وماذا سنخفي وراء الحجاب؟
هذا هو موقف الغرب اليوم من قطعة القماش التي تضعها نساؤنا على رؤوسهن، ذلك الغطاء الذي تنزلق عليه كل دعاوى الديمقراطية والعقلانية التي رفعها فلاسفة التنوير، وهو الذي آلينا على أنفسنا ألا نتنازل عن حقنا في التشبث به قيد أنملة.
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة - قضايا إسلامية معاصرة -
الفاتيكان يصرح بأن الحجاب يُظهر قلة احترام للثقافات والحساسيات المحلية، وهولندا تعلن أنها ستمنع الحجاب في الأماكن العامة، أما ألمانيا فتحضّر لمعاقبة المعلمات اللاتي أصررن على تحدي "حظر شهر مايو" الصادر في إحدى ولاياتها، في حين يدق جاك سترو ناقوس الخطر معلناً أن "النقاب يفصل بين الناس"، وأن رؤية الوجه ضرورية للتواصل بين الناس، في الوقت الذي لم يشرح فيه كيف أمكن لزميله في الحكومة ديفيد بلانكيت - وزير الداخلية البريطاني السابق - أن يتواصل معه ومع بقية زملائه وموظفيه بالرغم من كونه ضريراً منذ الولادة!
أمام هذه الأمثلة التي توضح مدى الرعب الذي تسببه فوبيا الحجاب في أوربا، تتساءل الكاتبة البريطانية "فارينا علم" عن ذلك السر الخطير الذي يكتنف قطعة من القماش لا تزيد مساحتها عن عشرين سنتميتراً مربعاً أرادت بعض مسلمات أوربا أن يغطين بها وجوههن.
تقول "علم" في مقالها الافتتاحي لملف "ما وراء الحجاب" الذي نشرته نيوزويك- في عددها الصادر بتاريخ 28 نوفمبر 2006- تقول: "أنا شابة متعلمة وعاملة ومندمجة بشكل جيد في المجتمع البريطاني، ولدت في لندن، وترعرعت في سنغافورة، حيث كانت عائلتي تنبذ كل مظاهر التدين، اخترت الحجاب لأعبر عن إيماني تعبيراً علنياً". ويبدو أن حجابها لم يشكل أي عائق في وجه اندماجها بالمجتمع البريطاني الذي تنتمي إليه، في حين يصر مواطنوها على أن قطعة القماش هذه تحمل في طياتها من الخطر ما ينذر بانهيار محتوم للحضارة الغربية بأسرها.
على الضفة الأخرى تقف "أيان هيرسي علي"، فتاة أفريقية بائسة، لم تجد وسيلة للفرار من جحيم الفقر والقتال الذي خلَّفه الاحتلال الأوربي في القارة السمراء سوى اختلاق قصة تزويجها القسري من ابن عمها في الصومال، وتعرضها لتعذيب مقيت على أيدي الذكور المسلمين المتوحشين.
هذه القصة- التي بلغت حد الملل لكثرة التكرار- جعلت من صاحبتها إحدى أشهر وجوه المجتمع الهولندي، والذي سرعان ما تكرم عليها بشرف الجنسية الهولندية، ثم انتخبها لتصبح عضواً في البرلمان الهولندي، لتصبح بين عشية وضحاها إحدى أكثر الوجوه حضوراً في وسائل الإعلام، ليس لشيء إلا لقدرتها الفائقة على تعريف الهولنديين بوحشية الإسلام واضطهاده للمرأة.
ومع تزايد استغلال قصتها الخيالية الفاضح في وسائل الإعلام والأوساط السياسية الهولندية، توجه صحفي هولندي إلى موطن "أيان" في أفريقيا، وأنتج فلماً وثائقياً يحكي بالصوت والصورة فضيحة هذه المرأة، بناء على شهادات عائلتها وأصدقائها الذين أجمعوا على اختلاقها قصة لا نصيب لها من الصحة، لتقوم الحكومة الهولندية بسحب الجنسية منها وطردها من البلاد، وتحتضنها الولايات المتحدة من جديد في إحدى معاهدها المهتمة بالبحث العلمي النظيف!
المضحك في الأمر أن الشعوب سرعان ما تنسى، فالتعاطف الساذج الذي أبداه المجتمع الهولندي إزاء قصة "أيان" لم يلبث أن صُعِّد مرة أخرى ضد العدو الأوحد: الإسلام، فحادثة قتل المخرج الهولندي فان غوخ في إبان تصويره أحد الأفلام المأخوذة عن "أيان" كافية لتغطية كل جرائمها بحق هذه الشعب، إذ لا ضير في احتمال كذبة كهذه ما دام المتضرر الوحيد هو الإسلام.
المهم في الأمر هو أن "أيان" أطلت علينا من جديد في الملف المذكور من مجلة نيوزويك، لكي تشرح لقارئاتها المسلمات حجم الجريمة التي ينتهكنها في حق المجتمع الأوربي الذي منَّ عليهن بكرم الضيافة، وبدت أكثر تطرفاً من البابا أوريان نفسه، فهي ترى في الحجاب استئثاراً بالمجال العام للمجتمع الغربي الذي يجب علينا أن نفهم ضرورة فصله التام عن الدين، ثم تختم بنصيحة غالية: "أقول لكل امرأة تقرر الخروج من بيتها مرتدية الحجاب مثل الرجل الوطواط، ومن ثم تتذمر من كونها محط سخرية الجميع، أقول لها: إنك تتسببين بذلك، تحملي الحجاب أو اخلعيه".
وبوصفي مسلماً مهتماً بإحلال السلام في المجتمع الأوربي المهدد بذلك الخطر، أتساءل عن السبب المقنع الذي يسمح لأيان وأمثالها من جعل العلمانية موقفاً حيادياً من الدين، فإذا اعتقدنا بأن الدين عقيدة تؤمن بها طائفة من الناس وتتشبث بقيمها ومناسكها، فكيف أمكن لهؤلاء "اللادينيين" الذين انخلعوا من ربقة الدين أن يدَّعوا عدم وقوعهم في مستنقع الطائفية؟!
إن العلمانيَّة دين بحد ذاته، دين له مناسك وقيم، وعقيدة شاملة تنطلق منها تفسيراتهم لكل مظاهر الحياة، وإن استئثار هذا الدين بالسلطة والقانون والعلم والقيم في أي مجتمع، ثم فرضه على رقاب الناس، هو لعمري أشد بشاعة من تطرف المتدينين أنفسهم.
ولفهم المنطق الذي تتعامل فيه العقيدة العلمانية مع الدين- والإسلام على نحو الخصوص- يجدر بنا أن نقارن بين إلقاء "أيان" مسؤولية عدم الاندماج والتطرف وإثارة القلق في نفوس الأوربيين على عاتق بعض النساء الأوربيات اللاتي يغطين شعورهن، مع قيام أحد الأئمة في سيدني الأسترالية بتحميل بعض النساء مسؤولية اندفاع عدد من الشبان لاغتصاب إحداهن اغتصاباً جماعياً، موضحاً ما يتسبب به ذلك المظهر المزري للحم المكشوف على مدار الساعة.
هذه الكلمات التي تفوَّه بها الرجل في أثناء خطبة الجمعة دون أن يخرج بها إلى ما وراء أسوار المسجد، أقامت الدنيا ولم تقعدها في أستراليا، إذ لم تكفِ لإطفاء جحيمها اعتذارات الرجل المتكررة، ولا بيانات تبرؤ المنظمات والجمعيات الإسلامية منه (!)، بل وقف رئيس وزراء أستراليا بكل هيبته ليعلن أنها كلمات لا يمكن التغاضي عما تحمله من إساءة بأي مسوِّغ !
هذا هو موقف الغرب اليوم من قطعة القماش التي تضعها نساؤنا على رؤوسهن، ذلك الغطاء الذي تنزلق عليه كل دعاوى الديمقراطية والعقلانية التي رفعها فلاسفة التنوير، وهو الذي آلينا على أنفسنا ألا نتنازل عن حقنا في التشبث به قيد أنملة.
نحن لسنا دعاة عنف ولا تمييز، وخطابنا الواعي لضرورة تعايش المسلمين مع المجتمع الذي يعيشون فيه لا يستبطن في المقابل تقديم أي تنازلات عن الثوابت الدينية والأخلاقية.
هذه هي رسالتنا بكل إيجاز، العيش بسلام مع كل البشر، والاحترام المتبادل الذي يضمن للجميع حق التمسك بقناعتهم، وفقاً للقاعدة التي نؤمن بها وندعو إليها: "حريتي تقف عند حدود حرية الآخرين".
_______________________________________
الكاتب: أحمد دعدوش