فأنا اللَبِنة

إذا أنا أمامَ صرْحٍ عظيم، ما أنْ تقترب منه حتَّى ترى الإبداعَ يشِعُّ في كلِّ ركن منه، وإذا دخلتَه، رأيتَ عجبًا يفوق الوصف؛ صرْحٌ ترى فيه عبقرية الإنسان، وتنوُّعَ فِكرِه، وتعدُّدَ مواهبه

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله -

صخبٌ وجَعجعةٌ مِن هنا ومن هناك، وأفرادٌ يَصرخون: اهدموه، اهدموه.

 

إذا أنا أمامَ صرْحٍ عظيم، ما أنْ تقترب منه حتَّى ترى الإبداعَ يشِعُّ في كلِّ ركن منه، وإذا دخلتَه، رأيتَ عجبًا يفوق الوصف؛ صرْحٌ ترى فيه عبقرية الإنسان، وتنوُّعَ فِكرِه، وتعدُّدَ مواهبه، وألوان عيونه، وبُعدَ نظره، ونفوذَ بصره، تَرى فيه أصالةَ الماضي تمدُّ يَدَها؛ لتُمسكَ يدَ الحاضر فتكوِّن المستقبلَ المشْرِق.

 

صرْحٌ خَطَّ رسومَه الهندسيَّة، وأَرسى قواعدَه القويَّة أفذاذٌ، شهد لهم القاصي والدَّاني بالعبقرية، فَهُم في الإبداع هُم.

 

رِجالٌ مَلؤوا الدُّنيا عِلمًا، حتَّى غَدَوْا أعلامَه، فهُم مِلْءُ السَّمْع والبصر - كانوا وما زالوا - اصطفتهم الأمَّة؛ ليكونوا أئمَّتَها، وهيهاتَ أن تجتمع الأمَّة على ضلالة!

 

حافظتِ الأُمَّةُ على مدى عقودٍ ممتدة على هذا الصرْح، الذي ما فَتِئ يتطوَّر على أيدي المبدعين مِن أبنائها، حتَّى غدَا تُحفةً فريدة، تميَّزت به عن سائر الأُمم.

 

وما زال هذا الصَّرْح قِبلةَ المبدعين، يُبحرون في جماله الأخَّاذ بقوَّةِ أُسسِه، وتنوُّع لَبِناته، وروائعِ رُسوماته، وعجائبِ زِينته، وبهاءِ حِلْيَته، يَطوفون في أرجائه، يَنهلون مِن مَعينه الفِكريِّ الإبداعيِّ الثرِّ، ويَرْتوُون مِن نَبعِه الأصيل العَذْب، ويَعودون إلى أُمَّتهم بعَسلٍ مُصفًّى من الفِكر والفِقه؛ هو خُلاصةُ إبداعٍ امتدَّ عبرَ قرونٍ واستمر، وما زال.

 

ودُعاةُ الهَدْم أمامَ هذا الصرْح المَشيدِ لا تكاد تَراهم مِن ضآلة حَجمِهم، فهم كالذَّرة؛ بل كالهباءة.

 

يدَّعون أنَّه يُبعدهم عن القرآن والسُّنة وسلف الأمَّة؟! وهل أُسِّسَ إلاَّ خدمةً للقرآن والسُّنة؟ ومَن أَسَّسه سوى سلفِ الأمَّة؟!

 

هل غَدَا أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل خَلَفَ هذه الأمَّة، وغَدَا فلان وفلان من أبناء هذا القرن هُم السلفَ؟!

 

لماذا يُريدون سَلْخَ هذه الأمَّة من أهمِّ معالِم تميُّزها؟!

 

وهل سيَتركونها سوى قِطعٍ متناثرة، تكون نهبَ الأدعياء؟!

 

لماذا لا يكونون لَبِنةً في هذا البِناء المتكامِل العظيم، فيَفيدون منه، ويَزيدون فيه، فيزداد بهم رَوعةً، وذلك أُسوَّةً بِمَن يَرومون الدِّفاعَ عن سُّنَّته، والذَّودَ عن حِياضه - صلَّى الله عليه وسلَّم؟!

 

ألَمْ يقلْ صاحبُ أعظمِ رسالة عَرَفتْها البشرية؛ إذ قد هَيمنتْ على كلِّ الرِّسالات السابقة، وجاءت بمنهجٍ ربانيٍّ تامٍّ وكامل، صالحٍ لكلِّ زمانٍ ومكان: «إنَّ مَثَلي ومَثَل الأنْبياءِ مِن قَبْلي كَمَثل رَجلٍ بَنَى بيْتًا فَأحْسَنه، وأجْمَله إلاَّ مَوْضعَ لَبِنةٍ مِن زاويةٍ، فجعل الناسُ يَطوفون به ويَعْجبون له، ويقولون: هلاَّ وُضِعتْ هذه اللَّبِنةُ، قال: فأنا اللَّبِنةُ، وأنا خاتمُ النبيِّين» (متفق عليه).

 

هذا هو منهجُ النبوَّة، منهجُ البِناء لا الهَدْم، منهج التعاون لا التنافُر، منهج التكامُل لا الإقصاء، منهج الوَحْدة على هُدَى الله ورسوله.