إشكالية الثابت والمتغير في الفكر الإسلامي

إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير من الخصائص والإشكاليات التي يمكن أن تبين معالم المنظور الإسلامي من خلال البحث فيها..

  • التصنيفات: الفقه وأصوله -

إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير من الخصائص والإشكاليات التي يمكن أن تبين معالم المنظور الإسلامي من خلال البحث فيها، فمسألة الفصل بين الثابت والمتغير من القواعد والأسس الدينية الإسلامية التي تعطي للإسلام حيويةً وفاعلية كبيرة في مجال الاستجابة لمتطلبات الواقع الإنساني المتغير، والإسلام يفتح المجال للاجتهاد في الفكر الديني التطبيقي، والاستجابة لكثير من متطلبات الواقع دون المساس بالثابت والمطلق.

 

جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها تُرجِّح خير الخيرين، وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما[1]، وقد راعت الشريعة الضرورات والحاجات والأعذار التي تنزل بالناس، فقدَّرتْها حق قدرها، وشرعت لها أحكامًا استثنائية تناسبها وفقًا لاتجاهها العام في التيسير على الخلق، ورفع الآصار والأغلال التي كانت عليهم في بعض الشرائع السابقة، ورعاية الإسلام للأوضاع الاستثنائية التي تحِلُّ بالمكلفين أكسبتْهم القدرة على السير مع التكاليف في جميع الحالات، وهي عامل من عوامل سَعَتِها ومرونتها[2]، الإسلام كدين إلهي هو مثال، وإن إقامة البشر وتطبيقاتهم للدين واقعٌ، وستظل دائمًا هناك مسافة بين الواقع والمثال، فتطبيق الشريعة هو فعل وممارسة بشرية، والممارسة لا يمكن أن تكون الشريعة ذاتها؛ لأنها غير معصومة فتبقى في محل النقد المستمر[3].

 

تُقسم الأحكام الشرعية من حيث الثبوت والتغير إلى قسمين؛ هما: الأحكام الثابتة، والأحكام المتغيرة، والأحكام الثابتة يقصد بها تلك الأحكام التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ بمعنى أنها لا تخضع لتغيرات الواقع، ومثل ذلك الأحكام القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها، ولا تحتمل التأويل، أما الأحكام المتغيرة، فهي الأحكام المبنية على الأعراف، أو العلل المتبدلة، أو المصالح المتغيرة، أو قاعدة الضرورات والحاجات (قاعدة الضرورة وكذلك قاعدة الحاجة هما المدخلان الوحيدان لتغير الأحكام الثابتة، فإذا زالت الضرورة أو الحاجة، زال التغير عن الحكم الثابت)[4] ، ونحو ذلك، ويؤكد ابن القيم هذا التقسيم في كتابه "إغاثة اللهفان"؛ حيث يقول: "الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع يُنوِّع فيها بحسب المصلحة"، ثم يقول رحمه الله في بيان أن هذه المعاني قد تخفى على كثير من الناس: "وهذا باب واسع اشتُبه فيه على كثير من الناس، الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودًا وعدمًا"[5].

 

إن كثيرًا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ لتغير عُرْفِ أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان؛ بحيث لو بقيَ الحكم على ما كان عليه أولًا للزِم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتمِّ نظام وأحسن إحكام[6]، فالتطبيق العملي قد تتولد منه مشاكلُ تتطلب حلولًا في ظل الشريعة، وهذه الحلول تقتضي الخروج عن الدائرة النظرية إلى ما هو أوسع وأرحب منها، طبقًا لروح الشريعة وقواعدها الكلية، وهذا هو ما تكفَّلت به السياسة الشرعية.

 

إن العمل بالشرع ليس مطابقة، بل تقريبًا قدر الإمكان؛ من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، وقد أكدت الشريعة وجوب العدل بين الزوجات، وجاء فيه الوعيد الشديد، وفي نفس الوقت يُنبِّه القرآن أن العدل في كل شيء بين الزوجات متعذرٌ وخارج عن الاستطاعة، فالشارع نبَّه على عدل مستطاع، وعدل غير مستطاع، فأمر بالمستطاع، وعفا عن غير المستطاع [7]، وكذلك يجمع الله في مواضعَ بين الأمر بالعدل، والتنبيه على العفو عند العجز وعدم الوسع؛ كقول الله عز وجل: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]، ونبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم على أن العمل بالشرع ليس مطابقة بل تقريبًا قدر الإمكان بتأصيل شرعي عام؛ ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فسددوا وقاربوا» [8] ، وقوله: «وقاربوا» : أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه[9]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن العمل البشري لا يمكن أن يطابق المطلوب الإلهي، ولكن يقارب الإنسان ويُسدِّد، ومن ذلك أن أهل العلم ذكروا شروطًا للولايات والمناصب، ولكن إذا جئنا نطبقها على الواقع نعتبر الأمثل فالأمثل؛ كما يقول ابن تيمية رحمه الله: "يجب على كل وليِّ أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك، استعان بالأمثل فالأمثل، وإن كان فيه كذب وظلم، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاقَ لهم، والواجب إنما هو فعل المقدور، فإن تعذر وجود الأصلح يختار الأمثل فالأمثل"[10].

 

نقل العلماء الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، ولكن إذا افتقروا إلى إمام يُقدِّمونه لجريان الأحكام، وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهدٍ؛ لأنَّا بين أمرين؛ إما أن نترك الناس فوضى، وهو عين الفساد والهَرْجِ، وإما أن يقدمونه، فيزول الفساد به، ولا يبقى إلا فوت الاجتهاد، هذا وإن كان ظاهره مخالفًا لما نقلوا من الإجماع، فإن الإجماع في الحقيقة إنما انعقد على فرض ألَّا يخلوَ الزمان من مجتهد، فصار مثل هذه المسألة مما لم يُنصَّ عليه، فصح الاعتماد فيه على المصلحة، فالثمرة المطلوبة من الإمامة تَطْفِئةُ الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة[11].

 

ويتبين من هذه الأمثلة أننا عندما نريد تطبيق الشروط الفقهية على الواقع، فإن العمل الذهني لا يبحث عن المطابقة بين الشرط والواقع، بل يبحث عن التقريب بين الشرط الفقهي وأقرب النماذج الواقعية له، وهذا يعني أن العمل على تحكيم الشريعة هو عمل واقعي يدور على مفهوم الأقرب لا مفهوم المطابقة؛ لأن العدل المحض في كل شيء متعذر علمًا وعملًا، والواجب إقامة الشرع بحسب القدرة والإمكان[12].

 


[1] مجموع فتاوى بن تيمية، (20/ 48).

[2] السياسة الشرعية حالة غياب حكم إسلامي عن ديار المسلمين، (ص: 232).

[3] العقيدة والسياسة معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، (ص: 57، 58).

[4] الإسلام الممكن دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتطبيقه، (ص: 17، 18).

[5] إغاثة اللهفان، (1/ 570 - 574).

[6] مجموعة رسائل ابن عابدين (2/ 125).

[7] كيف نطبق الشروط الفقهية على الواقع، إبراهيم السكران، صحيفة المدينة، 5/ 4/ 2013.

[8] صحيح البخاري، الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256هـ)، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، حديث (39)، ص: 20.

[9] شرح الجامع الصحيح للبخاري من رواية أبي ذر الهروي عن مشايخه الثلاثة الكشميهني والمستملي والسرخسي، (ص: 1/ 118).

[10] مجموع فتاوى بن تيمية، (28/ 24، 145، 728).

[11] الاعتصام، لأبي إبراهيم بن موسى الشاطبي توفي 579هـ، (3/ 42 - 47).

[12] كيف نطبق الشروط الفقهية على الواقع؟

_______________________________________________

الكاتب: ميسون سامي أحمد