السحر (1)
من أعظم ما أصيبت به البشرية منذ قديم الزَّمان السِّحر؛ فبه يتسلَّط شياطين الجن على بني آدم فيضلُّونَهم ويُوقِعون بهم الأذى في دينِهم ودُنياهم، فتعاطيه وطلبه كبيرة من كبائر الذنوب تصِل إلى الخروج من دائرة الإسلام
- التصنيفات: الشرك وأنواعه -
من أعظم ما أصيبت به البشرية منذ قديم الزَّمان السِّحر؛ فبه يتسلَّط شياطين الجن على بني آدم فيضلُّونَهم ويُوقِعون بهم الأذى في دينِهم ودُنياهم، فتعاطيه وطلبه كبيرة من كبائر الذنوب تصِل إلى الخروج من دائرة الإسلام؛ يقول ربُّنا - عزَّ وجلَّ - مُخبرًا عن مَن قبْلَنا ممَّن يتعاطَون السحر: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].
فالساحر الذي يتَّصل بشياطين الجنِّ لا يتعلَّم السحر حتى يجعل دينَه قُربانًا لهم، فلا يخدمونه ويقضون حوائجَه إلا إذا كفر بالله، وتقرَّب لهم بما يخرُج به عن الإسلام، من عبادة الشَّيطان كالذَّبح له أو بعمل عملٍ يخرج به من الإسلام كإهانةِ المصحف.
وقد يتساءل سائلٌ: ما الذي يجعل الشياطين يقومون بِخدمة سحرة الإنس وينفذون أمْرَهم؟
فالجواب: إنَّ الشياطين بسبب فساد طبعِهم يبحثون عن الضَّرر وإلْحاقه بالآخرين، لاسيَّما إذا كان يحصل لهم بهذا الضَّرر نفعٌ معنوي، فإذا ناداهم السَّاحر بألفاظ التَّعظيم وأقْسم عليهِم بأسماء عُظمائِهم وتقرَّب لهم بالذَّبح ونحوِه، حصل لهم نفعٌ معنوي وهو شعورُهم بالعزَّة لاحتياج الإنس لهم، وإذلال أنفُسِهم لهم، وهم يعلمون أنَّ الإنس أشرفُ منهم وأعظم قدرًا، فإذا خضعت الإنس لهم واستعاذت بِهم كانوا بمنزلة أكابرِ النَّاس إذا خضعوا لأصاغِرهم ليقضوا لهم حاجاتِهم فأعطَوهم بعض حاجاتهم؛ فلذا كلَّما كان السَّاحر أشدَّ إيغالاً بالكُفْر كانت خِدمة شياطينِ الجِنِّ له أكثرَ، وظهر على يديْه من السِّحْر أشدَّ ممَّا يظهر على يدَيْ غيره.
عباد الله:
إتيان السحرة وسؤالُهم ضررٌ محض على دين النَّاس ودنياهم، فسؤالُهم كبيرةٌ من كبائِر الذُّنوب؛ فعن بعْضِ أزْواج النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيء، لم تُقْبَل له صلاة أربعين ليلة» (رواه مسلم (2230).
فسائلهم لا تقبل له صلاةٌ أربعين يومًا، وليس معنى هذا أنَّه لا يصلي أو يُؤْمر بالإعادة بعد انقضاء الأربعين، فهذا الحديث ونحوُه محمولٌ عند أهل العلم أنَّه لا ثواب له في صلاته مدَّة الأربعين، وذلك أنَّ الصلاة لها ثواب وإتْيان السَّحرة كبيرةٌ من كبائِر الذُّنوب، فإذا تقابل ثوابُ الصَّلاة وعِظَم ذنب إتْيان السَّحرة ساوى الذَّنب أجرَ الصَّلاة هذه المدَّة، فكأنَّها لم تقبل منه؛ لأنَّه لم ينتفع بِها في رِفْعة درجاتِه بل حطَّت من خطاياه.
ومن أتاهُم وصدَّقهم بِما يزعمونه من عِلْم الغيب والنَّفع والضرِّ، فهذا كفرٌ مُخرج من الملَّة؛ فعن أبي هُريرة عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «مَن أتى كاهنًا أو عرَّافًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بِما أُنْزِل على محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم» (رواه أحمد (9252) بإسناد صحيح).
ومَن صدَّقهم معتقدًا أنَّ هذا الساحر يتلقَّى ممَّن يسترِق السَّمع من الجِنِّ، ولم يعتقِد معرفتَهم الغيب وقُدْرَتهم على ما لا يقدر عليْه إلا الله، فهو على خطرٍ عظيم، لكنَّه لا يكفر.
لكنَّ ممَّا يَجدر التَّنبيه إليه أنَّه ليس كل سحْرٍ كفرًا، بل بعضُه ليس سحرًا على الحقيقة إنَّما يعتمِد على المعرفة بالموادِّ وخصائصِها، أو خفَّة اليد أو استخدام آلات لا تظهر للمُشاهد، مثل إشْعال منديل من غير نار، أو رفع شيءٍ ثقيل لا يُمْكِن للآدمي رفعُه، ومثله استِخْدام العقاقير والأدوية والأعشاب التي تُمرض ولا يجد لها الطبُّ علاجًا؛ لأنَّها لا تُعْلم مادَّتُها، وهذه شعوذة محرَّمة لكنَّها لا تصل للكُفر.
والسِّحر أنواع متعدِّدة، والصحيح أنَّه كله أسود فليس فيه سحر أبيض على ما يزعُم بعضهم، فمنه:
- سحر الصَّرف، وهو صرف المحبَّة إلى البغض، فيكون المحبوب - زوجة أو أم أو أب أو أخ أو غير ذلك - مبغَّضًا لا يرتاح معه المصروف ولا يهنأ له بال حتى يفارقه، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102].
وسبب البغض الشَّكُّ والريبة، أو استقباح الهيئة فيراه بِهيئةٍ قبيحة على خِلاف الواقع، ومن أعراض المُصاب بِهذا السحر انقِلاب حال الشَّخص فجأةً من غير أسبابٍ على أحبابِه، وبعْدُه عنهم، وعدم الرَّاحة لمجالستِهم ومحادثتِهم، وسوء الظَّنِّ بِهم، ووقوع المشاكِل معهم من غيْر سبب أو لأتفه الأسباب.
- ومن ذلك ربْط الرَّجُل عن امرأتِه، فلا يستطيع جماعها، أو عكس ذلك فتربط المرأة عن زوجها.
- ومنه سحرُ العطْف وهو سحر المحبَّة، وهو على ضدِّ الصَّرف فيتعلَّق المسحور بالشَّخص الذي عطف عليْه ولا يرتاح بِمفارقته، فيكون بين الزَّوجين وغيرِهِما، وقد يستخدمه الفجَّار للتوصُّل إلى مَن يريدون وصالَه وصالاً محرَّمًا، ومن أعراض المصاب بِهذا السِّحْر التحوُّل المفاجئ من عداوةِ شَخْصٍ أو حبٍّ طبعي إلى المحبَّة العارمة والطاعةِ التَّامة والانقيادِ للمحبوب وحسْنِ الظن به، والرضا عنه مهما ارتكب، وتلبيةِ مطالبه مهما كانت، وظهور التقصير في دين المعطوف وتساهل في المحرَّمات.
ومن أنواعه ما يتسبَّب في مرض المسحور، في جسدِه أو عقْلِه أو في كلَيْهِما، والدَّافع له في الغالب الرَّغبة في الانتقام.
إذا كان السَّاحر لا يتوصَّل إلى السِّحْر إلا بالكُفْر بالله، فهو مرتدٌّ يجري عليه حدُّ الردَّة، فيقتل مرتدًّا؛ فعن ابن عباس قال: قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «مَن بدَّل دينَه فاقتلوه» (رواه البخاري (3017).
وعن بجالة بن عبدة قال: أتانا كتابُ عمر قبل موتِه بسنةٍ أن "اقتلوا كلَّ ساحر وساحرة" فقتلنا ثلاثَ سواحر؛ رواه أحمد (1660) وغيرُه بإسنادٍ صحيح.
وقد صحَّ عن جندبٍ وحفصةَ قتْلُ السَّاحر، ولا يُعْلَم في الصَّحابة مخالفٌ لهما فكان إجماعا سكوتيًّا، ثم حصل الخِلاف في قتلهم بعد ذلك.
إخواني:
بعض من أصيبوا بالسحر عُمِلوا بنقيض قصْدِهم، فمثلاً تجِد المرأة تلحُّ على الرَّجُل بِجلب امرأةٍ لتُريحَها في عمل البيت، مع ارتِكاب المحذور الشَّرعي من التسبُّب بقُدومها من غير محرم والخلوة بالرَّجُل أحيانًا، ثمَّ يتحوَّل الأمر فتكون هذه المرأة مصدَرَ شقائِها وتعبِها، فربَّما تسبَّبت في سحْرِها أو بعض أهل البيت، أو أصبحت كالوحْش في البيت يُخْشى منها.
وبعض مَن يُسافِر ليمتِّع نفسَه بالمُتْعَة المحرَّمة، وليروِّح عن نفسه ترويحًا محرَّمًا يُعاقب بنقيض قصْدِه، وذلك بتسلُّط مَن يسحره في تلك البلاد فيأتيه العَناء وتكدُّر الخاطر، من أمرٍ كان يظنُّ أنَّه مصدر سعادته وانشِراح صدْرِه، فمن استعجل شيئًا قبل أوانِه عوقب بحرمانِه ولا يظلم ربُّك أحدًا.
وليس كل مَن أُصيب بالسِّحر بسبب معصيةِ الله؛ فالسحْر كغيرِه من مصائب الدنيا يُبتلى بها البَرُّ والفاجر، فسيِّد الخلق أتْقى النَّاس لربِّه - عزَّ وجلَّ – سُحِر.
فعن عائشةَ - رضي اللهُ عنْها – قالت: "كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - سُحِرَ حتَّى كان يرى أنَّه يأتي النِّساء ولا يأتيهِنَّ"، قال سفيان: وهذا أشدُّ ما يكون من السِّحْر إذا كان كذا، فقال: «يا عائشة، أعلِمْتِ أنَّ الله قد أفتاني فيما استفْتَيْتُه فيه، أتاني رجُلان فقعد أحدُهُما عند رأسي والآخَر عند رجلي، فقال الذي عند رأْسي للآخَر: ما بال الرجُل؟ قال: مطبوب، قال: ومَن طبَّه؟ قال: لبيد بن أعصَم، رجل من بني زريق حليف ليهود، كان منافقًا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاقة، قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذرْوان»، قالتْ: فأتى النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم - البئر حتَّى استخرجَه فقال: «هذه البئر التي أُرِيتُها، وكأن ماءها نقاعة الحنَّاء وكأنَّ نخْلَها رؤوس الشَّياطين» قال: فاستخرج، قالت: فقلت: أفلا، أي تنشَّرْتَ؟ فقال: «أمَّا الله فقد شفاني، وأكره أن أُثيرَ على أحدٍ من النَّاس شرًّا» (رواه البخاري (5765) ومسلم (2189).
سحر النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لا يخلُّ في مقام النبوة، فما أصابه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - نوعُ مرضٍ، وهو كسائر الخلق يُصيبُه ما يصيب النَّاس من الأذى الدنيوي، فلِذا أُغْمي عليه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وشجَّ رأسُه وكُسِرَت رباعِيَتُه، وكوْنه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يخيَّل إليْه أنَّه يفعل الشيْءَ هذا في ما يتعلَّق بالأمور الدنيويَّة، وأمَّا يتعلَّق بتبليغ الدين فهو معصوم بإجْماع أهل العلم.
وقد سُحِرَ موسى - صلَّى الله عليْه وسلَّم - سِحْرَ تخييل قبله، {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] فلم يكن ذلك قادحًا في رسالته - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
_________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان