الأمومة
لكم تساءلت عن ماهيَّة أحاسيس الأم، وعن سِرِّ جوهر قلبها الرَّفيع، وعن دفء شمسها التي لاتغيب، وروعة أيكها الزَّاهي الذي لا يذبل، وصِدق مشاعرها التي لا تفتُر ولا تَمَل إذ تُفيضُ الحُبَّ من جنباتها ومن باطنها كعين ماءٍ ثَجَّاجة وكمشكاةِ نورٍ وهَّاجة.
- التصنيفات: الأدب مع الوالدين -
لكم تساءلت عن ماهيَّة أحاسيس الأم، وعن سِرِّ جوهر قلبها الرَّفيع، وعن دفء شمسها التي لاتغيب، وروعة أيكها الزَّاهي الذي لا يذبل، وصِدق مشاعرها التي لا تفتُر ولا تَمَل إذ تُفيضُ الحُبَّ من جنباتها ومن باطنها كعين ماءٍ ثَجَّاجة وكمشكاةِ نورٍ وهَّاجة.
ولكنني لم أحصل على مُبتغاي، لأنَّ المادَّة التي أبحث عنها تَجِلُّ عن الوصف، وتسمو عن الرؤية، فَهيَ بِنظري عُصارة المبادئ والقيم والمثل مجتمعة، وخلاصة رحيق الزُّهور، ورِقَّةُ تغريد العصافير وشدو البلابل.
أراها في البخور الذي يحترق لِيَنشر الطيب، وفي الشمعة التي تذوب لِتبدد الظلام، وفي الجسد الذي يتألَّم لِيَهَبَ السَّعادة للآخرين وفي السَّحابة التي تُمزِّق نفسها وتُبدِّدُ عِهنَها لتروي الأقاحي العطشى. إنها البدر المكتمل الذي تفتَلِذُ الليالي والأيام من كبده القطعة تلو القطعة حتى إذا ما تلاشى عادَ لِيَنسُجَ خيوطَ نوره من جديد لِينير دروب المسافرين في أحضان الدفء والمدلجين في رحاب الفضيلة.
إنَّ الأمومةَ عطاءٌ مع العناء وسخاءٌ مع الابتلاء وتضحية مع الرجاء.
الأمومة فيها بَصمة من النَّبوة تتجسَّد في الرِّضا الداخلي عن الولد العاق، وفيها أثرٌ عظيم من آثار رحمة الخالق عزَّ وجل في حُنُوِّها على وليدها، تلكم الصورة النبيلة التي تمثِّل أنقى صُور التَّضحية وأعلى مراتب الحب.وإذا ما اكْتَنَهْتَ باطنَ الأمومة التي يَلِجُّ بها الشوق إلى الحنان والبنوة لوجدت أن ثغرها يَفترُّ عن الأنوار افترار الرحيق عن الزَّهر الذي كأنما يَنْفَحُ من الجنَّة، وافترار النَّدى عن نسيم الصَّبا الذي يُفعِمُ كل ماحوله عِطراً، ولوجدت أنَّها سَيلٌ عاشقٌ يعتلي صهوة الأرض فَيقَبِّلَ التراب وأكمام الزَّهر وخدود الثَّمر وأغصان الأشجار.
الأمومة ألوانٌ جميلة متعددة تفوق عدد تلك التي في الرياض والخمائل فهي كالشاعر الذي يَتَنقَّل بين أفنان اللغة تنقَّل العصفور مابين الورود فَيَقطِفُ من هنا زهرة ومن هناك يتأمَّل صورة ويستوحي فكرة.فللأمومة في كل يوم طعم جديد ولون جذاب مختلف فَهي ماءُ نهرٍ جارٍ ونبعُ ماء لا يُكرر ولا يسترجع القطرات التي يَهَبُها للأرض العطشى.
الأمومة أصلٌ والأبوة صورة عنها لأن الأمومة مهامسةٌ للمحبوب وملامسَةٌ له إذ تَختَلطُ الأم وتمتَزج مع جنينها مخالطة الشذا للورد فَتدخل في نِقْي عظامه وفي بؤبؤ عينيه وتسكن شغافَ قلبه وتحوكُ أنسجةَ جلده وكريات دمه بقدرة الله ومشيئته. هذا في العالم الجوَّاني، أما إذا ما انفصلت العروة وانسَلَّ السنا من حضن الشمس والضياء من وجه القمر وتفتَّق الزهر عن الغصن وانبجس الماء من الرابية وتفجَّر الينبوع من الخميلة فَإنَّ ربيع الحُبُّ سَيُنشِدُ أنشودة العشق ويملأ أديمَ البشارة بأنواع الزهر أبيضه وأصفره وأحمره.فالأبوَّة أشبه بمن يقرأ مقالةً عن الرَّبيع بينما الأمومة هي الربيع ذاته والأبوة أشبه بمن يقرأ قصيدة عاشقٍ مُدنَف ولهان ولكن الأمومة هي نقاط القصيدة وحروفها ورويها وقافيتها وهي أيضاً بحرها وشاطئها.
الأب يَفرحُ بِقدوم المولود فَرَح المزارع بموسم الحصاد وفَرَح التَّاجِر بِربح الصفقة ولكنَّ الأم تَفرحُ بمولودها فَرَح الحبيب بِلقاء محبوبه وفَرَح الأرض بعناقِ الغيث وتسعَد سعادةَ البلبل الذي فُتِح له باب القفص وراح يُرفرف فوق أرجاء البساتين والروابي. إنَّ شميم مولودها يفوق أطيب العبير، إنَّها رَجْعُ عَرف الجَنَّة ونقاءُ ماء الكوثر.
الأمومةُ عِقدُ الفرح والأمن الذي ينتظم قلوب الأبناء والمدرسة الأولى التي ينهلون من معينها معاني العطاء والحب والمودة والتضحية والإيثار فهي معلم لا يَكلُِّ ولا يمَلُّ ففي النَّهار تروي الظمأى وترضع الجوعى وتُصلح المتخاصمين وتجبرَ خاطر المُحزنين ولا يشغلها ذلك عن طاعة ربِّها وتسبيحه ولا تنسى مع ذلك أن تهذِب الزهور والنباتات البيتية التي في المنزل.وإذا ما جنَّ الليل وحَطَّ الكرى على الأهداب البريئة بدأ درسٌ جديد يتمثل بتعديل الرؤوس التي غادرت الوسائد وتغطيةِ الجسوم التي هربت من ثقل الأغطية وإرواء طمأ الأكباد العطشى التي غلبها النوم عن شرب الماء.
الأمومة هي الطريق إلى لجنَّة والقيامُ بواجب الأم وبِرِّها على الوجه الأكمل فضيلةٌ عظيمة لا يدركها إلا ذوو القلوب العامرة بالإيمان والعقول التي تشَّربت ماء الحنان والأنفس التي انسكبت في أرواحها كؤوس الأفهام والأمان. البِرُّ بالأم عبادةٌ وزلفى إلى الخالق ومرجٌ أخضر يبدأ من ابتسامة الأم وينتهي عند سدرة المنتهى.
___________________________________________________
الكاتب: بدر الحسين