النفاق وأضراره

محمود الدوسري

الأول: نِفاقٌ أكبر، يُخرِج من المِلَّة، وهو النفاق الاعتقادي، وأمَّا النِّفاق الأصغر، وهو النفاق العملي، يُنقِصُ الإيمانَ ويُضعِفُه، ويكون صاحِبُه على خطرٍ من عذاب الله تعالى

  • التصنيفات: الشرك وأنواعه -

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

النِّفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، قال ابن جريج رحمه الله: (المُنافق يُخالِف قولُه فِعلَه، وسِرُّه علانيتَه، ومدخلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيبَه). وقال ابن القيم رحمه الله: (إِنَّ بَلِيَّةَ الْإِسْلَامِ بِالمُنافِقِين شَدِيدَةٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونُ إِلَيْهِ، وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ فِي الْحَقِيقَةِ).

 

والنفاق نوعان:

الأول: نِفاقٌ أكبر، يُخرِج من المِلَّة، وهو النفاق الاعتقادي؛ وهو أنْ يُظهر صاحبُه الإيمانَ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ويُبطن ما يُناقِض ذلك كلَّه أو بعضَه، وهذا هو النِّفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآنُ بذم أهلِه وتكفيرِهم، وأخبرَ أنهم في الدرك الأسفل من النار.

 

والنوع الآخَر: نِفاقٌ أصغر، لا يُخرج من الملة، وهو النِّفاق العملي؛ وهو أن يُظهِرَ صاحبُه علانيةً صالحةً، ويُبطن ما يُخالف ذلك، وأصولُ هذا النِّفاقِ ترجع إلى حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»  (متفق عليه). ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (متفق عليه).

 

ومن هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في شأن المنافقين أنه كان يكشف صِفاتِهم وأعمالَهم أكثر من التركيز على معرفة أعيانهم وأسمائهم؛ بل هذا هو هدي القرآن الكريم؛ كما في قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}  [محمد: 30]. أي: وَلَوْ نَشَاءُ يَا مُحَمَّدُ! لَأَرَيْنَاكَ أَشْخَاصَهُمْ، فَعَرَفْتَهُمْ عِيَانًا، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ؛ سِتْرًا مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَحَمْلًا لِلْأُمُورِ عَلَى ظَاهِرِ السَّلَامَةِ، وَرَدًّا للسَّرَائِرِ إِلَى عَالِمِهَا.

 

 {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أَيْ: فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامِهِمُ الدَّالِّ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ، فلا بد أنْ يَظْهَرَ ما في قلوبهم، ويتبيَّن بفلتات ألسنتهم، فإنَّ الألسنَ مَغارِفُ القلوب، يَظهر منها ما في القلوب من الخير والشر.

 

عباد الله.. ومن أبرز صفات المنافقين والمنافقات التي بيَّنها الله تعالى في كتابه الكريم، وبيَّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنهم يدَّعون الإيمانَ وهم كاذبون، وهم مُخادعون بطبعهم اللئيم، يخونون اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً، يدَّعون الإصلاحَ وهم مفسدون، ودائماً ما يرمون المؤمنين بالسَّفَه، ويستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم، يشترون الضَّلالة بالهدى، قولُهم حَسَن وهم ألَدُّ الخِصام، يُشْهِدون اللهَ على ما في قلوبهم وهم كاذبون، وهم ماهرون في الجدال بالباطل.

 

ومن صفاتهم:

أنهم إذا اختفوا عن الأنظار اجتهدوا في الباطل، وإذا قيل لهم: اتقوا اللهَ؛ أخذتهم العِزَّةُ بالإثم، يُوالون الكفارَ وينصرونهم ويخدمونهم؛ بل يعتزُّون بالكفار ويستنصرون بهم. وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى، يُراءون الناسَ بأعمالهم. ولا يذكرون الله إلاَّ قليلاً.

 

ومن أقبح صفاتهم:

كفرُهم بالله تعالى، ورسولِه صلى الله عليه وسلم، يقبضون أيدِيَهم فلا يُنفقون في طرق الخير، ولا يُنفقون إلاَّ وهم كارهون، يَلمِزُون المُطَّوِّعين من المؤمنين في الصدقات، يأمرون بالمُنكر وينهون عن المعروف، نَسُوا اللهَ فنَسِيَهم، يسخرون من القرآن العظيم، ولكلِّ واحدٍ منهم وجهان: وجهٌ للمؤمنين، ووجهٌ لأعداء الدِّين، فهم مُترَدِّدُون بين الكفار والمؤمنين.

 

ومن صفاتهم القبيحة:

أنهم يتأخَّرون عن صلاة الجماعة، ويُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتها، وينقرونها نقراً لا يذكرون اللهَ فيها إلاَّ قليلاً، وأثقل الصلوات عليهم العشاء والفجر، قلوبهم قاسية، وعقولهم قاصرة، لم يرضوا بالإسلام دِيناً، يأخذون من الدِّين ما وافق رغباتهم، يقولون ما لا يفعلون، يُظهِرون الشجاعةَ في السِّلْم وهم جُبَناء في الحرب، يُخذِّلون المؤمنين عن الجهاد، ويقصدون بجهادهم الدنيا، وإذا يئسوا من ذلك تثاقلوا، يَيْأَسون من رحمة الله وينقطع أملُهم في نَصْرِه.

 

ولا يتحاكمون إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ بل يجدون الحرجَ والضِّيقَ في أنفسهم من حُكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويفجرون في المخاصمة، يُحاربون الإسلامَ وأهلَه عن طريق الخفية والتسمِّي به، لا يعتنون إلاَّ بمصالحهم الذاتية، يُبغضون أنصار الدِّين، يطعنون في العلماء المُخلِصِين بالكذب وتغيير الحقائق، يُثِيرون الشُّبهات حول الإسلام؛ ليصدوا الناسَ عن الدخول فيه.

 

ومن أبرز صفاتهم:

الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، ونقض العهود من أجل الدنيا، وعندما يُسِرُّون سرائرَ النِّفاق يُظهِرُها اللهُ تعالى على وجوههم وألسنتهم، تسبق يمينُ أحدِهم كلامَه؛ لِعِلْمِه أنَّ قلوب المؤمنين لا تطمئن إليه، قلوبُهم عن الخير لاهية وأجسادُهم إليه ساعية، هُمْ أخبثُ الناس قلوباً وأحسنُهم أجساماً، لا يعقلون ما ينفعهم، ولا يسمعون ما يُفيدهم، ولا ينظرون إلى آيات الله التي تدل على قدرته.

 

عباد الله.. من فوائد ذِكْرِ صفات المنافقين: تحذير المؤمنين من هذه الصفات، حتى يحذروها ويبتعدوا عنها، وفي الوقت ذاته حضٌّ للمؤمنين على الصدق مع الله، وتصفية سرائرهم، وإسلام وجوههم لله تعالى.

 

وقد كان النبيُّ صلى يقرأ في صلاة الجمعة "سورةَ الجمعة"، و"سورةَ المنافقون"؛ توبيخاً للمنافقين، وحثًّا لهم على التوبة؛ قال النووي رحمه الله: (قِرَاءَةُ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ لِتَوْبِيخِ حَاضِرِيهَا مِنْهُمْ، وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي مَجْلِسٍ أَكْثَرَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ فِيهَا).

 

عباد الله.. النِّفاق الأكبر له أثارٌ خطيرة، وأضرارٌ مُهلِكة، منها: أنه يوجب لصاحبه النار، ويُحرِّم عليهم الجنة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]؛ ويوجب لعنةَ الله تعالى، والخلودَ في نار جهم؛ كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 68].

 

ومن أضرار النِّفاق الأكبر:

أنه يُحبِطُ جميعَ الأعمال، قال الله تعالى: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 53، 54]، ويَحرِمُ العبدَ دُعاءَ المؤمنين، والصلاةَ عليه عند موته، قال الله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].

 

والنفاق الأكبر يُسَبِّبُ نِسيانَ اللهِ لصاحبه؛ قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].

 

ويُطفِئُ اللهُ نورَ أصحابِه يوم القيامة: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13].

 

والنِّفاق الأكبر يُوجِب عذابَ الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].

 

وأمَّا النِّفاق الأصغر، وهو النفاق العملي، يُنقِصُ الإيمانَ ويُضعِفُه، ويكون صاحِبُه على خطرٍ من عذاب الله تعالى، فقد يجُرُّه هذا النفاق إلى النفاق الأكبر، ويكون فيه هلاكه، والعياذ بالله.

 

اللَّهُمَّ إِنِّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلاَقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ، ونعوذ بك من غَضَبِك، ونعوذ بك من النِّفاق كُلِّه صغيرِه وكبيرِه، ونسألك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة.