كنوز نبوية (10)

خالد سعد النجار

فمن رُزق شيئًا أو أُكرم بكرامة، أو لُطف به في أمرٍ ما، فالمتعيَّنُ عليه: موالاة الشكر، ورؤية المِنة لله تعالى، ولا يُحْدِث في تلك الحالة تغييرًا

  • التصنيفات: الحديث وعلومه -

بسم الله الرحمن الرحيم

** عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ»  [مسلم]

فمن الأذية للميت القعود على قبره، وأخرج أحمد من حديث عمرو بن حزم الأنصاري قال: رآني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنا متكيء على قبر فقال: «(لا تؤذ صاحب القبر) » قال الحافظ في الفتح إسناده صحيح

وأخرج مسلم عن أبي مرثد مرفوعاً: «(لا تجلسوا على القبور ولا تُصلّوا إليها)» . والنهي ظاهر في التحريم.

قال النووي: قال أصحابنا تجصيص القبر مكروه والقعود عليه حرام وكذا الاستناد إليه والاتكاء عليه.

وقال مالك: المراد بالقعود الحدث [أي قضاء الحاجة] وهو تأويل ضعيف أو بعيد.

قال في سبل السلام: والدليل يقتضي تحريم القعود عليه والمرور فوقه، لأن قوله: «(لا تؤذ صاحب القبر)» نهى عن أذية المقبور من المؤمنين، وأذية المؤمن محرمة بنص القرآن  {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً

قال بن الهمام: ويكره كل ما لم يعهد من السنة والمعهود منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائما كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل في الخروج في البقيع"

ومن السنة أنه لا يجلس حتى توضع، أي: توضع عن أكتافهم على حافة القبر، ثم توضع في القبر ويبدءون في الدفن، وبعد ذلك يجلسون، حتى يفرغ الذين يتولون الدفن من عملية الدفن، ثم يتلقى أهل الميت العزاء .. تلك الفترة وتلك الجلسة، لا يكون جلوسه على قبر، ولا اتكاؤه إلى قبر؛ فهذا هو محل النهي.

** روى مسلم عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- « أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ [ستون صاع] شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ)»

وقوله (ولقام لكم) أي بقي، وكانت البركة تنزل في ذلك الطعام فاستطال الرجل مدته فكاله ينظر ما بقي، فلما وقف مع العادات وكل إليها كما وقف الماء حين زمته هاجر.

وروى مسلم عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- «أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ، كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عُكَّةٍ [كل ما يوضع فيه السمن] لَهَا سَمْنًا [أي لتكون السمن له إدام]، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «عَصَرْتِيهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ «لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا»»

قال ابن حجر: وقد استشكل هذا النهي مع الأمر بكيل الطعام وترتيب البركة على ذلك كما تقدم في البيوع من حديث المقدام بن معد يكرب بلفظ (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه) وأجيب بأن الكيل عند المبايعة مطلوب من اجل تعلق حق المتبايعين فلهذا القصد يندب، وأما الكيل عند الإنفاق فقد يبعث عليه الشح فلذلك كره.

وقال القاضي: فيه أن البركة أكثر ما تكون في المجهولات والمبهمات وأما الحديث (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه) فالمراد كيله عند إخراج النفقة منه بشرط أن يبقى الباقي مجهولا، ويكيل ما يخرجه لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل.

وقَالَ الْمُظْهِرِيّ: الْغَرَض مِنْ كَيْل الطَّعَام مَعْرِفَةُ مِقْدَار مَا يَبِيعُ الرَّجُل وَيَشْتَرِي لِئَلَّا يَكُونَ مَجْهُولًا، وَكَذَا إِذْ لَمْ يَكِلْ مَا يُنْفِقُ عَلَى الْعِيَال لِيَعْرِفَ مَا يَدَّخِر لِتَمَامِ السَّنَة، فَأُمِرُوا بِالْكَيْلِ لِيَكُونُوا عَلَى عِلْم وَيَقِين، وَمَنْ رَاعَى أَمْرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِدْ بَرَكَة عَظِيمَة فِي الدُّنْيَا وَأَجْرًا عَظِيمًا فِي الْأُخْرَى.

 وعن عائشة رضي الله عنها قالت: « تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ [إنسان أو حيوان] إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ» [البخاري]

وفيه بيان حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأهل بيته، وما كانوا عليه من شظف العيش.

هذا بيتُ خير البشر، لا يوجد فيه شيء، ولو أراد الدنيا لأتتْه راغمةً، وهذا البيت في مقياس الدنيا عندنا، يعتبر بيتًا معدِمًا

لمـَّا كالت عائشة رضي الله عنها الشعير، ذهبت البركة التي كانت فيه .. سبب رفع النَّماء من ذلك عند الكيل - والله أعلم - الالتفات بعين الحرص، مع معاينة إدرار نعم الله، ومواهب كراماته، وكثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها، والثقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة.

فمن رُزق شيئًا أو أُكرم بكرامة، أو لُطف به في أمرٍ ما، فالمتعيَّنُ عليه: موالاة الشكر، ورؤية المِنة لله تعالى، ولا يُحْدِث في تلك الحالة تغييرًا

قال ابن حجر -رحمه الله-: "معنى حديث عائشة أنها كانت تُخرِج قوتَها - وهو شيء يسير - بغير كَيْلٍ، فبورك لها فيه مع بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كالتْه علمت المدة التي يبلغ إليها عند انقضائها...، وحديث عائشة محمول على أنها كالته للاختبار؛ فلذلك دخله النقص، ولا تنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل، ما لم ينضم إليه أمر آخر؛ كالمعارضة والاختبار، فكان من كاله بعد ذلك إنما يكيله ليتعرف مقداره، فيكون ذلك شكًّا في الإجابة، فيعاقب بسرعة نفاده"

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]