فضل شهر محرم وصيام عاشوراء

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صيام يوم عاشوراء، إني أحتسبُ على الله أن يكفِّر السنة التي قبله» (رواه مسلم).

  • التصنيفات: ملفات شهر محرم -
فضل شهر محرم وصيام عاشوراء

عباد الله؛ اتَّقوا الله ربَّكم أيها المسلمون؛ فمَن أطاع ربَّه واتَّقاه، رَبِح في الدنيا والآخرة.

 

عباد الله:

إن ربَّنا - سبحانه - واسع العطاء، ومنه جزيل الإحسان، ومن فضل الله تعالى وحِكمته، أن فضَّل بعض الأشياء على بعض، فعن الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - يقول -سبحانه -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].

 

وعن غيرهم من البشر يقول تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 21].

 

ولله - سبحانه - أن يختصَّ بفضله مَن يشاء من عباده، وله - سبحانه - أن يفضِّل بعض الأزمان على بعض، وأن يخصَّها بمزيد عناية وكرمٍ، ومن ذلك ما اختصَّ به شهر محرَّم، فهو شهر عظيم مبارك، وهو أوَّل شهور السنة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].

 

وعن أبي بَكرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {السنة اثنا عشر شهرًا؛ منها أربعة حُرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمُحرَّم، ورجب مُضر الذي بين جُمادى وشعبان} (رواه البخاري).

 

وقوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: في هذه الأشهر المحرَّمة؛ لأنها آكدُ وأبلغ في الإثم من غيرها؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} اختصَّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهنَّ حرامًا، وعظَّم حُرماتهنَّ، وجَعل الذنب فيهنَّ أعظمَ، والعملَ الصالح والأجر أعظمَ.

 

ومن فضائل شهر المحرَّم:

أنه يُستحب الإكثار من صيام النافلة في شهر محرَّم؛ ففي الحديث: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم» (رواه مسلم).

 

وقوله: (شهر الله) من باب إضافة التعظيم، وأفضل أيَّامه اليوم العاشر، فقد صامَه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمَر بصيامه؛ ففي الصحيحين وغيرهما - مجموعًا - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قَدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فرأى اليهود تَصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا»؟، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوِّهم، فصامَه موسى؛ شكرًا لله تعالى، قال: «فأنا أحقُّ بموسى منكم»، ونحن نصومه تعظيمًا له، فصامَه وأمَر بصيامه، ورَواه الإمام أحمد بزيادة: "وهو اليوم الذي استَوَت فيه السفينة على الجُودي، فصامَه نوح شكرًا".

 

وصيام عاشوراء كان معروفًا في أيام الجاهلية قبل البعثة النبويَّة، وكان أهل الجاهلية يصومونه، كما ثبَت عن عائشة - رضي الله عنها.

 

وقد كان صوم يوم عاشوراء واجبًا في أوَّل الإسلام، ثم نُسِخ الوجوب، وبَقِي الاستحباب؛ يقول ابن مسعود - رضي الله عنه - عند كما في صحيح مسلم: "لَمَّا فُرِض رمضان، تُرِك عاشوراء".

 

أما عن فضل صيام يوم عاشوراء، وعناية النبي - صلى الله عليه وسلم - به، فيُخبرنا ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ما رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره، إلاَّ هذا اليوم: يوم عاشوراء، وهذا الشهر؛ يعني: شهر رمضان"؛ رواه البخاري، ومعنى "يتحرَّى"؛ أي: يقصد صومه؛ لتحصيل ثوابه والرغبة فيه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صيام يوم عاشوراء، إني أحتسبُ على الله أن يكفِّر السنة التي قبله» (رواه مسلم) .

 

وهذا من فضل الله علينا أن أعطَانا - بصيام يومٍ واحدٍ - تكفيرَ ذنوب سنة كاملة، والله ذو الفضل العظيم، ولكن صيام عاشوراء ماذا يكفِّر؟ قال أهل العلم: إنه يكفر الذنوب الصغائر فقط، أمَّا الكبائر، فلا تُكفِّرها إلاَّ التوبة وقَبولها، كما أشار إلى ذلك العلماء المحقِّقون؛ كالنووي، وابن تيميَّة - رحمهما الله.

 

واستمعوا إلى الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - وهو يُحذِّر مَن يتصوَّر أن صيام عرفة وعاشوراء كافٍ في النجاة والمغفرة، يقول - رحمه الله -: "لَم يَدرِ هذا المغترُّ أن صوم رمضان والصلوات الخمس، أعظمُ وأجَلُّ من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفِّر ما بينهما إذا اجْتُنِبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، لا يَقويان على تكفير الصغائر، إلاَّ مع انضمام تَرْك الكبائر إليها، فيَقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر، ومن المغرورين مَن يظنُّ أن طاعاته أكثرُ من معاصيه؛ لأنه لا يُحاسب نفسه على سيِّئاته، ولا يتفقَّد ذنوبه، وإذا عَمِل طاعة حَفِظها واعتدَّ بها، كالذي يستغفر الله بلسانه، أو يُسبِّح الله في اليوم مائة مرة، ثم يَغتاب المسلمين، ويُمزِّق أعراضهم، ويتكلَّم بما لا يرضاه الله طول نهاره، فهذا أبدًا يتأمَّل في فضائل التسبيحات والتهليلات، ولا يَلتفت إلى ما ورَد من عقوبة المغتابين والكذَّابين والنمَّامين، إلى غير ذلك من آفات اللسان، وذلك مَحض غرور"؛ انتهى كلامه.

 

ولَمَّا كان من هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - حرصُه على مخالفة الكفار في عباداتهم وأعمالهم، أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيام اليوم التاسع مع العاشر؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمرَ بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تُعظِّمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا كان العام المُقبل - إن شاء الله - صُمنا اليوم التاسع» (رواه مسلم).

 

وهل يجوز إفرادُ عاشوراء بالصيام، حتى وإن كان يوم جمعة أو سبت؟ يقول أهل العلم: إنه لا مانعَ منه، وإن كان الأَوْلى صيام يوم قبله أو يوم بعده، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وبه أفتَت اللجنة الدائمة للإفتاء.

 

وهنا أمر يَكثر فيه السؤال، وهو ما العمل إذا اشْتَبه أول الشهر؟ فلم يُدرَ أيُّ يوم هو العاشر أو التاسع؟ فيقال ما ذكَره الإمام أحمد: "فإن اشْتَبه عليه أوَّل الشهر، صام ثلاثة أيام، وإنما يَفعل ذلك؛ ليتيقَّن صوم التاسع والعاشر".

 

فمَن لَم يعرف دخول هلال محرَّم، وأراد الاحتياط للعاشر، بَنى على إكمال ذي الحجة ثلاثين - كما هي القاعدة - ثم صام التاسع والعاشر، وهما في هذا العام يوم غدٍ السبت، ويوم الأحد.

 

فاحتسبوا أيها المؤمنون، وارْغَبوا في صيام عاشوراء؛ رجاء أن تَشملكم رحمة الله ومغفرته، وجَدِّدوا لله تعالى التوبة في كلِّ حين.

 

فمما يتعلَّق بيوم عاشوراء، ما أحدَثه بعض الناس من البدع فيه، فقد سُئِل شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - عمَّا يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحناء، والمصافحة، وطَبْخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك، فهل ورَد في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ صحيح؟ أم لا؟ وإذا لَم يَرد حديث صحيح في شيء من ذلك، فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ وما تَفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن والعطش، وغير ذلك من الندب والنياحة، وشَق الجيوب، هل لذلك أصل؟ أم لا؟ فأجاب - رحمه الله -: "لَم يَرد في شيء من ذلك حديثٌ صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، ولا اسْتَحَبَّ ذلك أحد من أئمَّة المسلمين؛ لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا روَى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا؛ لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة، ولا التابعين؛ لا صحيحًا، ولا ضعيفًا"، ثم ذكَر - رحمه الله - ملخصًا لِما مرَّ بأوَّل هذه الأمة من الفتن والأحداث، ومقتل الحسين - رضي الله عنه - يوم عاشوراء، وماذا فعَلت الطوائف بسبب ذلك؟ فقال: "فصارت طائفة جاهلة ظالِمة؛ إمَّا مُلحدة منافقة، وإمَّا ضالَّة غاوية، تُظهر مُوالاته، وموالاة أهل بيته، تتَّخذ يوم عاشوراء يوم مأْتمٍ وحزنٍ ونِياحة، وتُظهر فيه شعار الجاهلية؛ من لطمِ الخدود، وشَق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية - يشير إلى فِعل الروافض - فكان ما زيَّنه الشيطان لأهل الضلال والغي، من اتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذبٌ كثير، والصدق فيها ليس فيه إلاَّ تجديد الحزن، والتعصُّب، وإثارة الشَّحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسُّل بذلك إلى سبِّ السابقين الأوَّلين، وشرُّ هؤلاء وضررُهم على أهل الإسلام، لا يُحصيه الرجل الفصيح في الكلام، وأما سائر الأمور؛ مثل: اتخاذ طعام خارج عن العادة، أو تجديد لباس، وتوسيع نفقة، أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم، أو فِعل عبادة مختصَّة - كصلاة مختصة به، أو قَصْد الذَّبح، أو ادِّخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب، أو الاكتحال والاختضاب، أو الاغتسال أو التصافح، أو التزاور، أو زيارة المساجد والمشاهد، ونحو ذلك - فهذا من البدع المُنكرة، التي لَم يَسُنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استَحَبَّها أحد من أئمَّة المسلمين"؛ انتهى كلامه.

 

نسأل الله أن يَجعلنا من أهل سُنة نبيِّه الكريم، وأن يُحيينا على الإسلام، ويُميتنا على الإيمان، وأن يوفِّقنا لِما يحبُّ ويرضى، ونسأله أن يُعيننا على ذِكره وشكره، وحُسن عبادته، وأن يتقبَّل منا، ويَجعلنا من المتقين، والحمد لله ربِّ العالمين.

 

________________________________________

الكاتب: الشيخ د. عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي