الكبائر وحكم مرتكبها
فما الكبائرُ؟ وما حكمُ من يرتكبها؟
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - الفقه وأصوله -
الحمدُ لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد، سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد قال الله - عز وجل -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} ﴾ [النساء: 31]، وقال الله - جل وعلا -: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ﴾ [الشورى: 37].
فما الكبائرُ؟ وما حكمُ من يرتكبها؟
إن الكبائر جمع كبيرة، والكبيرة في اللغة تعني: الشيء العظيم، وتقول: أَكْبَرْت الشيءَ أي استعظمته، والتكبير: التعظيم،ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31]، أي: أعظمنه، على قول أكثر المفسرين[1]؛ فالمقصود بالكبائر إذًا: الذنوب العظام.
وقد اتفق جمهور الناس على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، ثم اختلفوا في الكبائر بعد ذلك: هل لها عدد يحصرها أم لا، على قولين[2]:
الأول: قول الذين ذهبوا إلى القول بحصرها في عدد محدد، وهؤلاء اختلفوا في عددها:
فقيل: هي أربعة[3]، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقيل: هي إحدى عشرة، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع[4]، وقيل: هي سبعمائة[5]، وقيل غير ذلك، والصحيح أنه لا دليل من الكتاب والسنة يفيد الحصر.
الثاني: قول الذين لم يحصروها بعدد معين، وهؤلاء اختلفوا في حدِّها، وفي الضابط الذي يفرقون به بين الكبيرة والصغيرة على أقوال منها:
أولاً: أن الكبائر هي كل ما اتفقت جميعُ الشرائع على تحريمه، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة[6]، وهذا يَرِد عليه أن التزوج ببعض المحارم، أو المحرمات بالرضاعة ليس من الكبائر، إذ لم تتفق على تحريمه كل الشرائع، كما أن "الفرق بين ما اتفقت عليه الشرائع واختلفت لا يُعلم إن لم يمكن وجودُ عالم بتلك الشرائع على وجهها، وهذا غير معلوم لنا"[7].
ثانيًا: أن كل ما عصي الله به فهو من الكبائر، وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما[8]؛ قال البيهقي: "يحتمل أن يكون هذا في تعظيم حرمات الله، والترهيب عن ارتكابها، فأما الفرقُ بين الصغائر والكبائر فلا بد منه في أحكام الدنيا والآخرة على ما جاء به الكتاب والسنة"[9].
ثالثًا: أن الذنوب كلها بالنسبة إلى الجراءة على الله والتوثّب على حقه والاستهانة به تعدّ من الكبائر[10]، وهذا يقتضي أن الذنوب لا تنقسم في نفسها إلى صغائر وكبائر، وهو فاسد؛ لأنه خلاف النصوص، كما أن هذا الحدّ لا يمكن من خلاله التفريقُ بين الكبائر والصغائر.
رابعًا: أن الكبائر ذنوب العَمْد، والصغائر هي: الخطأ، والنسيان، وما أكره عليه، وحديث النفس؛ قال ابن القيم: "هذا من أضعف الأقوال طردًا وعكسًا؛ فإن الخطأ والنسيان والإكراه لا يدخل تحت جنس المعاصي حتى يكون أحد قسميها، والعمد نوعان: نوع كبائر، ونوع صغائر"[11].
خامسًا: الكبائر ذنوب المستحلين مثل ذنب إبليس، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم، وهذا القول ضعيف أيضًا؛ لأن "المستحل ذنبُه دائر بين الكفر والتأويل، فإنه إن كان عالمًا بالتحريم فكافر، وإن لم يكن عالمًا به فمتأول أو مقلد، وأما المستغفر فإن استغفاره الكامل يمحو كبائره وصغائره، فلا كبيرة مع استغفار"[12].
سادسًا: أن الكبائر الشرك وما يؤدي إليه، والصغائر ما عدا الشرك من ذنوب أهل التوحيد، واحتج أصحاب هذه المقالة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل -: «ومن لَقِيَني بقُراب الأرض خطيئةً لا يشرك بي شيئًا، لَقِيتُه بمثلها مغفرةً» [13]، ولا حجة لهم في الآية؛ لأن غايتها التفريق بين الشرك وغيره، إذ إن الشرك لا يغفر إلا بالتوبة منه، وأما ما دون الشرك فهو موكول إلى المشيئة، ولكنها لا تدل على أن كل ما دون الشرك فهو صغيرة في نفسه.
وأما الحديثُ فلا حجة لهم فيه أيضًا، فهو يدل على أن من لم يشرك بالله شيئًا فذنوبُه مغفورة كائنةً ما كانت، ولكنه لا يدل على أن ما عدا الشرك كله صغائر[14].
سابعًا: أن الكبائر هي كل ما يترتب عليه حدٌّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة من عذاب أو غضب أو تهديد أو لعن[15]، وهذا القول هو أمثل الأقوال في هذه المسألة؛ لأنه سلم من القوادح الواردة على غيره، وهو المأثور عن السلف.
قال ابن تيمية: "إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه:
أحدها: أنه المأثور عن السلف..
الثاني: أن الله قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنة أو ما يقتضي ذلك فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر، إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه.
الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الذنوب، فهو حد يتلقى من خطاب الشارع، وما سوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو قول رأي القائل وذوقه من غير دليل شرعي، والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز.
الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر [16].
حكم مرتكب الكبيرة:
إن مرتكب الكبيرة قد تنازع الناس في اسمه وحكمه، ولعل الخلاف فيه يعدّ أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين[17]، والناس فيه طرفان ووسط:
• طرف الغلو:
وفيه طائفتان:
الأولى: الخوارج، وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب؛ بل بما يرونه هم من الذنوب، فقالوا: ما الناس إلا مؤمن أو كافر، والمؤمن هو من فعل جميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم كافرًا كذلك.
ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة؛ فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرًا مرتدًّا لوجب قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بدل دينه فاقتلوه» [18]، وقال: «لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة» [19].
وأمر سبحانه أن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما، وأمر سبحانه بأن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة، ولو كان كافرًا لأمر بقتله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر ولم يقتله؛ بل قد ثبت أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارًا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثرَ ما يُؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله»[20]، فنهى عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله ورسوله، مع أنه قد لعن شارب الخمر عمومًا.
وأيضًا فإن الله سبحانه قال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9 - 10]، فقد وصفهم الله بالإيمان والأخوة وأمرنا بالإصلاح بينهم، على الرغم مما وقع بينهم من التقاتل.
الثانية: المعتزلة، الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري، وهم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأتباعهما، فقالوا: أهل الكبائر لا نسميهم لا مؤمنين ولا كفّارًا، بل هم فساق، وننزلهم منزلة بين المنزلتين، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارًا، وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج من النار أحد بعد أن يدخلها، وقالوا: ما الناس إلا رجلان سعيد لا يعذب، أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق، وقالوا كالخوارج: إن مرتكب الكبيرة يخلد في النار، ولكنهم قالوا: إنه ليس في طبقة الكفار، وإنما في طبقة أخفّ عذابًا.
قال القاضي عبدالجبار الهمداني المعتزلي: "صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يسمّى فاسقًا، وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن؛ بل يفرد له حكم ثالث، وهو المنزلة بين المنزلتين"[21].
وهذا القول هو أول ما خالفت المعتزلة به الجماعة، وقد حدث ذلك عندما "دخل على الحسن البصري رجل فقال: يا إمام الدين، ظهر في زماننا جماعة يكفرون صاحب الكبيرة - يعني الخوارج - وجماعة أخرى يرجئون الكبائر، ويقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فكيف تحكم لنا أن نعتقد في ذلك؟ فتفكر الحسن، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن ولا كافر، ثم قام إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به، من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، ويثبت له المنزلة بين المنزلتين قائلاً: إن المؤمن اسم مدح، والفاسق لا يستحق المدح، فلا يكون مؤمنًا، وليس بكافر أيضًا؛ لإقراره بالشهادتين، فإذا مات بلا توبة خلّد في النار؛ إذ ليس في الآخرة إلا فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، لكن يخفف عليه ويكون دركته فوق دركات الكفار، فقال الحسن: قد اعتزل عنا واصل؛ فلذلك سمي هو وأصحابه معتزلة"[22].
وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما ردوا به على الخوارج، فيقال لهم: كما أن الخوارج قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له، وكافر لا حسنة له، فقد قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له، وإلى كافر وفاسق لا حسنة له، فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة، وهو مخلد في النار، لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق كما يستحقها المرتد، وقد قال تعالى في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، فجعل ما دون ذلك الشرك معلقًا بمشيئته، ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب، فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خصّ وعلق.
وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]، فقد قسم سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
ومعلوم أن الظالم لنفسه لا يراد به من اجتنب الكبائر والتائب من جميع الذنوب؛ لأن من هذا وصفه يكون مقتصدًا أو سابقًا بالخيرات، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصدًا أو سابقًا بالخيرات، كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة، ولو بعد عذاب يطهّر من الخطايا، فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يَخرج أقوامٌ من النار بعد ما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين الوعيدية: الخوارج والمعتزلة[23].
• طرف التفريط:
وهم المرجئة الذين قالوا: إن مرتكب الكبيرة مؤمن بإطلاق، وهو مستحق للمغفرة في الآخرة، وقالوا: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومنهم الواقفة الذين يقولون: لا ندرى هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا، وهذا ينسب أيضًا إلى طوائف من الشيعة والأشاعرة، وأما غلاة المرجئة فقالوا: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد.
فأما قولهم: إن مرتكب الكبيرة مؤمن بإطلاق، فمردود بالأحاديث الدالة على انتفاء الإيمان المطلق عن مرتكب الكبيرة، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» [24].
قال النووي: "هذا الحديث مما اختلف العلماءُ في معناه؛ فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي، وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة"[25].
وقال ابن بطال: "حمل أهلُ السنة الإيمانَ هنا على الكامل؛ لأن العاصي يصير أنقص حالاً في الإيمان ممن لا يعصي"[26].
وأما قولهم: إنه مغفور له في الآخرة، فمردود بالأحاديث الدالة على دخول بعض الموحدين النار، أو الأحاديث على أن مرتكب الكبيرة يكون في مشيئة الله في الآخرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه» [27].
قال ابن حجر: "قوله: "إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه" يشمل من تاب من ذلك، ومن لم يتب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله؛ لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أو لا"[28].
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يخرج أقوام من أهل التوحيد من النار بعد ما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، فيخرجون من النار ويدخلون الجنة، وهذه الأحاديث حجة على من نفوا أن يدخل أحد من أهل التوحيد النار، أو الذين توقّفوا في ذلك.
قال ابن القيم: "وأما المرجئة فإنهم يجوزون أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد، وهذا بخلاف المعلوم المتواتر من نصوص السنة بدخول بعض أهل الكبائر النار، ثم خروجهم منها بالشفاعة، ومع هذا التواتر الذي لا يمكن دفعُه، لا يجوز أن يقال بجواز أن لا يدخل أحد منهم النار؛ بل لا بد من دخول بعضهم، وذلك البعض هو الذي خفّت موازينُه ورجحت سيئاتُه كما قال الصحابة، وحكى أبو محمد بن حزم هذا إجماعًا من أهل السنة"[29].
ويجدر التنبيه على أن انحراف كل من الخوارج والمعتزلة والمرجئة في هذا الباب، راجع إلى قولهم: إن الإيمان شيء واحد لا يتبعّض ولا يتجزّأ، وأنه إذا ذهب بعضُه ذهب كله.
قال ابن تيمية: "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء، ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان المطلق، فإذا ذهب شيءٌ منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار.
وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تُذهب الكبائرُ وتركُ الواجبات الظاهرة شيئًا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئًا واحدًا يستوي فيه البر والفاجر"[30].
• مذهب أهل السنة والجماعة:
وهو الوسط بين غلو الخوارج والمعتزلة، وجفاء المرجئة وتفريطهم، حيث قال أهل السنة: إن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته؛ لأن ارتكابه للكبيرة انتقص من كمال إيمانه الواجب، وإن لم يقدح في أصل إيمانه.
وقالوا: إن مرتكب الكبيرة إن مات غير تائب عن كبيرته فهو في مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بغير عذاب، وإن شاء عذّبه إلى حين ثم أخرجه من النار وأدخله الجنة[31]، واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد[32].
قال ابن تيمية: "اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقالُ ذرة من إيمان، واتفقوا أيضًا على أن نبينا يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته"[33].
فأما قولهم: إن مرتكب الكبيرة يسمى مؤمنًا لما عنده من أصل الإيمان، فيدل عليه قولُ الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9، 10]، فسمى الله هؤلاء مؤمنين مع ما وقع بينهم من القتال الذي يعد من أكبر الكبائر، وبين أنهم لم يخرجوا من الإيمان بالكلية[34]؛ ولذلك كان الإمام مالك يقول: "أهل الذنوب -أي الكبائر- مؤمنون مذنبون"[35].
وأما أنه ليس مؤمنًا بإطلاق، فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» [36].
قال محمد بن علي: "قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن،...» قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام البتة، فإن تاب تاب الله عليه، ورجع إليه الإيمان))"[37].
وسئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم ولا أسميه مؤمنًا، ومن أتى دون ذلك -يريد دون الكبائر- أسميه مؤمنًا ناقص الإيمان"[38].
قال ابن تيمية: "فأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سلب جميع الإيمان، فلم يبق معه منه شيء كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فإنه قد صرح في غير موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» [39] وليس هذا قوله، ولا قول أحد من أئمة أهل السنة؛ بل كلهم متفقون على أن الفساق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين، لكن إذا كان معه بعضُ الإيمان لم يلزم أن يدخل في الاسم المطلق الممدوح"[40].
ولكن ألا يجوز أن يقال مطلقًا: إن مرتكب الكبيرة مؤمن؟
"الصحيح التفصيل: فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، قيل: هو مؤمن، وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين، وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة؛ بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه؛ ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان"[41].
وأما قولهم: إنه في الآخرة في مشيئة الله، فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه» [42].
وأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر، فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»[43]، وغيره من الأحاديث، وهي كثيرة مستفيضة في هذا المعنى.
قال ابن تيمية: "قد ثبت بالسنة المستفيضة المتواترة باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به، ويطلبون منه أن يشفع لهم، ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد"[44].
[1] انظر: لسان العرب (12/13)، وتفسير الطبري (12/204)، وتفسير ابن كثير (2/477).
[2] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (1033-1043)، والجواب الكافي لابن القيم ص 87.
[3] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1922).
[4] أخرجه الطبري في التفسير (5/41)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1917، 1918).
[5] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1919).
[6] انظر: الجواب الكافي ص 88.
[7] مجموع الفتاوى (11/655).
[8] شعب الإيمان للبيهقي (292)، وانظر: مدارج السالكين (1/321).
[9] شعب الإيمان (1/273).
[10] انظر: الجواب الكافي ص 89.
[11] مدارج السالكين (1/323).
[12] مدارج السالكين (1/323).
[13] أخرجه مسلم (2687) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
[14] انظر: مدارج السالكين (1/325-327).
[15] انظر: الكبائر للذهبي ص6.
[16] مجموع الفتاوى (11/650-655) باختصار.
[17] انظر: مجموع الفتاوى (7/478).
[18] أخرجه البخاري (6922) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[19] أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[20] أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[21] شرح الأصول الخمسة ص697.
[22] المواقف للإيجي (3/658).
[23] انظر: مجموع الفتاوى (7/484-487).
[24] أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[25] شرح النووي على صحيح مسلم (2/41).
[26] فتح الباري (10/34).
[27] أخرجه البخاري (18)، ومسلم (1709)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[28] فتح الباري (1/68).
[29] طرق الهجرتين ص569.
[30] مجموع الفتاوى (7/223).
[31] انظر: مجموع الفتاوى (6/175).
[32] انظر: الرد على البكري ص412.
[33] مجموع الفتاوى (7/222).
[34] انظر: مجموع الفتاوى (7/355).
[35] الجامع لأبي زيد القيرواني ص123.
[36] أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدم.
[37] السنة للخلال (1083)، والسنة لعبد الله بن أحمد (757).
[38] مجموع الفتاوى (7/254).
[39] أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[40] مجموع الفتاوى (7/257)
[41] مجموع الفتاوى (7/355،354).
[42] أخرجه البخاري (18)، ومسلم (1709)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وقد تقدم تخريجه.
[43] أخرجه أحمد (12810)، وأبو داود (4739)، والترمذي (2435)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال العجلوني في كشف الخفا (2/14): صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال البيهقي: إسناده صحيح. اه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3714).
[44] الرد على البكري ص 412.
_________________________________________________
الكاتب: إيهاب كمال أحمد