قواعد في تربية الأولاد

معاشرَ الإخوة، أكثر الأوْلاد إنَّما جاء انحِرافهم عن الصِّراط المستقيم من قِبل آبائهم وإهمالهم لهم، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفِعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا

  • التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - تربية الأبناء في الإسلام -
قواعد في تربية الأولاد

عباد الله:

الأولاد من أعظم نعم الله التي يمنُّ بها على مَن يشاء مِن عباده، ومَن له أولاد قد لا يقدِّر هذه النِّعمة حقَّ قدْرِها، فلذا مَن لَم يرزَق بذرِّيَّة يبذل الغالي والرَّخيص وينتقل بين المستشفيات لطلب تحصيل الولد.

 

والولد - ذكرًا كان أو أُنْثى - إذا نشأ على طاعة الله، انتفع به أبواهُ أحياءً وأمواتًا؛ لذا حينما ذكر النَّبيُّ ما ينتفع به ابنُ آدم بعد مَماتِه، ذكر منهم الولَد وقيَّده بالصَّالح.

 

كلُّ والدينِ يتمنَّيان أن يكون أولادُهما من خير النَّاس في دينهم ودنياهم؛ لكن ليست المسألة مسألةَ تمنٍّ فقط، فلا بدَّ من بذْل الوسْع في تحرِّي أسباب فوزهم الدِّيني والدنيوي.

 

وليس هذا أمرًا نتطوَّع به، بل هو أمر افترضه الله علينا؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

 

ومَن فرَّط في ذلك، فقد ورد في ذلك الوعيد الشَّديد؛ فعن معقل بن يسار قال: سمِعْت النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: «ما مِنْ عبدٍ استرْعاه الله رعيَّة فلم يَحُطْها بنصيحة، إلاَّ لَم يجد رائحة الجنة» رواه البخاري (7150) ومسلم (142).

 

ومَن تأمَّل النُّصوص الشرعيَّة، وجد أنَّ الشَّارع وضَعَ من الاحتِرازات والضَّوابط ما يكفُل حِفْظ الأوْلاد وعدم جنوحِهم.

 

ومن ذلك الحِرْص على أن ينشأ الولد لا يغار من أحدِ إخوته، بحيث لا يشعر أنَّ لأحدٍ من إخوته حظوةً عند أبويه أكثر منه، في حبٍّ أو غيره من الأشياء المعنويَّة والحسيَّة؛ فلذا وجب العدْل بين الأولاد وعدم تفْضيل أحدِهم بِهبة ونَحوها من غير سبب؛ لأنَّ تفضيل بعضِهم على بعض يُوغر صدورَهم على أبوَيْهِم وعلى المفضَّل من إخوتهم، ويَمنعهم من الانتفاع بتوجيه أبويهم وتربيتهم، فقد كاد إخْوة يوسف الصِّدِّيق لأخيهم ما كادوا حينما وقَعَ في أنفُسِهم أنَّ أباهُم يُحبُّ يوسف وأخاه، ويفضِّلهما عليهم.

 

ومن ذلك أهميَّة القُدْوة الحسنة وموافقة القول العمل؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].

 

فحِينما يقع خطأٌ من أحد الأوْلاد ليقِف الأبُ مع نفسِه وقفةَ مُحاسبة: هل له دوْر في هذا الخطأ؟ فهل هذا الخطأ يمارسه الأب؟ هل قصر في واجبه الذي افترضه الله عليه من حسن التربية والتوجيه والمتابعة، وتوفير ما يجب عليه توفيره؟ فإن كان للأب دوْر، فالواجب على الأب علاج أسباب الخطأ وتدارُك التَّقصير الذي حصل منْه، فمثلاً لا ينبغي أن يُكْثِر الأب من لوْم ابنِه على حصول خطأٍ في سلوكِه، من نظَرٍ محرَّم، أو سماع محرَّم، أو كذِب، وغير ذلك من المخالفات، إذا كان الأب نفسُه يقع في هذه الأشياء المحرَّمة، فالواجب على الأب أوَّلاً أن يقوم هو بتعْديل سلوكه وترْك ما يعيبه على ابنه، فهذا مظنَّة استِجابة الابن لتوجيه أبيه، فالأولاد يتربَّون بالاقتِداء بأبيهم في حَسَنِ الأعمال وقبيحها.

 

وحينما يُخالِط الابن مَن لا يرضى خُلقه مِمَّن هُم من أتْرابه، فعلى الأب أن ينظُر في السَّبب، فربَّما خالطَهم ابنُه تحت ضغْط الحاجة لأجل الذَّهاب معهم بالسيَّارة مثلاً؛ لأنَّ أباه لم يوفِّر له سيَّارة، فليقِف الأب مع نفسه، ولينظر في مصالح ومفاسد إعْطاء الابن سيَّارة، إذا كان لديْه مقدِرة مالية على ذلك.

 

وحينما يحصل من الابن تفريطٌ في الصَّلاة، وخصوصًا الفجْرَ، ليقف الأب مع نفسه: هل درَّبه على الصَّلاة في المسجد؟ أم تركه حتَّى كبر فشقَّت عليه صلاة الجماعة؟ فإن كان الأمر كذلك، فعلى الأب تدارُك الأمر في أوْلادِه الصِّغار؛ حتَّى لا يحصُل منهم ما حصل من أخيهِم الأكبر.

 

حين التعامل مع أخطاء الأولاد، يجب ألاَّ نعزِلَها عن أعمارهم، فالصِّغار تصدر منهم أخطاء ربَّما كانوا أوَّل من يتضرَّر بها؛ لعدم تقْديرهم للعواقب، ومعرفة ما يؤول إليْه الأمر، فينبغي أن يُتَغاضى عن بعض الأخطاء، وكأنَّ الأب لَم يطَّلع عليها، إذا كانت مما يسوغ التغاضي عنها؛ فليس حسنًا كثرة التَّأنيب والتَّوبيخ عند أدْنى خطأٍ؛ لأن الولد لا يتأثَّر بالتوبيخ مع كثرته، وربَّما تبلَّد حسُّه، فسيَّانِ عنده من يشكره ومن يوبِّخه؛ لذا كان النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يتحمَّل هفوات الصِّغار ولا يعاتبهم؛ فعن أنس قال: لما قدم رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم – المدينة، أخذ أبو طلحة بيَدي فانطلق بي إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، إنَّ أنسًا غلامٌ كيِّس فليخْدمك، قال: فخدمتُه في السَّفر والحضَر، والله ما قال لي لشيءٍ صنعتُه: لمَ صنعتَ هذا هكذا؟ ولا لشيءٍ لَم أصنعه: لِم لَم تصنع هذا هكذا؟"؛ رواه البخاري (2768) ومسلم (2309).

 

وكان أنس صغيرًا ويبدر منه ما يبدر من الصِّغار، فكان النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يغضُّ الطَّرف عن هفواتِه ولا يعاتبه.

وبعد:

ليكن التَّوجيه برِفْق مع تجنُّب الغلظة والألفاظ الجارحة حين العتب، فما كان الرِّفق في شيءٍ إلاَّ زانه، وما نزع من شيء إلاَّ شانه، ومن الخطأ التصرُّف أثناء الغضب، فالغضبان في حال غير طبعي، فلن يكون تصرُّفه مسدَّدًا غالبًا، فرغبته في تسْكين غضبِه تَحجُب عنه القرار الصَّائب؛ لذا كان من حِكْمة الشَّارع أنَّه نَهى أن يحكم الشَّخص في حال الغضب؛ فعن أبي بَكْرَة قال: سمعْتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: «لا يحكُم أحدٌ بين اثْنَين وهو غضبان» رواه البخاري (7158) ومسلم (1717).

 

وحين التَّوجيه تعدد فضائل الولد، وأنَّ فيه من صفات الكمال كذا وكذا، فيثنَى عليْه بما فيه من خير، ويوجَّه بأنَّه قريب من صفات الكمال لو فعل كذا وكذا، ولو ترك كذا وكذا.

 

فحينما أراد رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يوجِّه عبدالله بن عمر إلى قيام الليل قال: «نِعْم الرجُل عبدالله، لو كان يصلِّي من الليل» فكان بعدُ لا ينام من الليل إلاَّ قليلا؛ رواه البخاري (1112) ومسلم (2479).

 

من أهم أسباب التَّأثير على الأوْلاد وانتفاعهم بتوجيه أبيهم: وجودُ الاحترام المتبادل بين الأب وأولادِه، فإذا كان الأب يُظْهِر لهم المحبَّة والاحتِرام ويُناديهم بأحبِّ الأسماء والكُنَى إليْهِم، فحينما يشعُر الولد أنَّ له قدْرًا وأنَّه محلُّ احتِرام أهله وتقْديرهم، يَحرص على المحافظة على هذا القدْر، وألا يعمل ما يحطُّ من قدْرِه، لكن إذا أُشْعِر بأنَّه لا قدر له، وأنه وعاء لكل نقيصة وخلل، لم يكُن لديْه شيء يخشى عليه.

 

وليحرصِ الأب على أن يوفِّر لهم ما يستطيع توفيرَه ممَّا لا يضرُّهم، فهذا من أسباب نَجاح الأب في التَّربية والتَّوجيه، أمَّا إذا وجدت فجْوة بين الأب وبين أولادِه، ويَمتنع عن توفير ما يستطيع من طلباتِهم، ففي الغالب المراهق لا يَمتَثِل لأبيه أمرًا وربَّما أضرَّ بنفسه فأهمل دراسته، أو ترك الحلقة أو خالط مَن لا يرضاهم أبوه؛ لأجل أن يغيظ أباه، وبزعم أنَّه يعامل أباه بالمثل، فهو لا يعي الحقوق الشرعيَّة لأبيه؛ إنَّما يعامله غالبًا وفْق معايير دنيويَّة.

 

العقاب البدني يَنبغي ألا يستخْدِمَه الأب والمربِّي إلاَّ بعد استِنفاذ كلِّ طرق التَّقويم وتَهذيب السُّلوك، من التَّرغيب والتَّرهيب، فيمكن أن يعاقِب الولد عقابًا معنويًّا؛ كمنعِه ممَّا اعتاده، فربَّما كان ذلك أشدَّ عليه من العقاب البدني.

 

وعند الحاجة للعقاب البدني لا يُكْثِر منه؛ لأنَّ الإكثار منه يفقِدُه أثرَه، فيعتاد الولد الضَّرب، فلا يكون زاجرًا له، فيوطِّن نفسه على تحمُّل ألَم ثوانٍ وينتهي الأمرُ عند ذلك.

 

وليعلم مَن يرى أنَّ التربية هي بخوف الولد من أبيه، واستعمال العقاب البدني، أنَّه مخطئ في فِعْله، فبعْدَ حين سيصِل الولد لسنٍّ لا يستطيع أبوه عقابه، ويزول خوف الولَد من أبيه، فهنا لا تسأل ما حال الولد، وليُجِل الواحد منا فكْرَه بمن حوله من جيران وأقارب وأصدقاء، فسيرى أولادًا ضحايا لهذا النَّوع من التَّربية، فلم ينفعوا أنفُسَهم، ولم ينتفِع بهم أهلوهم.

 

قد يقول قائل: تربَّى بعضُنا على الضَّرب وما ضرَّه، وهذا صحيح كواقع؛ لكِن فيه خطأ من وجهين:

الأوَّل: أنَّ هذه التربية خلاف تربية النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهدي النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكْمل هديٍ، ونلتمس العُذْر لمن مضى؛ لجهلِهِم بِهدي النبي في تربية الأوْلاد.

 

الثَّاني: أنَّ الواقع الذي نعيشه ليْس الواقع الذي كان يُعاش قبل عشرات السنين، فالولد في السَّابق لا يَجد من يتلقَّفه ويؤْوِيه ويوفِّر له ما يُريده، بِخلاف هذا الزَّمن.

 

اعلموا أنَّ أكمل النَّاس أقلُّهم استخدامًا للضَّرب، فلديْه من أساليب التَّربية التي تُغْنِيه في أغْلب أحوالِه عن العقاب البدني؛ فعن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: ما ضرب رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - شيئًا قطُّ بيدِه، ولا امرأةً ولا خادمًا إلاَّ أن يُجاهد في سبيل الله"؛ رواه مسلم (2328).

 

معاشرَ الإخوة، أكثر الأوْلاد إنَّما جاء انحِرافهم عن الصِّراط المستقيم من قِبل آبائهم وإهمالهم لهم، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفِعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، وهذا في الغالب؛ لكن لا يلزم من انحِراف بعْض الأولاد أن يكون ذلك بسببِ تفْريط الأبوَيْن في التَّربية، فقد يبذل الأبَوَان وسْعَهما في التَّربية من الصِّغَر، ثمَّ يحصُل من بعض الأولاد جنوحٌ عن الصِّراط المستقيم، فالأنبياء هم سادة المربِّين، ومع ذلك لم يستطيعوا هداية أشدِّ النَّاس لهم قربًا، فمثلاً نوح بذل وُسْعَه في سبيل استِصْلاح ابنه، ولَم يفتُر في دعوته وبيان مغبَّة الطَّريق الَّذي سلكه حتَّى آخر لحظة، ولَم تثمِر دعوته في هداية ابنه؛ لحكمة أرادها الله؛ {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ} [هود: 42، 43].

 

ففي هذا عزاءٌ لكلِّ أبٍ بذَل وُسْعَه في تربية أوْلاده من الصِّغَر، ولَم يحصل ما كان يؤمِّله في بعضهم.

___________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان