول اللهِ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «والله، ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أن تُبْسَط الدنيا عليْكم كما بُسِطَت على مَن كان قبلكم، فتَنافَسُوها كما تَنافَسُوها، فتُهْلكَكُم كما أهلكتهم»  (متَّفَقٌ عليه).

فلا يزال الحِرْصُ على المال وجَمعه حتَّى يُطْلَب المالُ من وُجوهِه المحرَّمة، فتتشوَّق النفس إلى ما حرَّم الله من المال، ولا تقْتنع بِما أحلَّه الله، فلا تُبالي حينئذٍ أحَلال ما تكْسبه أم حرام؟ فيكون المال غايةً، والحلال ما وقع في اليد.

ولا يشفع لِمن أخذ المال من غير حلِّه شرفُه عند الله، وعِظَم عملِه؛ فالمجاهد في سبيل الله الذي بذل مُهْجته ونفسه في سبيل الله، إذا أخذ من الغنيمة قبل قسمتها - مع أنَّ له فيها حظًّا - تعرَّض للوعيد بالنَّار؛ فعنِ ابن عبَّاس قال: حدَّثَني عمرُ بن الخطَّاب قال: لمَّا كان يوم خيْبر، أقبل نفرٌ من صحابة النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتَّى مرُّوا على رجُلٍ فقالوا: فلان شهيد؛ فقال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم-: «كلاّ، إنِّي رأيتُه في النَّار في بُرْدة غلَّها أو عباءة» (رواه مسلم).

والغالُّ يُفضح يوم القيامة على رُؤوس الأشْهاد؛ يقول ربُّنا عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]، فيأتي بِما غلَّ حاملاً له على رقبته، معذَّبًا بحمله وثقله، موبَّخًا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد.

فعن أبي هُرَيْرَة - رضِي الله عنْه - قال: قام فينا النَّبِيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فذكَرَ الغُلُولَ فعَظَّمَهُ وعَظَّمَ أمْرَهُ فقال: (( «لا أُلفيَنَّ أحَدَكُمْ يَومَ القيامَةِ على رقَبَتِهِ شاةٌ لَها ثُغاءٌ، على رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، يَقُولُ: يا رَسُولَ اللهِ، أغِثْني، فأَقُولُ: لا أمْلِكُ لكَ شَيْئًا؛ قَدْ أبْلَغْتُكَ، وعلى رَقَبَتِهِ بَعيرٌ لهُ رُغاءٌ، يَقُولُ: يا رَسُولَ اللهِ، أغِثْني، فأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا؛ قَدْ أَبْلَغْتُكَ، وعلى رَقَبَتِهِ صامِتٌ – أي: ذهب أو فضة – فيَقُولُ: يا رَسُولَ اللهِ أَغِثْني، فأَقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئًا؛ قَدْ أَبْلَغْتُكَ، أو على رَقَبَتِهِ رِقاعٌ تَخْفِقُ – أي: ثياب – فيَقُولُ: يا رَسُولَ اللهِ أَغِثْني، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا؛ قَدْ أَبْلَغْتُكَ» (رواه البخاري ومسلم).


فإذا كان المجاهد في سبيل الله - وهو بالمنزلة الرَّفيعة عند الله - لَم تشفع له هذه المنزلة، فإذا غلَّ من الغنيمة، تعرَّض للخِزْي والنَّار، فكيف بمن يأخُذُ من أموال المسلمين بغير حقٍّ، فتَجِدُه يركب الصَّعْب والذَّلول، ويرتَكِب الحِيَل؛ ليأخُذ من المال العام بِغَيْر حقٍّ، فهذا أشدُّ جرْمًا من الغالِّ من الغنيمة، وأعْظم مُخالفة؛ لأنَّ الغالَّ أكثرُ مَن يتضرَّر به طائفةٌ خاصَّة، وهم المجاهدون، وهذا الخائن المدلِّس تتضرَّر به الأمَّة كلُّها، ويتسبَّب في إهدار ثرواتِها مقابل مال يسير، فله النَّار يومَ القيامة؛ فعن خولة الأنصارية - رضي الله عنها – قالت: سَمعتُ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم – يقول: «إنَّ رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النَّار يوم القيامة»  (رواه البخاري).

 

فهذا المتخوِّض في أموال المسلمين، المتصرِّف فيه بِما لا يرْضاه الله، المستبدُّ به بغير حقٍّ، المخلط في تَحصيله من غير وجْهٍ كيف أمكن، ليس له جزاءٌ يوم القيامة إلا النَّار.


عباد الله:

من الشُّبَه التي يلقيها الشَّيطان على مَن يستوْلون على الأموال العامَّة، أو يفرِّطون في أعمالهم ولا يقومون بِما وجب عليهم تِجاه أعمالهم: أنَّ بعضًا منهم أعلى منهم منزلة دينيَّة أو دنيويَّة - مفرِّطون، ويرتكبون تلك المحاذير، ويستأْثِرون بالأموال والميزات وتعْيين من يريدون، وهذا من تلبيس الشيطان على هؤلاء؛ لأنَّ وجود الأثرة ليس مبرِّرًا لارْتِكاب المحْذور، وخيانة الأمانة، وأكْل أموال المسلمين بالباطل.

فعن عبدالله بن مسعود قال: قال لنا رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «إنَّكم سترونَ بعْدي أثرةً وأمورًا تُنْكِرونَها» قالوا: فما تأمُرُنا يا رسول الله؟ قال: «أدُّوا إليْهِم حقَّهم، وسلوا اللهَ حقَّكم»  (رواه البخاريُّ ومسلم).

فاختِصاص البعض بحظٍّ دُنْيوي دون مَن يُشاركه فيه لا يبرِّر الخيانة؛ بل الواجب على المسلم أن يتَّقي الله فيما أُوكل إليه، فكلٌّ مُحاسب بعمله؛ {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

وعن وائل الحضرمي - رضي الله عنْه – قال: سأل سلمة بن يزيدَ الجُعْفي رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال: يا نَبِيَّ الله، أرأيتَ إن قامتْ عليْنا أُمَراء يسألونا حقَّهم، ويمنعونا حقَّنا، فما تأمُرُنا؟ فقال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:  «اسمعوا وأطيعوا، فإنَّما عليْهِم ما حُمِّلوا، وعليْكم ما حُمِّلْتم» (رواه مسلم).

عبادَ الله:

يجوز أخْذ العطاء، وسؤاله من بيت مال المسلمين، ولو مع الغنى، فلا حرج على المسلم أن يَسْأل السُّلطان من أموال المسلمين، الذين هو أحدهم؛ فعن سمُرة بن جندب - رضِي الله عنْه – قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم-: «إنَّ المسألة كدٌّ يكدُّ بها الرَّجُل وجهَه؛ إلا أن يسألَ الرَّجُل سلطانًا، أو في أمر لا بد منه» رواه أحْمد وغيرُه بإسناد صحيح، فأباح النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - سؤال السلطان مطلقًا، وقيد سؤال غيره بالحاجة.

وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنْه – قال: سألت رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم – فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثُم قال: ((يا حكيم، إنَّ هذا المال خَضِرة حلوة، فمن أخذه بِسخاوة نفسٍ، بُورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ، لَم يُبارَك له فيه، كالَّذي يأكل ولا يشبع؛ اليَدُ العُليا خير من اليد السفلى))، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقِّ، لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتَّى أُفارق الدُّنيا، فلم يرزأ حكيمٌ - رضِي الله عنْه - أحدًا من النَّاس بعد رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - حتى توفِّي؛ رواه البخاري ومسلم.

وحكيم - رضِي الله عنْه - كان من تجار الصَّحابة، فما يُصْرف للمسلمين من عوائدَ سنويَّة من وزارة الماليَّة جائزٌ للغني والفقير، سواء سمي عطاء أو مناخًا أو غير ذلك، بِخلاف ما يؤخَذُ من الضَّمان الاجتماعي فلا يأخُذُه إلا الفُقراء؛ لأنَّ إيراد الضَّمان الاجتماعي أموال الزَّكاة.

 

مِنَ الغُلول هدايا العمَّال، وهم الموظَّفون الذين يأخذون مرتَّبًا من بيت المال، ويتولَّون مناصبَ وولاياتٍ، سواءٌ كانت صغيرةً أم كبيرة، فما يُهْدَى لهم بسبب هذه الأعمال - ولو لم يكونوا بهذا العمل لم يُهْدَ إليهم - فهو غلول، يَحرُم عليهم قبولُه، ولو قبلوه وجب عليهم أن يردُّوه على معطيه، أو يدخلوه في بيت مال المسلمين؛ فعن بريدة عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «منِ استعْملناه على عملٍ فرزقناه رِزْقًا، فما أخذ بعد ذلك، فهو غلول» رواه أبو داود ورواته ثقات، وصحَّحه ابنُ خُزيمة والحاكم وغيرهما.

فإذا كان العمل هو الدَّاعي إلى عطيَّته، فالمقْصود بالعطيَّة إنَّما هو عمله، إمَّا ليكرمهم فيه، أو ليخفِّف عنهم، أو يقدِّمهم على غيرهم، أو يعطيهم ما لا يستحقُّون، أو نحو ذلك، فمنع الشَّارع الهدية سدًّا للذريعة؛ لأنَّها قد تكون رشوة بصورة هديَّة.

وعن فُرات بْن مُسْلِم قالَ: "اشْتَهَى عُمَر بْن عبدالعَزيز التُّفَّاح، فلم يَجِدْ في بَيْته شَيْئًا يَشْتَري بِهِ، فَرَكِبْنا مَعَهُ، فَتَلَقَّاهُ غِلمان الدَّيْر بِأَطْباقِ تُفَّاح، فَتَناوَلَ واحِدَة فَشَمَّها ثُمَّ رَدَّ الأطْباق، فَقُلت لَهُ في ذَلِكَ، فَقالَ: لا حاجَة لي فيهِ، فَقُلت: أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وَأَبُو بَكْر وَعُمَر يَقْبَلُونَ الهَديَّة؟ فَقالَ: إِنَّها لأُولَئِكَ هَديَّة وَهيَ لِلعُمَّالِ بَعْدهمْ رِشْوَة"؛ رواه ابن سعد (5/377).

وحكم الآخذ حكم الغالِّ في الفضيحة في الآخرة؛ فعَنْ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِديِّ قالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - رَجُلاً على صَدَقاتِ بَني سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللتبيَّةِ، فَلَمَّا جاءَ حاسَبَهُ قالَ: هَذا مالُكُمْ وهَذا هَديَّةٌ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «فهَلا جَلَسْتَ في بَيْتِ أَبيكَ وأمِّكَ حَتَّى تَأتيَكَ هَديَّتُكَ إنْ كُنْتَ صادِقًا» ثُمَّ خَطَبَنا، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فإنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ على العَمَلِ مِمَّا وَلاَّني اللهُ، فَيَأْتي فَيَقُولُ: هَذا مالُكُمْ وَهَذا هَديَّةٌ أُهْديَتْ لي، أَفَلا جَلَسَ في بَيْتِ أَبيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتيَهُ هَديَّتُهُ! واللهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا لَقيَ اللهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القيامَةِ، فلأعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعيرًا لَهُ رُغاءٌ، أَو بَقَرَةً لَها خُوارٌ، أَو شاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئيَ بَياضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللهُمَّ هَل بَلَّغْتُ» (رواه البخاري ومسلم).

فالهديَّة لمَّا دارت مع العمل وجودًا وعدمًا، كان العمل سببها وعلَّتها؛ لأنَّه لو جلس في بيت أبيه وأمِّه، لانتفت الهديَّة، وإنَّما وجدت بالعمل فهو علَّتها، وأفاد قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «أفلا جَلَسَ في بَيْتِ أَبيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتيَهُ هَديَّتُهُ» أنَّه لو أهدِيَ إليْه بسبب آخَر غير الوظيفة، كموظَّفين بينهما تَهادٍ ثم أصبح أحدُهما رئيسًا للآخر، ففي تلك الحالة لا تحرم على الرَّئيس؛ لأنَّها كانت لغير ريبة، فالتَّهادي بينهما سابق لولاية أحدهما على الآخر، فعلى هذا لا يجوز للرَّئيس أن يقبل الهديَّة من مَرؤوسِه؛ لأنَّه لو جلس في بَيْتِ أَبيهِ وَأُمِّهِ لم يهدِ إليه، ولا الموظف من المراجع، لأنَّه لو جلس في بَيْتِ أَبيهِ وَأُمِّهِ، لم يهد إليه، ولا المعلم والمعلمة من الطلاب والطالبات؛ لأنَّه لو جلس كل واحد منهما في بَيْتِ أَبيهِ وَأُمِّهِ لم يُهْدَ إليه.

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - جعل الله نُزُله الفردوس الأعلى-: "كل مَن أُهْدِي إليه هديَّة من أجل عمله الحكومي، فإنَّه لا يحلُّ له أن يقبلها؛ بل يردُّها على مَن أهداها له، إلاَّ إذا كان لهذه الهديَّة سببٌ غير السَّبب الذي كان يشتغِل فيه، مثل أن يكون قريبًا له، فيقدم من سفر فيعطيه هدية، أو يكون من عادتِه أن يتبادل الهدايا معه، فإنَّ هذا لا بأْسَ عليْه بقبولِها، أمَّا إذا كانت الهديَّة من أجل العمل الحكومي الذي يعمل فيه، فإنَّه لا يحل للمُهْدي أن يُهدي، ولا للمُهْدَى له أن يقبلَها".

وقال في فتوى أخرى: "إنَّ الهديَّة لمن يكون بينه وبينه علاقة في العمل - لا تحلُّ؛ إلا إذا كان هناك عادة بيْنهما في التهادي، فلا بأس، وذكر مثالاً للهديَّة المحرَّمة: هديَّة الطَّالب للمعلِّم".

وقال في فتوى أخرى: "لا يَجوز للمديرة أن تقبل هدايا المعلمات".

إخواني:

قد يقول قائل: أستحيي من أن أرُدَّ الهديَّة، وأخشى من تكدُّر خاطر المهدي، فيقال: الله أحقُّ أن يُستحيى منه، فرُدَّ الهدية في هذه الحالة، وأخبر المُهْدي بالحكم الشرعي.

_______________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان