اغتنموا نفحات العشر
من هذه النفحات المباركات، والمواسم النيرات الأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة الحرام.. فإن الله تعالى قد اختارها على ما سواها واصطفاها واجتباها.. فهي الليالي العشر التي أقسم بها في سورة الفجر: {وَالفَجرِ . وَلَيَالٍ عَشر}.
- التصنيفات: العشر من ذي الحجة -
الحمد لله العزيز الغفار، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه المختار، وعلى آله الأبرار، وأصحابه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
فاعلموا عباد الله أن الليل والنهار مطيتان، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتأتيان بكل موعود. وأن من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. وأن الأيام مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى يُنتهَى بهم إلى آخر سفرهم، ومنتهى آجالهم، وإلى لقاء ربهم جل في علاه.
ومعلوم أن الله سبحانه قد فاضل بين الأيام، واختار بعضها على بعض: {وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ} [القصص:68]، ولله خواص من الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
فاختار الله بعض هذه الأيام على بعض فجعلها مواسم خيرات، وأيام عبادات، وأوقات قربات، وهي بالنسبة لسائر الأيام كالنفحات.. الموفق السعيد من اغتنم خيرها وعمرها بالطاعات، والشقي الطريد من ضيعها وملأها بالسيئات.. فاعملوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله في أيام الدهر نفحات يصيب بها من يشاء من عباده.. ولعل الإنسان تصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدا.
ومن هذه النفحات المباركات، والمواسم النيرات الأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة الحرام.. فإن الله تعالى قد اختارها على ما سواها واصطفاها واجتباها..
فهي الليالي العشر التي أقسم بها في سورة الفجر: {وَالفَجرِ . وَلَيَالٍ عَشر} [الفجر:2،1].
وهي الأيام المعلومات التي أمر الله بكثرة ذكره فيها.. فقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج:27].. قال ابن عباس في الآيتين: (هي أيام العشر)[تفسير ابن كثير].
وفيها يوم عرفة: وهو اليوم المشهود في قوله تعالى: {وشَاهِدٍ ومَشهُود}، وهو اليوم الذي أكمل الله لنا فيه الدين وأتم علينا فيه النعمة فأنزل فيه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة:3].
وهو اليوم الذي يباهي الله بأهل الموقف أهل السماء (انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق).. وما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة.
وفيها يوم الحج الأكبر: الذي هو أعظم الأيام حرمة عند الله تعالى.. فقد روى الترمذي والنسائي والبيهقي عن عمرو بن الأحوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: «أيها الناس أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ قالوا: يوم الحج الأكبر. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا...» الحديث.
وهو خير أيام الدنيا على الإطلاق، كما في سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر».
أيام العشر والعمل فيها:
هذه الأيام ـ أعني أيام العشر الأول من ذي الحجة ـ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها خير أيام الدنيا، وأن العمل الصالح فيها أفضل وأحب إلى الله من العمل في أي وقت سواها، حتى قال الأئمة: إنها أفضل من العشر الأواخر من رمضان.. قاله ابن رجب وابن تيمية وغيرهما.
روى البخاري عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر». قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: «ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (رواه أحمد).
وقد استحب أهل العلم للمسلم أن يكثر من عبادة الله وطاعته وأن يجتهد في هذه الأيام، لينال خيرها، ولا يفوته برها وأجرها.. واستحبوا له أعمالا يكثر منها في هذه الأيام المباركات:
أولها: وأعظمها حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا:
فإنه مخصوص بهذه الأيام ولا يكون في غيرها، نسأل الله أن يرزقنا حج بيته، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
ثانيها الصيام:
بأن يصوم هذه الأيام كلها، أو ما يستطيعه منها.. ويستدل على صيام الأيام التسعة بعموم حديث ابن عباس: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام» ولا شك أن الصيام من الأعمال الصالحة ـ بل هو من أفضلها وأحبها إلى الله «والصوم لي وأنا أجزي به»..
قال الحافظ رحمه الله: "وَاسْتُدِلَّ بِهِ ـ أي بحديث ابن عباس - عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ.."( فتح الباري:2 /460).
وجاء في صحيح سنن أبي داود، عن حفصة أم المؤمنين، رضي الله عنهن جميعا قالت: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْر)(رواه أبو داود وصححه الألباني).
وأما حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر قط"، فقد أجاب عنه العلماء بعدة أمور:
أولا: أن عائشة رضي الله عنها أخبرت بما علمت، وأخبر غيرها بخلاف خبرها، ومن علم حجة على من لم يعلم، والمثبت مقدم على النافي" نقله ابن عثيمين عن الإمام أحمد كما في "الشرح الممتع (6 /154).
ثانيا: أن القول مقدم على الفعل، كما هو معلوم عند الأصوليين، وحديث ابن عباس من القول، وحديث عائشة من الفعل، فيقدم.
ثالثا: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صيام هذه الأيام لعارض من سفر أو مرض أو شغل ونحوه، فحدثت عائشة رضي الله عنها بما رأته من ذلك.
رابعا: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك صيام هذه الأيام أحيانا؛ لأنه كان يحب أن يفعل العمل ويتركه خشية أن يفرض على الأمة.
وبمثل هذا أجاب الإمام النووي (المجموع:6/ 441)، وابن حجر (فتح الباري:2 /460)، والشوكاني (نيل الأوطار:4 /283).
ثالثها: صيام يوم عرفة لمن ليس بالحج:
وهو أمر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق الفقهاء على استحباب صومه لغير الحاج؛ لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».
رابعها: كثرة ذكر الله تعالى:
ودليله قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج:27]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (رواه أحمد)، ولعموم حديث ابن عباس السابق.. فيستحب الإكثار من الذكر بكل أشكاله وأنواعه، فهو من أزكى الأعمال: «أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟! قالوا: بَلَى، قال: ذِكْرُ اللهِ» (صحيح الترمذي).
خامسا: الإكثار من التكبير خصوصا:
فهو سنة مهجورة، كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلونها ويظهرونها في العشر. قال الإمام البخاري رحمه الله: (كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما).
وقال أيضاً: (وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً).
وهذا الذكر والتكبير هو ما يسميه العلماء ب"الذكر المطلق"، ويستحب في كل وقت وفي كل مكان وعلى كل حال، وأما الذكر المقيد بالتكبير دبر الصلوات فيبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر ثالث أيام التشريق.
سادسا: الإكثار من كل أعمال الخير والبر:
كالمحافظة على الجماعات، ونوافل الصلوات، والصدقات، وصلة الأرحام، وزيارة الأقارب والإخوان، والإحسان إلى الأرامل والفقراء والمساكين والأيتام، وكل أعمال البر. فإن النبي قد أطلق ذلك في حديث ابن عباس «ما من أيام العمل الصالح فيه أحب إلى الله..» فكل عمل صالح داخل في هذا الحديث.
سابعا: الأضحية:
وهي ملة أبيكم إبراهيم، وسنة نبيكم الكريم فقد (ضَحَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بكَبْشينِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُما بيَدِهِ، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووَضَعَ رِجْلَهُ علَى صِفَاحِهِمَا)(متفق عليه).
تنبيه هام لمن أراد أن يضحي:
روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا».
ولنا هنا ثلاث وقفات:
الأولى: أن هذا الحكم خاص بالمضحي فقط، وليس لكل أهل بيته، ولا لمن وكله ليذبح عنه.
الثانية: أن هذا النهي متعلق بالشعر والظفر فقط. فلا يمتنع عن طيب ولا نساء ولا غيرها.
الثالثة: أن النهي في هذه الأحاديث اختلف فيه العلماء بين التحريم والكراهة وعدم ذلك.
فذهب أحمد، وإسحاق، وداود وبعض أصحاب الشافعي: إنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية. وقال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه وليس بحرام. وقال أبو حنيفة: لا يكره. وروي عن الإمام مالك: مثل هذه الأقوال الثلاثة.
وعليه فالجمهور على الكراهة لا التحريم، وقد قال بعض أهل العلم الكراهة تزول لأدنى حاجة.
وقد أجمعوا على أن الإنسان حتى وإن أخذ شيئا من شعره أو ظفره فإن ذلك لا يؤثر على صحة أضحيته، وأن أضحيته صحيحة صحيحة.
فنسأل الله أن يوفقنا في هذه الأيام لصالح الأعمال والعمل بطاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.