جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل (تابع 5)
محمد بوقنطار
إذا كان مقام النبوة ولازم العصمة يتعارضان ويرفضان ويتنافيان مع فعل الإيماءة بالعين وقد أُريد بها جلب خير أو دفع شر، وذلك إلى الحد الذي عدّها سيد الخلق محض خيانة
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
عندما ترجع إلى سيرة العلمية والسلوكية للعلماء في تعاملهم مع لفظ الخيانة تأصيلا وتنزيلا، لغة واصطلاحا، تأخذك الرهبة لدينك من هذا الفعل والسلوك المشين، فقد عدّه الراغب الأصفهاني والنفاق أمرا واحدا ثم استدرك مبرزا وجه الاختلاف بقوله : "إلا أن الخيانة تُقال اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين" ثم وجه كلامه فقال :" ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الخيانة الأمانة" انتهى كلامه.
وقد عدّها الإمام الذهبي من الكبائر مستدلا على ما ذهب إليه من وصف بقوله صلى الله عليه وسلم :"آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"، ثم استطرد قائلا : "الخيانة قبيحة في كل شيء، وبعضها شر من بعض، وليس من خانك في فَلْس كمن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم"
وإنك لتتفاجأ كيف أن المجتمعات الموغلة في الاعتبار المادي كمكوِّن يكاد يكون الأوحد في التقعيد للمفهوم الحضاري لديها، إذ لا اعتبار للأخلاق عندها في إطار ما تبنته من فلسفة وأخذت به من نظريات وهي تؤسس أو تجدد ميثاق عقدها وبناء كيانها الرسمي، نعم قد يبلغ لديك استشعار المفاجأة ذروته وأنت ترى هذا الاحتياط لجنابها المعنوي والمادي من فعل الخيانة وسلوك الخائنين، فالخائن عندها وفي ظل قوانينها الوضعية الزاجرة، لا مجال للتساهل أو التغافل أو التكاسل مع فعله بل حتى مع وجوده غير الاعتباري كمواطن، بل هذه الدول ذات التوجه المادي الصرف لتسمي وتقيّد هذا الفعل بما يدل على حجمه الإجرامي، فتراها تطلق عليه وصف "الخيانة العُظمى"، وقد لا تتوانى طرفة عين في إعدام الخونة من المتورطين في ملفات الجاسوسية والعمالة لفائدة عدو خارجي، بل والتمثيل بهم وتعليقهم في المشانق، والتشهير بأسمائهم، والتحجير على واسع تحرك ذويهم وأصحابهم وعشيرتهم الأقربين...
ولك في نفس السياق أن تتصور وضعية الخوّان أو الخائن لميثاق الزوجية في إطاره المدني، حتى عند الدول التي لم يشتهر عنها أنها تبدي كبير أو قليل اهتمام بتنظيم الأسرة وضبط مبدأي الخِلفة والتربية بضوابط أخلاقية، فغالبا ما تجد أنها تستعرّ منه وتُشنع على فعله، وتخندق جنسه في صف الأراذل والسفلة المنحرفين، وتمج سلوكه وتعدم سمعته في وجدان ضميرها الوطني حتى في ثوبه غير العابئ بالمكوِّن الأخلاقي، في موقف يُناقض أعرافها الرسمية، وإنّما هو تناقض يُمرر في غير استدراك هنالك، لكنه يشرح ويُوحي لنا قبلهم تحت طائلة ما نمتلكه من مرجعية أخلاقية ولا يمتلكونها، أن هذا الفعل ضارب في الشناعة مشبع بأنفاس الغدر والخديعة، التي تقل وتكاد تنعدم في صفوف الحيوانات بشقيها الأليف والعدواني.
لقد تناول القرآن هذه الصفة الذميمة، والسلوك المشين بتكرار يفيد ويدل على دركة ومأساة ارتكابها، حيث جاءت سياقات قرآنية عديدة تُكرس البغض الرباني لها ولأهلها، كما حذر الله سبحانه وتعالى نبيّه محمد عليه الصلاة والسلام من أهلها، لكي يأخذ حذره، ويحض حواريه من الصحابة بواجب أخذ الحيطة تبعا، والتوجس يقظة من المتربصين المتلبسين بكبيرتها، وإنّها لسياقات قرآنية جاءت بأسلوب صادع يفي بغرض التحذير من هذا السلوك والتحضيض على تركه وترك من تورط في الولغ من ردغة خباله، كما أشارت وأشّرت ذات السياقات القرآنية على الجزاءات المناسبة لهذا الهبوط اللإنساني، متوقفة عند أسفل دركات الجزاء حيث قول الله عز وجل "إن الله لا يحب الخائنين"
ولك بعضا من الآيات التي جاء في ثناياها هذا التحذير وذلك التحضيض وهذا الجزاء :
• { إن الله لا يحب الخائنين } (الأنفال 58)
• { وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين} {} (يوسف52)
• {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم} (البقرة187)
• { ولا تكن للخائنين خصيما } (النساء105)
• { إن الله لا يحب من كان خوّانا أثيما } (النساء107)
• {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} (النساء107)
• {ولا تزال تطّلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم } (المائدة13)
• {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (الأنفال27)
• {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } (الأنفال58)
• {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم} (الأنفال71)
• {إن الله لا يحب كل خوّان كفور} (الحج38)
• { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور} (غافر19)
• {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} (التحريم10)
وأما ما جاء في سنة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام فكثير وكثير، يهمنا منه خدمة للمقصود ما جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : "لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال : (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم على هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟) فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت لنا بعينك؟ فقال عليه الصلاة والسلام (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) رواه أبو داود والبيهقي.
يقول هذا عليه الصلاة والسلام مستدركا على أصحابه، كارها أن يقابل خيانة ورِدّة عبد الله بن سعد أخ عثمان بن عفان من الرضاعة، وهو الذي ادعى بأقبح الافتراءات وأشنعها أنه كان يُملي الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، طاعنا في أصل نبوته، قلت أن يقابل عليه الصلاة والسلام خيانته بإيماءة عين وإشارتها طلبا منه ورغبا في إنفاذ مرغوب وتوقيع مطلوب، تا الله إنها لحركة ندمن فعلها في المرغوب وغيره، ولا نلتفت أو ننتبه لمعرّتها أو حتى تتحرك فينا سواكن الضمير بالوخز المطلوب من أجل الإقلاع عنها، ولكنها سيرة الأنبياء وديدن الكُمّل من خلقه، ومقام الأمثل فالأمثل.
ولا ريب أن لكل مقام مقال، فإن كان إدماننا لإشارة العين وخيانتها قد صيّرها بيننا عُرفا وعادة وإلفا مستمرءا، فإن الأمر ليس كذلك في سيرة الأنبياء وسنن المرسلين في معاملاتهم بعد البعثة بل حتى قبلها، وقد اشتهر سيد الخلق بين قومه قبل البعثة بالصادق الأمين.
وإنما سقنا هذا الحديث النبوي الشريف لنقف ونُوقف من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لنعرف ويعرف هذا الموقوف أو المتوقف الحد الأدنى الموجب للمؤاخذة والمعتبر في باب المخالفة بالنسبة للمصطفين الأخيار، حتى إذا فقهنا جميعا هذه الخصيصة التي هي فرع عن كمالات الحياة الخاصة بالأنبياء والمرسلين منذ إهباط آدم وإلى حين بعثة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، تسنى لنا وساغ إعمال المقارنة في ظل مُعطى أن يوسف هو أخ كريم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فالأنبياء كما جاء في الوحي إخوة لعلّات.
ومن ثم نخلص لنقول أنه إن كان محمد عليه الصلاة والسلام قد تورّع لدينه واحتاط لسيرته توقيرا لجناب النبوة، فلم يرض في موقف حاجة في نفسه أن يومئ بعينه، بل عدّ الإيماءة هناك محض خيانة، فكذلك الشأن بالنسبة لأخيه يوسف، فلا تفريق بغير مُفرق، ولا مُفرق قد علمناه في هذا المقام، فما كان ليحصل له الهمّ المخلّ والميل النفسي الذي كاد يهيم به ليتداعى على عِرض لا يحل له، ويُقارف ذنبا تواترت الأدلة على أنه كان فاحشة وساء سبيلا، وإن من سوء السبيل أن يكون المُقارف المُخاني الخائن عند الله مبغوض الذات مذموم الجناب مصداقا لقوله تعالى "إن الله لا يحب الخائنين".
ثم انظر وتدبر كيف أن الله سبحانه وتعالى في سياقات من كلامه المحفوظ الملفوظ قد أثبت لنفسه كيدا ومكرا يليقان بجلال قدره وعظيم سلطانه، في مقابل كيد الكائدين ومكر الماكرين، إذ قال جل جلاله :"إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا" وقال سبحانه "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، ولكنه سبحانه نزه ذاته فلم يُقابل فعل الخيانة من الآية 71 من سورة الأنفال إلا بما يليق ويناسبه من الصفات العلا التي تفيد العزة والقهر والعلم والحلم والفضل والعدل، إذ قال سبحانه وتعالى "وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم"، وإنما كان منه هذا وهو الأعلى والأعلم تنزها عن فعل الخيانة، ذلك السلوك المذموم، والفعل المقبوح الظاهر والباطن، وإنك لا ولن تجد له ما يسعف ويخفف من بشاعة معناه الظاهر فيصرفه أو يرجح له تأويلا محتملا، أو محملا مظنون الحمد، ولا صارف من الحقيقة أو المجاز يمكن أن يصرفه بقرينة لفظية أو معنوية لتجعله مستساغا مقبولا.
ويبقى أن نقول أنه إذا كان مقام النبوة ولازم العصمة يتعارضان ويرفضان ويتنافيان مع فعل الإيماءة بالعين وقد أُريد بها جلب خير أو دفع شر، وذلك إلى الحد الذي عدّها سيد الخلق محض خيانة قد نص هو عليه الصلاة والسلام بما يستفاد من حديثه براءة إخوته من الأنبياء والمرسلين جميعهم من هذا النوع من اللِواذة إن جاز التعبير "ما كان لنبي..."، فكيف يا ترى بإيماءة وميل نفسي من نفس طاهرة مخلصة إلى فرج أطهر وأخلص كان السجن أحب لصاحبه من دعوتها ودعوتهن عطفا وتبعا، وقد سمّت تهمتهن لها والوقيعة في اغتيابها بالواقع منها على الحقيقة، سمّته (مكرا)، "فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن"، وإنما سمته مكرا لأنهن لو كن في موقفها لفعلن عين فعلها بل ما يزيد عنه، وما حادثة تقطيع أيديهن إلا أمارة وحجة تعضد رميها ووصفها بالمكر لنجواهن وحديثهن عنها وعن فتاها الذي شغفها حبا، والذي أكبرنه ورفعنه عن مقام البشرية في انبهار تحكيه عبارة "وقلن حاش لله ما هذا بشرا".
لقد تعلمنا من شرعنا الحنيف أن صغائر الرجل القدوة يحسبها الله بميزان العدل كبائر، فكيف والحال ها هنا ليس مع أي رجل، بل مع نبي خصّه الله بالعلم والحكمة والحفظ والأمانة والإخلاص والإحسان، ولذلك جاء السياق القرآني مفيدا من طرق عدّة لبراءته المطلقة، تقول إحدى هذه السياقات المباركة
"كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين"، حيث عُدِّي فعل "لنصرف" بحرف التعدية حرف الجر "عنه" وذلك لبيان أنه عليه السلام كان محل هجوم وكر لوافد غائر، ولم يكن وحاشاه مبادرا راغبا مائلا لمقارفة هذا الإثم الذي تستوعب كبيرته المقدمات والنتائج، والقرب كما الارتكاب، حيث يكون المناسب في السياق والحال هكذا "كذلك لنصرفه ..."
يتبع مع القطرة الخامسة ...
حيث الاستدلال بواحد من السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه... كما الاستدلال ببعض الحالات البشرية من أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام والتي تعرضت لعين الابتلاء وأفلحت ورجحت الخوف من الله والاستعاذة بعظمته في كبح جماح الصائل الأنوثي.