العنوسة تؤرق المجتمع وتهدد استقراره

مجتمعنا اليوم يشهد عزوفـًا ملحوظـًا عن الزواج مما أدى إلى تفشي ظاهرة العنوسة التي أصبحت تهدد استقرار المجتمع، فقد بلغت نسبة العنوسة في مختلف البلدان العربية معدلات خيالية باتت مقلقة للشعوب والحكومات على حد سواء.

  • التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة - قضايا الشباب -
العنوسة تؤرق المجتمع وتهدد استقراره

إن الزواج في نظر الإسلام شريعة وسنة، وربما وصل إلى الفريضة في بعض الأحيان، وقد شرع الزواج من أجل العفة وحفظ النسل واستقرار المجتمع، فإعفاف النفس وصونها من أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى.كما لا يخفى ما في ترك الزواج من الآثار النفسية السيئة على كل من الرجل والمرأة.

سكن وراحة..رحمة ومودة
ويهيئ الزواج لكل من الرجال والنساء متعة من أعظم متع الدنيا، وهذه المتعة تنقسم إلى قسمين : سكن وراحة نفسية، وإمتاع ولذة جسدية، قال تعالى: 
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم/21].


والسكن إلى المرأة يشمل سكن النفس وسكن الجسم، كما أن المودة والرحمة من أجمل المشاعر. فالمتع الجسدية والنفسية تعمل عملها في نفس الإنسان وفكره وقواه النفسية والبدنية فيشعر بالرضا والسعادة والراحة النفسية والجسدية، حيث تتصرف طاقته وغريزته بأنظف الطرق وأطهرها، أما تصريف الشهوة خلال قناة غير شرعية فتكون متعته محدودة توجد بوجود اللذائذ الحسية، وتنتهي بانتهائها، ويأتي بعد ذلك شعور بالاحتقار والازدراء والامتهان، وتلك المشاعر غالبـًا ما تولد العقد النفسية والانحلال الخلقي وضعف الوازع وهوان النفس، أما مشاعر الأزواج فإنها تورث الحب والرحمة وسمو النفس وحياة الضمير والقلب، وإحساس الزوج بالمسؤولية تجاه الأسرة ينمي قدرته على القيام بالواجب، ويجعل له هدفـًا ساميـًا، وهو إسعاد أسرته وحمايتها، والسعي من أجل متطلباتها، فيبذل جهده ويزيد من إنتاجه، مما يعود على المجتمع بالنفع.

ومن حكم الزواج وفوائده، بلوغ الكمال الإنساني، فالرجل لا يبلغ كماله الإنساني إلا في ظل الزواج الشرعي الذي تتوزع فيه الحقوق والواجبات توزيعـًا ربانيـًا قائمـًا على العدل والإحسان والرحمة لا توزيعـًا عشوائيـًا قائمـًا على الأثرة وحب الذات.

 

ناقوس الخطر يدق:
بالرغم مما عددناه من فوائد دينية واجتماعية ونفسية للزواج إلا أن مجتمعنا اليوم يشهد عزوفـًا ملحوظـًا عن الزواج مما أدى إلى تفشي ظاهرة العنوسة التي أصبحت تهدد استقرار المجتمع، ولكن هناك عدة عوامل أدت إلى نشوء العنوسة، يأتي في مقدمتها الجانب الاقتصادي، فبتزايد أعداد السكان في جميع البلدان مع تراجع فرص الحصول على عمل مناسب وانتشار البطالة، أصبح الشاب عاجزًا عن توفير متطلبات الزواج، إضافة إلى المبالغة في المهور وتكاليف الزواج.

فالوعي الاجتماعي غير السليم يجعل للزواج احتياجات مادية مرهقة تدفع الشاب إلى الفرار وتكون النتيجة ضررًا يلحق بالطرفين ؛ فالشعور بالقناعة أحيانـًا يكون معدومـًا لدى الفتيات برغم تقدم أعمارهنَّ، فالزواج لا يتم عادة إلا بمصاريف باهظة بدءًا من حفل الزواج إلى الأثاث الفاخر الذي يكون مصدرًا لتباهي الزوجات بجودته وماركته المعروفة. كل هذا يجعل تكاليف الزواج تفوق ما يمكن أن يكسبه الشاب في عشر سنوات، وبالتالي فإن الهروب من الزواج أصبح هو الحل!

الجدير بالذكر أنه انتشرت أيضـًا في الآونة الأخيرة دعوات تندد بالزواج المبكر وأضراره النفسية والاجتماعية، وعقدت الندوات والمؤتمرات الدولية، وسنت التشريعات من خلال منظمات حقوق الإنسان، وقد غالى بعضها إلى حد تجريم الزواج المبكر، وقد لاقت تلك الدعوات قبولاً في مجتمعنا.

أيضـًا وسائل الإعلام وعلى رأسها التليفزيون والسينما أثرت تأثيرًا عميقـًا في نظرة الشباب إلى الزواج، حيث كثيرًا ما تصوره على أنه قيد يعوق انطلاق الشباب وتقدمهم، فأصبح القادرون على توفير نفقات الزواج في فترة قصيرة يصرفون اهتمامهم إلى اقتناء السيارة الفاخرة، أو تغيير الهاتف النقال أو السفر والسياحة والتنزه، وأصبح الشاب يعتبر الزواج عائقـًا عن تحقيق هذه الأمور، فيدفع عن ذهنه أي تفكير في الارتباط.

كذلك الفتيات تصور لهن وسائل الإعلام أحيانـًا الزواج على أنه تبعية وقتل لقدراتهنَّ وإبداعاتهنَّ وأنهنَّ لن يستطعن أن ينجزن شيئـًا من طموحاتهنَّ في ظل مؤسسة الزواج، فتتمنع الفتاة حتى تلحق بركب العنوسة.
وكذلك تفضيل الفتاة لوثيقة الدراسة على وثيقة الزواج جعلها تنصرف إلى استكمال الدراسة والحصول على الماجستير والدكتوراه وترفض الارتباط إلا بعد الحصول على مركز علمي معين أو منصب يُناسب مؤهلاتها، مما يجعل سنوات عمرها تضيع، وما أن تفيق حتى تجد نفسها وقد أصبحت عانسـًا.

 

العنوسة في الإحصائيات:
بلغت نسبة العنوسة في مختلف البلدان العربية معدلات خيالية باتت مقلقة للشعوب والحكومات على حد سواء.
ففي منطقة الخليج أكدت إحصائية صادرة عن وزارة التخطيط السعودية أن ظاهرة العنوسة امتدت لتشمل حوالي ثلث عدد الفتيات السعوديات اللائي في سن الزواج، وأن عدد الفتيات اللائي لم يتزوجن أو تجاوزن سن الزواج اجتماعيـًا - وهو (30) عامـًا - قد بلغ حتى نهاية 1999م حوالي مليون و(529) ألفـًا، و(418) فتاة، وذلك بسبب غلاء المهور والتكاليف الباهظة.
جدير بالذكر أن حالات الطلاق قد ارتفعت في الخليج بنسبة كبيرة حسبما أكد تقرير لوكالة أنباء الشرق الأوسط، حيث بلغت نسبة الطلاق في البحرين (34 في المئة)، وفي الكويت (29 في المئة)، وفي قطر (38 في المئة)، وفي الإمارات (37 في المئة).


وتشير الإحصائيات الرسمية في مصر إلى أن عدد الفتيات العانسات يصل إلى أربعة ملايين فتاة، بالإضافة إلى مليون فتاة فاتهنَّ قطار الزواج!

وأكد تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء وجود نحو تسعة ملايين شاب وفتاة في عداد العوانس والعانسات، وترجع أسباب العنوسة في مصر إلى عجز معظم الشباب عن تأثيث مسكن الزوجية، وكذلك إلى انصراف الشباب إلى الزواج من أجنبيات للحصول على جنسية بلد أجنبي أو لرخص تكاليفه.

وننتقل من مصر إلى العراق، حيث أفادت إحصائية نشرت في العراق أن مليون امرأة تتراوح أعمارهن بين (35) و (43) عامـًا غير مرتبطات في مجتمع يعاني من ظروف اقتصادية صعبة، فبسبب الحظر المفروض على الشعب العراقي منذ أكثر من عشر سنوات، تشكل نفقات الزواج عبئـًا كبيرًا على الشباب العراقيين، خصوصـًا مع ارتفاع أجور السكن وغلاء المهور.

وفي سوريا تشير الإحصائيات إلى أن نصف الشباب السوريين في سن الزواج عازفون عنه أو تأخروا بسبب ضعف قدراتهم المادية وعدم توافر المساكن وغير ذلك، وأصبح موضوع الزواج في سوريا صعبـًا للغاية بسبب ارتفاع أسعار الشقق السكنية مقارنـًا بدخل الفرد الذي يبلغ متوسطه (42) دولارًا شهريـًا، في حين وصل أعلى راتب شهري في الدولة إلى ما يوازي (210) دولارات شهريـًا.


وفي لبنان نجد أن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة منذ سنوات تسببت في هجرة ثلث الشباب اللبناني أو أكثر، ومن تبقى منهم يعاني أزمات السكن والعمل والبطالة، وهذا كله يؤدي إلى ازدياد أعداد الشباب غير المتزوجين.

وفي ليبيا يمر الزواج في المجتمع الليبي بمراحل مختلفة وفق عادات وتقاليد تتطلب صرف أموال طائلة لإتمامها، يعجز الكثير من الشباب عن القيام بتلبيتها، علاوة على الغلاء في المهور الذي يصل إلى (15 ألف دولار)، بالإضافة إلى تحمل كافة تكاليف إعداد المسكن وتجهيزه مما يثقل كاهل الشاب بمسؤولية تجعله يحجم عن الزواج، مما يؤدي إلى تفشي العنوسة.
وفي المغرب تجاوز الشباب والفتيات سن الزواج، ويعزى الكثير من السلبيات والانحرافات هناك إلى العنوسة.

 

وقفة للمراجعة والحسابات :
لا يخفى على أحد ما تؤدي إليه العنوسة من أخطار جسيمة تحيط بالمجتمع، مما يستدعي بالمقابل تضافر الجهود والتعاون بين الأطراف لتقليص نسبة العنوسة المرتفعة.
فأولاً تكون المبادرة على مستوى الأفراد بحيث تكون لديهم قناعة بأهمية التيسير في الزواج وعدم التمسك بالعادات والتقاليد، فالآباء والأمهات في الوقت الذي يشكون فيه من تقدم أعمار بناتهن، عندما يأتيهم خاطب يفرضون عليه شروطـًا تكاد تكون تعجيزية بالنسبة له، مما يدفعه إلى الفرار، ولكن إذا تفهمت الأسر الوضع الحقيقي للشباب وغلاء المعيشة وصعوبة الحصول على سكن فسيسود نوع من التعاون بين الطرفين ويستطيع الشاب تأسيس أسرة.
وقد أدركت الدول والمؤسسات مدى خطورة هذه الظاهرة، وبدأت في إيجاد الحلول لتقليص العنوسة.


ففي الكويت قامت مجموعة من رجال الأعمال ومسؤولي الجمعيات الخيرية والأهلية بالإعلان عن تأسيس صندوق للزواج يستهدف التوفيق بين الراغبين من الجنسين في الزواج، وتقديم القروض المالية اللازمة على أن تكون بدون فوائد، وعلى أقساط قليلة ومريحة.


وفي الإمارات تم إنشاء مشروع برعاية الدولة يُمنح من خلاله الشاب الإماراتي (70) ألف درهم عند زواجه من مواطنة إماراتية تحفيزًا للشباب، وقد تمت آلاف الزيجات من خلال هذا المشروع.
ونظم الاتحاد العام لشباب العراق في منتصف شهر أكتوبر الماضي حفل زواج جماعيـًا شمل (974) من الشباب والشابات.
وفي سوريا شارك (24) شابـًا وشابة في عرس جماعي أقيم برعاية وزارة الثقافة في أول بادرة من نوعها لتشجيع الشباب على الزواج.


وفي مصر أشار الدكتور " أحمد محمود " الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر إلى ضرورة إعمال آليات التكافل الاجتماعي في الإسلام عن طريق الأثرياء ورجال الأعمال.
ويشدد الشيخ "منصور الرفاعي " وكيل الأوقاف السابق على ضرورة إنشاء صندوق للزواج في مصر أسوة بصندوق التكافل الاجتماعي ؛ ومن المتصور أن يسير عمل الصندوق في ثلاثة محاور :
المحور الأول : محور التوعية في المساجد ونوادي الشباب ووسائل الإعلام، وفي المصانع والاتحادات العمالية.
أما المحور الثاني فيتمثل في البحث الاجتماعي ودراسة الأسباب الاجتماعية للمشكلة، واقتراح الأساليب الملائمة للعلاج.
ومن خلال المحور الثالث يتم إنشاء المساكن وتشكيل لجنة لوضع تخطيط وتصميم لمساكن المتزوجين حديثـًا بأقل تكلفة.
فبجهود الحكومات والمؤسسات والأفراد أيضـًا يمكن تقليص العنوسة وتفادي آثارها الخطيرة على المجتمع.


فالعوانس في الغالب يسيطر عليهنَّ شعور بالتمزق والطيش وضعف الوازع والرغبة في الهدم ؛ لأنهنَّ حرمن من نعمة الزواج والأولاد، ولذلك جاء الإسلام بالقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة فأمر بتزويج العوانس والأرامل، حيث قال الله تعالى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور/32].

والأيم هي التي مات عنها زوجها، والأمر هنا للمسلمين عامة وأولي الأمر خاصة، فحرمان المرأة من نعمة الزوج ربما يخلق منها امرأة ناقصة عقليـًا وخُلقيـًا وفكريـًا، ويكون هذا بظلم من المجتمع وهو الذي سيجني ثماره.

___________________________________________
الكاتب: 
اسم الكاتب: أحمد الشاهد