لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم

منهجيَّة التعامُل مع العاصي ينبغي ألاَّ تخضعَ للعواطف الجَيَّاشة، أو الاجتهادات الفرديَّة الخاصَّة؛ بل تحكمها النُّصوص الشرعية المستفيضة منَ الكتاب والسنة النبويَّة الشريفة، وما أجملَ أن يستشعرَ الإنسان حال توجيه اللَّوم لأخيه العاصي أنه مكانه..

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -

عنوان هذه المقالة جُزء من حديث أخْرَجَه غيرُ واحد مِن أئمة الحديث؛ منهم الإمام البخاري - رَحِمَه الله - في "صحيحه"، مِن رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِرجُل قد شرب، قال: «اضربوه»، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فمنا الضاربُ بيده، والضاربُ بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان»، وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة: قال رجل: ما له أخزاه الله؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»، وحديث آخر نحوه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبدالله، وكان يُلَقَّب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتِي به يومًا، فأمر به فجُلد، فقال رجل منَ القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثر ما يؤتَى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه، فواللهِ ما علمتُ أنه يحب الله ورسوله». اهـ. من "صحيح البخاري"، كتاب الحدود، باب: "الضرب بالجريد والنعال"، وباب: "ما يكره من لَعْن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج منَ المِلَّة".


هذا الحديث يحمل توجيهًا نبويًّا كريمًا، ومنهجًا رَصِينًا في كيفيَّة التعامُل مع مَن وقع في معصية منَ المعاصي، منهجٌ ربما غابَ عن كثيرٍ منَّا؛ بحيثُ أصبح بعضُنا ينظر لصاحب المعصية نظرة استحقار وكراهية، قد يتبعها الدُّعاء عليه.


إنَّ مُوَاجَهة العاصي بقبيح فعله وسوء صنيعه؛ نحو قولنا له: اتَّقِ الله، أما تخشى عذاب الله؟! أما تستحي من الله؟! ثم إتباع هذا التقريع بدعوة صادقة يسمعها منك ذلك العاصي، ودعوة أخرى في ظهر الغيب، كل هذا أحرى به أن يرتدعَ ويتوبَ، ويشعر بأنك تنظر إليه نظرة رحمة ومودَّة، ومحبة الخير له، وليستْ نظرة استعلاء وامتهان.


قال ابن حجر - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: "ووجْه عَوْنهم الشيطان بذلك أن َّالشيطان يريد بتَزْيينه له المعصية أن يحصلَ له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي، فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان، ووقع عند أبي داود، من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح، ويحيى بن أيوب، وابن لَهِيعة، ثلاثتهم عن يزيد بن الهاد نحوه، وزاد في آخره: "ولكن قولوا: اللهُمَّ اغْفِر له، اللهم ارحمه"، وزاد فيه أيضًا بعد الضرب: "ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه «بكّتوه»، وهو أمر بالتبكيت، وهو مواجهته بقبيح فِعله، وقد فسَّره في الخبر بقوله: "فأقبلوا عليه يقولون له: ما اتقيتَ الله - عزَّ وجل - ما خشيت الله - جلَّ ثناؤه - ما استحيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أرسلوه"، ثم قال ابن حجر: "ويُستفاد من ذلك منع الدُّعاء على العاصي بالإبعاد عن رحمة الله؛ كاللعن... وفيه الرَّد على مَن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر؛ لثُبُوت النَّهي عن لعنه، والأمر بالدُّعاء له، وفيه: أن لا تنافي بين ارتكاب النَّهي، وثُبُوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخْبَرَ بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر منه، وأنَّ مَن تَكَرَّرتْ منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدَّم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يُراد به زواله بالكلية، بل نفي كماله، ويحتمل أن يكونَ استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيَّدًا بما إذا ندم على وقوع المعصية، وأقيم عليه الحد، فكفَّر عنه الذنب المذكور، بخلاف مَن لم يقع منه ذلك، فإنَّه يخشى عليه تكرار الذنب أن يطبعَ على قلبه شيء حتى يسلبَ منه ذلك، نسأل الله العفو والعافية". اهـ. (من "فتح الباري" ج12 ص67 – 82).


إنَّ التوجيه النَّبَوي الكريم في هذه الأحاديث منهجٌ قويمٌ في كيفيَّة التعامُل مع أصحاب المعاصي، وسياج منيع لمن يعجب بعمله، وتزهو نفسه إذا رأى غيره على معصية، كيف لا؟ وقد حدَّث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله - تعالى - قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ ألاَّ أغفر لفلان، فإنِّي قد غفرتُ لفلان، وأحبطتُ عملك» أو كما قال؛ الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.


ومَنِ الذي يعلم ما يؤول إليه حال ذلك العاصي غير الله؟! فقد يختم له بخير، ويختم لغيره بشرٍّ؛ كما في الحديث المتفق عليه: «فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».


إنَّ منهجيَّة التعامُل مع العاصي أوِ المخطئ منهجيَّة ينبغي ألاَّ تخضعَ للعواطف الجَيَّاشة، أو الاجتهادات الفرديَّة الخاصَّة؛ بل تحكمها النُّصوص الشرعية المستفيضة منَ الكتاب والسنة النبويَّة الشريفة، وما أجملَ أن يستشعرَ الإنسان حال توجيه اللَّوم لأخيه العاصي أنه مكانه، لو كان الناصح هو الشخص المبتَلَى، فماذا يحب أن يسمعَ؟ وكيف يريد مَن حوله أن يتعامَلُوا معه؟ ما أجملَ قاعدةَ: "ضع نفسك مكانه"، وما أروعَ ما ذَكَرَهُ الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه: "طريق الهجرتين" تحت قاعدة: "مشاهد الناس في المعاصي والذنوب"، قال: "الناس في البَلْوى التي تجري عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوِتون - بحسب شُهُودهم لأسبابها وغاياتها - أعظم تفاوُت، وجماع ذلك ثمانية مشاهد"، ثم ذَكَر في المشهد السابع مشهد الحكمة، وهو "أن يشهد – أي: العبد العاصي - حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب، وإقداره عليه، وتهيئة أسبابه له، وأنه لو شاء لَعَصَمَه وحال بينه وبينه؛ ولكن خلَّى بينه وبينه لحكمٍ عظيمة، لا يعلم مجموعها إلا الله"، ثم ساق ابن القَيِّم تلك الحِكَم العظيمة، ومنها:


• أن يعاملَ عبادَه في إساءتهم إليه وزلاَّتهم معه بما يُحِبُّ أن يعامله الله به؛ فإنَّ الجزاء مِن جنس العمل، فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.

• أن يقيمَ معاذير الخلائق، وتَتَّسع رحمته لهم، مع إقامة أمْر الله فيهم، فيقيم أمره فيهم؛ رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم.

• أن يخلعَ صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبَدَّل برقّة ورأفة ورحمة.

• أن يعرِّيه من رِداء العجب بعمله.

• أن يعرفَ مقداره مع معافاته وفضله في توفيقه وعصمته، فإن مَن تربَّى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلَى، ولا يعرف مقدار العافية.

• أنه يوجب له الإحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين منَ المؤمنين، فيصير هِجِّيرَاه: ربِّ اغفر لي ولوالدي، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثْل ما أصيب به، ويحتاجون إلى مثْل ما هو محتاج إليه، فكما يحبُّ أن يستغفرَ له أخوه المسلم، يحبّ أن يستغفر هو لأخيه المسلم".

____________________________________________
الكاتب: د. تيسير بن سعد بن راشد أبو حيمد