الوسوسة في الإيمان

الشيطان إنَّما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة؛ لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة؛ بل يتلاعب به كيف أراد.

  • التصنيفات: تربية النفس - تزكية النفس -

الوسوسة في الإيمان

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أمَّا بعدُ:

فقد اقتضت حكمة الله - عز وجل - عداوة الشيطان لبني آدم، قال الله - عز وجل -: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 36 - 40].

فلا يزال من تلك الساعة يكيد لبني آدم؛ تارة بالشبهات، وتارة بالشهوات، وتارة بالتفريط، وتارة بالإفراط ومجاوزة الحد المشروع، ومن ذلك الوسوسة التي يزينها لبعض الناس.

والوساوس تَعْرُض لعامة الخلق؛ لكنهم يختلفون في مدى استجابتهم لها واستحكامها، فالشيطان بمنزلة قاطع الطريق؛ كلما أراد العبد أن يسير إلى الله - تعالى - أراد قطع الطريق عليه، فتجد أهل المعاصي والغفلة واللهو لا تَعرض لهم هذه الوساوسُ؛ لأنَّ ما هم فيه مما يحبه الشيطان؛ لكن إذا رأى منهم التوبة والإقبال إلى الله؛ تسلَّط عليهم بالوساوس من عدم قبول توبتهم، أو بتشكيكهم في دينهم، أو في ذات الله - عز وجل - أو غير ذلك من الأشياء التي يفضِّل أحدُهم الموتَ على اعتقادها؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض خارجها؛ لأنَّ الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه، والتقرب إليه، والاتصال به، وكلما استجاب العبد لوساوس الشيطان ازداد طمع الشيطان فيه، وتمكنه منه.

ومن أعظم أسباب الوسوسة: الجهلُ بالشرع؛ فالشيطان يدخل على الجاهل بأمان، أما العالم والمتعلم، فلا يدخل عليهما إلا مسارقة.

من الوسوسة ما يَعْرُض لبعض المؤمنين، من الوسوسة في ما يتعلق بالله - عز وجل - في ذاته وصفاته؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يبرح الناس يتساءلون، حتى يقولوا: هذا الله خالقُ كل شيء، فمَن خلَقَ الله»؟  (رواه البخاري ومسلم).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: "إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟"، قال: «وقد وجدتموه»؟، قالوا: "نعم"، قال: «ذاك صريحُ الإيمان»  (رواه مسلم).

أي استعظامكم الكلام به، وشدة خوفكم منه، هو صريح الإيمان، فإنَّ استعظام ذلك، وشدة الخوف منه، ومن النطق به، حتى يختار أنْ يحترق ويكون فحمة، أو أنْ يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه أنْ يتكلم به، فضلاً عن اعتقاده - يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققًا، وانتفت عنه الريبةُ والشكوك، وليس المراد أنْ الوسوسة نفسَها صريحُ الإيمان؛ بل هي من قبل الشيطان وكيده.

وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله، إنَّ أحدنا يجد في نفسه يُعرِّض بالشيء، لأنْ يكون حُمَمَة أحبُّ إليه من أنْ يتكلم به؟"، فقال: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة»  (رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح).

فالشيطان إنَّما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة؛ لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة؛ بل يتلاعب به كيف أراد.

وكما أنَّ الوسوسة تكون في ذات الله - عز وجل - وصفاته، تكون أيضًا في دين الله ووحيه، و قضائه وقدره، وغير ذلك مما يتعلق بالاعتقاد.

فعن أُبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: "كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنَّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرآ، فحسنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد غشيني، ضرب في صدري، ففضت عرقًا وكأنَّما أنظر إلى الله - عزَّ وجلَّ - فرقًا، فقال لي: ((يا أُبيُّ، أُرسل إلي أنِ اقرأ القرآن على حرف، فرددتُ إليه: أَنْ هَوِّنْ على أمتي، فرد إليَّ الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلي الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف؛ فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم، حتى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -"؛ رواه مسلم.

وهذه الوسوسة عارضةٌ لعامة المؤمنين، فلا تزال تعرض للبعض؛ بل تعرض لخاصة المؤمنين، كما عرضت لفضلاء الصحابة - رضي الله عنهم.

وهي مما عفا الله عنها، فليست في الوسع؛ بل هي أمر غالب على النفس، فهي مما لا طاقة للمسلم بها، فلو يؤاخذ المسلم بهذه الوسوسة لوقع الحرج المنفي في قوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، فالوساوس العارضة مما تجاوز الله عنها لهذه الأمة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورَها، ما لم تعمل أو تكلم»  (رواه البخاري).

بل كراهية هذه الوساوس، والخوف منها، ومن التكلم بها - مما يثاب عليه.



الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على مَن أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:

فمِن أعظم ما يدفع الوساوسَ ويرفعها: ذِكرُ الله؛ فعن الحارث الأشعري - رضي الله عنه -أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها... وآمركم أن تذكروا الله؛ فإنَّ مثل ذلك كمَثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله...» رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح.

فَذِكْرُ الله يطرد الشيطان؛ وبذكر الله يحرز العبدُ نفسَه من الشيطان، فإذا ذكر العبد الله اختفى الشيطان وانخنس، وزال عن العبد ما يجده، وإذا غفل عن ذكر الله تسلَّط عليه الشيطان.

وأعظم الذِّكر: القرآنُ، لا سيما السور والآيات التي دل الدليل الخاص أنَّ لها أثرًا في طرد الشيطان؛ كالمعوذتين، وآية الكرسي، وآخر آيتين من سورة البقرة، وغير ذلك، وكذلك الأذكار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المطلقة والمقيدة في أوقات أو أعداد محددة.

ومما يستعان به في علاج الوساوس:

الاستعاذةُ بالله؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي الشيطان أحدَكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ»  (رواه البخاري ومسلم).

ومما يستعان به في علاج الوساوس:

الانتهاءُ من الاسترسال في الوسوسة؛ فوساوس الشيطان غير متناهية؛ لأنَّه كلما ألزمتَه حجةً، وأفسدت عليه مذهبًا، زاغ إلى أنواع أُخر من الوساوس التي أُعطي التسليطَ فيها على العبد, فهو لا يزال يوسوس للعبد، فيضيع الوقت إنْ سلم من فتنته، فلا تدبير في دفعه أقوى من الالتجاء إلى الله - تعالى - بالاستعاذة به منه، والانتهاء عن مراجعته؛ فَرَدُّ الوساوس من مبادئها، أسهلُ من قطعها بعد قوتها وتمامها، فإنَّه إذا لم يلتفت العبدُ لتلك الوساوس زالت بعد فترة، كما هو مجرب.

وبالجملة، فالقلب لا يخلو من الفكر؛ إمَّا في واجب آخرته ومصالحها، وإمَّا في مصالح دنياه ومعاشه، وإمَّا في الوساوس والأماني الباطلة، فليجعل العبد موضعَ هذه الوساوس خواطرَ الإيمان، والمحبة، والإنابة، والتوكل، والخشية؛ فيفرغ قلبه من تلك الخواطر، ويعمره بأضدادها، وليشغل العبدُ فكرَه بما يعود عليه بالنفع في آخرته ودنياه؛ لذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالانتهاء بقوله: ((ولينتهِ)) كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي تقدم.

و مما يستعان به في علاج الوساوس، الردُّ على الشيطان بضد وساوسه، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «فليقل: آمنت بالله ورسله»؛ (رواه مسلم)، وفي رواية: «فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعذ من الشيطان» رواه أبو داود بإسناده حسن.

ومما يستعان به في علاج الوساوس:

سؤالُ أهل العلم، فعلى مَن ابتُلي بهذه الوساوس ألاَّ يستسلم لوساوس الشيطان، ويعمل بما يمليه عليه، فكلما تمادى به الشيطان تمكنتْ منه هذه الوساوس، وصعُب عليه الانفكاكُ منها، وكلما بادر بالسؤال عنها وكيفية التخلص منها، سهل عليه تركها؛ فليبادر بسؤال مَن يثق بعلمه، فإنَّما شفاء العِيِّ السؤالُ؛ امتثالاً لأمر الله، حيث يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وخلاصة ما يفعله مَن وقع في وساوس الاعتقاد، أن يقول: آمنت بالله ورسله، الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثم يتفل عن يساره ثلاثًا، ويستعيذ بالله من الشيطان، ثم ينتهي عن الانسياق مع الوسوسة، ويسأل أهل الذكر، وهذا الأخير عام في الوساوس كلها.