الأساليب الحكيمة
إن للحقِّ والفضيلة نورًا وجمالاً ساحرًا جذَّابًا، تشعر به النفوس بأصل فِطْرَتها، غير أن نفوسًا قد انحرفت عن سنن الفِطْرة السليمة لسوء المَنْبِتْ أو فساد التربية، يظهر أمامها الحقُّ واضحًا فتراه باطلاً، وتتجلَّى بين يديْها الفضيلة فتراها رذيلةً!!
- التصنيفات: تزكية النفس -
إن للحقِّ والفضيلة نورًا وجمالاً ساحرًا جذَّابًا، تشعر به النفوس بأصل فِطْرَتها، غير أن نفوسًا قد انحرفت عن سنن الفِطْرة السليمة لسوء المَنْبِتْ أو فساد التربية، بحكم الوراثة والبيئة الرديئة؛ فصارت لا تبصر نورَ الحقِّ، ولا يروقها جمال الفضيلة، يظهر أمامها الحقُّ واضحًا فتراه باطلاً، وتتجلَّى بين يديْها الفضيلة فتراها رذيلةً!!
وأصحاب هذه النفوس القذرة، تراهم بالحشرات أَشْبَه، يتعذَّر إقناعهم، ويستعصي على الدعاة الناصحين علاجهم؛ (فمن العناء سياسة الهَرِم، ومن التعذيب تهذيب الذِّيب).
لأن أمثال هؤلاء لا يميلون إلى الرشد والهدى؛ بل يألفون الغِيَّ والضَّلال، ومن هذا النوع الخبيث: عصاباتٌ كثيرةٌ مُنيَ بها الإسلام ورسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - أثناء قيامه بالدعوة، فلم ييأس من إصلاحهم، وكان يعالجهم وكلَّ الطوائف بالحكمة البالغة، والعِظَة النافذة، في الأسلوب الذي يجعلها مألوفةً للعقل، خفيفةً على القلوب، فيدعو بالبرهان الجَلِيِّ والحُجَّة القاطعة طلاَّب الحقائق، وهم خواصُّ القوم، ذوي النفوس القوية، وبالخطابات المقنِعة ذوي النفوس الضعيفة، ويدعو المعانِدين المجادِلين بالباطل بأحسن طرق المناظَرة والمجادَلة؛ من الرِّفق واللِّين؛ تلبيةً لأمر مولاه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
فكان - صلوات الله وسلامه عليه - يسلك الطريق الكفيلة بنجاح دعوته، ويورِد لكلِّ مقامٍ مقالاً يليق به، ويخاطِب كلَّ طبقةٍ بما يناسبها، كما سيأتي بيانه.
فمن أساليبه الحكيمة في الدعوة:
أنه كان يُسأل عن الشيء الخاص؛ فيجيب بما يتناوله وغيره؛ حتى يكون ما أجاب به قاعدةً عامةً للسائل وغيره؛ كقوله: «إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله» [1] في جواب مَنْ قال له: استغفِرْ لي. وهو رجلٌ من بني محارب، كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام كان يعرض نفسه على القبائل، فلما جاء ذلك الرجل في السنة العاشرة في وفد بني محارب مسلمًا؛ ذكَّر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما كان يصنعه معه من الأذى، واستعطفه بطلب المغفرة عن صنيعه، فأجابه بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل مَنِ اعتنق الإسلام، أيًّا كانت سيئاته التي أسلفها قبله، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول له: «غُفِرَ لك».
ومنها: الإيجاز إذا اقتضى الحال ذلك؛ كما في مكاتباته للملوك والأمراء، والإطناب عند مقتضى الحال؛ كما في خطبة الحَثِّ على التزام الأحكام، أو التحريض على القتال، وتوجيه النفوس إلى التجمُّل بالفضائل. كما يُعْلَم ذلك بالنظر في خطاب الله تعالى لمشركي العرب قبل الهجرة، وخطابه تعالى لليهود بعدها؛ كما سيأتي إيضاحه.
ومنها: إعطاء الوسائل صورةَ ما تُفضي إليه؛ كما في قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «مَنْ دَلَّ على خيرٍ؛ فله مثل أجر فاعله»[2]؛ فقد صوَّر للسامع الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه؛ لأنهما في الأجر سواء.
وكقوله: «إن من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل والدَيْه». قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والدَيْه؟! قال: «يسبُّ الرجلُ أبا الرجلِ؛ فيَسُبَّ أباه ويَسُبَّ أمَّه» [3]؛ فقد أعطى مَنْ يسبّ أبا غيره وأمه صورةَ مَنْ يسبّ والدَيْه؛ لأنه تسبَّب في سبِّهما.
ومنها: ضرب الأمثال وصوغ التشابيه التي تهدي إلى الحقيقة؛ فإن للتمثيل أثرًا كبيرًا في إظهار الحقائق الخفيَّة، وتقريب المعاني البعيدة، حتى تصير واضحةً مألوفةً؛ كقوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشدُّ بعضُه بعضًا»[4].
وقوله: «ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى عضوٌ منه؛ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى» [5]؛ فقد مثَّل المؤمنين في تبادل المودَّة والرحمة والعطف بالجسد في روابطه العضوية، إذا اعتلَّ عضوٌ اعتلَّت باقي الأعضاء، وهكذا يكون المؤمنون الكاملون. فهو يرشدنا بهذا الأسلوب الحكيم إلى ما يجب أن يكون عليه حال المؤمنين من الاتحاد والوئام؛ لتقوية أواصر الروابط والمحبَّة.
[1] صحيح: رواه أحمد (17357) مسند الشاميين، من حديث عمرو بن العاص بن العاصن وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (2777)، والإرواء (1280).
[2] صحيح: رواه مسلم (1893) كتاب الإمارة، من حديث أبي مسعود الأنصاري.
[3] متفق عليه: رواه البخاري (5973) كتاب الأدب، ومسلم (90) كتاب الإيمان، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
[4] متفي عليه: رواه البخاري (481) كتاب الصلاة، ومسلم (2585) كتاب البر والصلة والآداب، من حديث أبي مسعود الأشعري.
[5] متفق عليه: رواه البخاري (6011) كتاب الأدب، ومسلم (2586) كتاب البر والصلة والآداب، من حديث النعمان بن بشير.