العقل ودوره في نبذ الخرافات

الله هو الخالق الحقيقي لكل الأشياء، من بشر وحجر، وحيوان وجن، وكل شيء؛ لكن الله - عز وجل - لمَّا خَلَق الخلْق لم يجعلهم متساوين؛ بل فضَّل بعضًا على بعض، وبموجب هذا التفضيل شرع أمورًا، ولما كرَّم الله - عز وجل - بني آدم على غيرهم من المخلوقات، افترض عليهم أشياءَ لم يفرضها على غيرهم.

  • التصنيفات: الإسلام والعلم -

الحمد لله الذي أعزَّنا بالإسلام، وأكرَمَنا بالإيمان، ومنَّ علينا ورحمنا بأنْ جعلنا من أمَّة خير الأنام، سيدنا محمد - عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام.

 

أما بعد:

فقد قال الله - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70].

 

إنَّ الله - عز وجل - هو الخالق الحقيقي لكل الأشياء، من بشر وحجر، وحيوان وجن، وكل شيء؛ لكن الله - عز وجل - لمَّا خَلَق الخلْق لم يجعلهم متساوين؛ بل فضَّل بعضًا على بعض، وبموجب هذا التفضيل شرع أمورًا، ولما كرَّم الله - عز وجل - بني آدم على غيرهم من المخلوقات، افترض عليهم أشياءَ لم يفرضها على غيرهم؛ لقاءَ ذلك التكريم؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}  [إبراهيم: 34].

 

وإن حاولتم أن تعدُّوا إكرامات الله لخلقه، لما استطعتم ذلك، وإن أعظم نعمةٍ أنعمها الله - عز وجل - على بني آدم: أنْ أرسل إليهم الأنبياء - عليهم صلوات الله وسلاماته - لكي يعلِّموهم ويرشدوهم، ويهذبوهم، ويرغبوهم ويرهبوهم، أرسل الله الرسل للبشر؛ لكي يُقيم الحُجة على البشر، فلا حجة لك أمام الله إن قلتَ: لا أعلم، ولا حجة لك أمام الله إن قلت: لم يصلْني الحُكمُ، فالرسل قد جاؤوا وبلَّغوا، وخلفوا من بعدهم علماء ورِثُوا العلم وورَّثوه لمن بعدهم، وسيستمر نور العلم ما شاء الله، فلا حجة لك أن تقول: لا أعلم، أبدًا، كرَّمك الله فأرسل الرسل إليك ليعلِّموك، ثم وكل الأمر إليك؛ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

 

بيَّن لك أن في هذه الحياة طريقين، طريقًا للخير، وطريقًا للشر، وبيَّن لك أنه إن سلكتَ الأول وصلتَ به إلى الجنة، وإن سلكتَ الآخر وصلتَ في نهايته إلى النار، وإن العقل - الذي هو أحد النِّعم التي أكرم الله بها البشر - هو مناط التكليف، فمتى وُجد العقل وُجد التكليف، ومتى فُقد العقل امتنع التكليف، فالله - عز وجل - بمقتضى رحمته لا يكلِّف غير العقلاء، نَعَم، والقاعدة الشرعية الفقهية تقول: إذا أخذ ما وهب، أسقط ما وجب، إذا أخذ العقل أسقط التكليف، إذا أخذ المال أسقط الزكاة، إذا أخذ الصحة أسقط الحج، وهكذا كل شيء يأخذه الله منك، فإنه يُسقط عنك شيئًا في مقابله، ومن رحمة الله أنه لا يكلف غير العقلاء.

 

إذًا؛ خلقك، فوهبك عقلاً، فأرسل لك الرسل، ثم أرسلك في هذه الحياة، ثم أخبرك بأنه سيحاسبك على أعمالك، ولو أن الله - عز وجل - لم يخلق لك عقلاً، أو لم يرسل لك رسلاً، لما حاسبك؛ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

 

هذا العقل الذي وهبه الله لي ولك ولجميع العقلاء، يجب أن تُعمِله، نعم، لقد خلق الله لك العقل؛ لكي تعمله، وتستدل به على الله؛ ليقوى إيمانُك، ويزدادَ يقينُك، ولقد حثَّ الله - عز وجل - في كثير من آياته على النظر والتفكر؛ قال - تعالى -: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 17 - 22].

 

{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}:

هلاَّ نظرتَ يومًا إلى الإبل وهي في الصحراء نظرةَ تفكُّر وتدبر، هذا الحيوان الكبير المتوحش، يستطيع طفل صغير أن يأخذ بزمامه ليقوده كيفما شاء، هلاَّ قادك يومًا تفكيرُك، ففكرتَ كيف يحصل ذلك؟ ليقودك ذلك التفكير إلى الإقرار بقدرة الله الذي سخَّر لنا هذه الحيوانات، ولو أنه لم يفعل لما استطعنا الوصول إليها، ولا الاستفادة منها؛ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71، 72].

 

كان بعض العلماء من أهل الحضر يخرج إلى البادية؛ لينظر إلى الإبل، فيقولون: لِمَ يا فلان؟ فيقول: ألم يقل الله - عز وجل -: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}؟ فأنا أخرج؛ لأنظر وأمتثل أمر الله.

 

{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ}:

هلاَّ رفعتَ طرْفك إلى السماء يومًا، ونظرت نظرة تدبُّر وتعقل وتفكر؛ لترى كم هي عظيمة! وكم هي متَّسعة! وكم هي بعيدة! والعلم مع سرعة تطوره وتطور أدواته، وصل إلى القمر كأبعد نقطة استطاع الوصول إليها، أما السماء، فبعيدة المنال، هلاَّ نظرت إليها، ففكرت كيف يمكن لسماء بهذه العظمة والاتساع أن تقوم بغير أعمدة؟! كما وصفها الله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2، لقمان: 10].

 

وأنت ومن معك على وجه الأرض، لو اجتمعتم لكي ترفعوا سقفًا - ولو صغيرًا - بدون أعمدة، أو جدران، أو أشياء مساعدة، لما استطعتم، فكيف تقف هذه السماء؟!

 

قال بعض العلماء: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}؛ أي: هي أمامكم وبغير أعمدة، وأنتم ترون ذلك، وقال بعضهم: بل هي بأعمدة، ولكنكم لا ترونها، وكلا المعنيين يشير إلى عظمة الله وإلى تحدِّيه للبشر؛ {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65].

 

{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}:

هلاَّ نظرت يومًا إلى تلك الجبال الشماء، ذوات الصخور السوداء الصماء، وهي تجثو على وجه الأرض، ففكرت: لِمَ وُجدتْ؟ وما هي الفائدة منها؟ هل هي من غير فائدة؟ حاشا لله أن يخلق شيئًا بدون فائدة، ولعل مَن سبقك من الأجيال لم يكونوا يفهمون معنى وجود الجبال فهمًا كاملاً؛ لأنهم لا يملكون أدوات، أما اليوم فقد أثبت العلم أن كل جبل على وجه الأرض له مثلاه في بطنها؛ لكي يثبِّتها ويمنعها من التحرك والاضطراب؛ تمامًا كما قال الله – تعالى -: {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]؛ أي: لئلا تميد بكم، ولو أن الله لم يخلقها، لما استطاع البشر العيشَ على سطح الأرض من كثرة الزلازل، هل ذكَّرك هذا بعظمة الله وقدرته؟!

 

{وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}: لو أنَّ الله - عز وجل - لم يخلقها كذلك، كيف ستعيش على ظهرها، وتتعامل معها؟!

 

هلاَّ نظرت بعقلك الذي خصك الله - عز وجل - به من بين سائر المخلوقات، ذلك النظر الصحيح الذي تصل في نهايته إلى الإقرار بعظمة الله، ورحمة الله، وأنه على كل شيء قدير.

 

إن لم تكن قد نظرت، فاعلم بأنك لم تستعمل عقلك بعدُ فيما يهمك، فانظر وحاول أن تُعمل عقلك، يجب أن يكون نظرك إلى كل ما حولك نظرًا بعقلك، لا بعيني رأسك فقط، فالطفل ينظر لكنه لا يفهم، والمجنون ينظر لكنه لا يعقل، ومكفوف البصر يعقل دون أن ينظر بعينيه، ليس المهم أن تملك عينين في رأسك، لكن المهم أن تملك عينًا في قلبك وعقلك، تنظر بها إلى الأمور نظرة تدبر وتفكر وتأمل؛ لكي يزداد إيمانك كلما وقعتْ عينُك على شيء، ولا تنسَ أبدًا أنَّ الله - عز وجل - خلق لك العقل؛ لكي تعقل به الأحكام، فيدينك أمام نفسك؛ ولكي يرشدك ذلك العقلُ إلى ما فيه صلاحك ونجاحك في الدنيا والآخرة.

 

العقل الصحيح يوصل صاحبَه إلى الإيمان الصحيح، فالإيمانُ الذي يُبنى على العقل والنظر والتفكير، يكون أقوى من الإيمان الذي يبنى على التقليد؛ «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (رواه البخاري).

 

يولد المولود صفحة بيضاء، ويأتي دور الأبوين في توجيه هذا الولد، فإما أن يدفعاه باتِّجاه الدين الصحيح، أو يحيدا به عنه، فإن قلنا بأنهما قاداه ووجَّهاه إلى الخير، فغدا مؤمنًا، ثم مضى في حياته دون نظر، فإنه في خطر، ويوشك أن يقع أمام أصغر عاصفة، أما الإيمان الذي يتأتى من النظر والتفكير، فإنه أقوى، كثيرٌ من العلماء نطقوا الشهادة وهم في مخابرهم يُجرون أبحاثهم، رأوا الله في أبحاثهم، فنطقتْ ألسنتُهم بالشهادة، لعلكم تعرفون قصة ذلك العالم الغربي الذي جلس على مقعد التدريس في كلية الطب في إحدى الجامعات؛ ليقرِّر حقيقة، ظنَّ أنه لم يصل إليها أحدٌ قبله، جلس ليقول بأن الإنسان يبدأ تكوينه من تلك النطفة التي تمكث أربعين يومًا، ثم تتحول إلى نقطة دم، ثم إلى قطعة لحم، ثم تدبُّ الحياة في ذلك الجسد بعد أن يمضي عليه مائة وعشرون يومًا.

 

وما أن أنهى كلامه، حتى قام أحد الطلبة المسلمين رافعًا يده؛ ليقول: ما ذكرتَه يا سيدي، قد وصل إليه الإسلام قبل قرون من الزمان، وقرأ عليه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم يُجمَعُ خَلْقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه المَلَك فينفخ فيه الروح...» (الحديث).

 

لم يملك المحاضِر نفسَه بعد أن تأكَّد من صحة الكلام إلا أن نطق بالشهادة، إيمان هذا الرجل ربما يكون أقوى من إيمان كثير من المسلمين الذي لم يُعمِلوا عقولهم، وآمنوا إيمانًا تقليديًّا كآبائهم وأمهاتهم.

 

كثير من الناس - ولست بمبالغ - لا يستعملون عقولهم فيما ينفعهم؛ بل يستعملون عقولهم فيما يضرهم، هي إن حققت لهم النفع في الدنيا، فلن تنفعهم هناك؟ لماذا لم يخلق الله - عز وجل - كل اثنين بعقل؟ لكي يحاسب كلاًّ بمفرده، خلقك فوهبك عقلاً، وأرسل لك نبيًّا، ثم كلفك؛ لينظر أعمالك، مع أنه يعلمها قبل أن يخلقك؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

 

إنَّ الذي لا يستعمل عقله - واعذروني على هذا التعبير - إنما يشبِّه نفسَه بالحيوانات، فما الفائدة من تملُّكك شيئًا لا تستعمله؟! إذا لم تُعمل عقلك، فقد شبهتَ نفسك بتلك الحيوانات العجماوات.

 

بعد هذه المقدمة الطويلة، لا بد أن أقول بأن هذا الدين الذي مجَّد العقل، وطالب بإعماله، لم يترك الأمر هكذا؛ بل جعل له إطارًا وحدًّا، يجب ألاَّ يتجاوزه الناظرُ، وإلا هلك.

 

هذا الدين حارب الخرافات محاربةً شديدة، ومن المؤسف أن هذه الخرافاتِ ما زالت موجودة، برغم تأكيد الإسلام على فسادها، وشهر صفر الذي نحن فيه، ارتبطت به خرافات وأشياء لا ترقى إلى مستوى الصحة؛ لكنها ما زالت موجودة، ولها أتباعها ومروِّجوها.

 

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما - واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة»، وفي رواية: «ولا طيرة»، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب، فيجربها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فمَن أعدى الأول»؟!.

 

انتهى الحديث، ولا يمكننا شرحه فيما بقي من الوقت؛ لكننا سنبدأ وسنقف عند أحد مفاصله؛ لنكمل في لقاء قادم - إن شاء الله.

 

(لا عدوى): العدوى المقصودة في الحديث هي انتقال المرض بنفسه من مريض إلى صحيح، وهذا رأي فاسد يرفضه الإسلام، وأكَّد أنه لا عدوى، والأعرابي سأل سؤالاً مهمًّا، فإذا كان الأمر أن لا عدوى، ونحن مصدِّقون كل ما تقول، فلماذا إذا دخل الجمل الأجرب بين الجمال الصحيحة، فإنها تصاب بالجرب؟ ولقد كان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوابًا مميزًا:«فمن أعدى الأول»؟، إذا قلنا بأن الجمل الأجرب سبب المرض لبقية الجمال، فمن أصاب هذا الجمل بالمرض؟ لا بد أنه جمل سبقه، لو بقينا نرجع إلى الوراء، لوصلنا إلى أول جمل قد أصيب، من أصابه؟ كيف أصيب؟ إن الذي أصابه هو الله، إذًا لا علاقة للجمل بالمرض.

 

وليس معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى»، أن الأمراض لا تنتقل بين البشر، لا، فمن قديم الزمان، ومن يوم كان العرب أساتذة الطب، وقبل أن يكونوا تلامذة لغيرهم، كانت هناك في المشافي غرفٌ لمرضى لا يجاورهم فيها أحد (غرف الحجر الصحي).

 

إذًا؛ ما هو الحل لهذا الإشكال؟ إذا كانت الأمراض تنتقل، كيف يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى»؟ وكيف يمكن الجمع بين هذا الحديث، وبين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وفِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد»؟

 

الجواب ببساطة: أن المقصود بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى»: أنْ لا عدوى بنفسها، الأمراض لا تعدي بنفسها؛ ولكن بإذن ربها، إذًا الفاسد أن تعتقد أن الأشياء تعمل بمفردها.

 

سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أراد أن يدخل الشام، وكان بصحبته أبو عبيدة بن الجراح، وقبل أن يدخلها سمع أن الطاعون قد فشا فيها - الطاعون مرض خطير، سريع الانتشار، ويفتك بالكثيرين - فامتنع عن الدخول، بعد أن تذكَّر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطاعون، الذي يقول فيه: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها» (صحيح البخاري).

 

فقال له أبو عبيدة - رضي الله عنه -: "أفرارًا من قضاء الله يا أمير المؤمنين؟! فقال له سيدنا عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كانت لك إبل، فهبطتَ واديًا له عدْوَتان، إحداهما خَصْبة، والأخرى جَدْبة، أليس إن رعيتَ الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدبة رعيتها بقدر الله؟!"؛ صحيح مسلم.

 

أنتم تسمعون كلَّ خطبة قولَ الخطيب وهو يقول: واعلموا أنه لا يضر وينفع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، ويفرق ويجمع، إلا اللهُ، وإذا بكم تقولون: لا إله إلا الله، فهل فكرتم في معناها؟ هل قرأتم قول الله – تعالى -: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}  [آل عمران: 26، 27].

 

هل فهمت معنى هذا؟

لا يستطيع أحدٌ على وجه الأرض - بالغٌ ما بلغتْ قوَّتُه - أن يفعل شيئًا، إذا لم يشأ الله ذلك، يجب أن تؤمن إيمانًا كاملاً أن الفاعل في الحقيقة هو الله، وهذه الأشياء التي نراها ونسميها مسببات، ما هي إلا أشياء ظاهرة، تختفي وراءها مشيئة الله، وإلا هات علِّل لي: لِمَ لم تعمل سكين إبراهيم في رقبة ولده، مع أن السكين تذبح؟! ولماذا لم تحرق النار سيدَنا إبراهيم عندما ألقي فيها؟!

 

أنا سأقول لك: لأن الله سحب منها المدد، فالأشياء لا تعمل بنفسها، لا بد لها من مدد؛ كالأجهزة التي تعمل بالكهرباء، مددُها الكهرباء، ولا يمكن أن تعمل بدونها، ليعلم الجميع أن الفاعل في الحقيقة هو الله وحده، فهو الذي يشفي، وهو الذي يعطي، وهو الذي يسقي، وكل ما سواه صور، والحقيقة هي الله.

_________________________________________________

الشيخ: الشيخ محمد نجيب بنان