حتى أثني على ربي!
بعد معركة أحد، بعدما اجتمع المشركون، وانفرط المسلمون، ونزل المشركون على المسلمين من كلِّ مكان أفواجًا، يتتابعون عليهم نزاعًا أرسالًا، حتَّى تناكب أمر المسلمين، واتسع خرقهم، وأعضلهم الفتق، وأدرك المسلمون هول الفاجعة..
- التصنيفات: الذكر والدعاء - السيرة النبوية -
بعد معركة أحد "السبت 15 شوال 3 هـ - 30 مارس 625 م"، بعدما اجتمع المشركون، وانفرط المسلمون، ونزل المشركون على المسلمين من كلِّ مكان أفواجًا، يتتابعون عليهم نزاعًا أرسالًا، حتَّى تناكب أمر المسلمين، واتسع خرقهم، وأعضلهم الفتق، وأدرك المسلمون هول الفاجعة، وذاقوا مرارة الهزيمة، وعاينوا جثث الشُّهداء، وقد صُرع حمزة، ومصعب، وابن جحش، وابن الربيع، وغيرهم من أكابر الصَّحابة، وشاهد المسلمون آثار المُثلة التي تَمت بصورة بشعة في أجساد الشُّهداء، فقد بُقرت البطون، وجُدعت الأنوف، وقُطعت الفروج والآذان، وقد اهتزَّت قلوبهم لمشهد حمزة، ذلك الأسد، الذي مُثِّل به أبشع تمثيل، وقد شُق بطنه شقًّا، وطُرح كبده على الأرض، وقد نُهش منه شيءٌ.
وتأثر النبي – صلى الله عليه وسلم – تأثُّرًا شديدًا، وشق عليه ذلك الأمر، وامتلأ القلب حسرة، والعين عَبرة، وأرسل عبراته زفرة بعد زفرة.
ألَا أُذنٌ تُصغي لهذه الآهات التي زفرها النبي – صلى الله عليه وسلم – من أجل هذه الأُمة؟!
في هذا الجو المهيب، تتقطع قلوب المؤمنين أجذاذًا، وتزيغ القلوب الضعيفة عن جادة الإسلام، وتضل النفوس المرتابة، وتتشكك في صلاحية المنهج.
وقد تساءلوا: لِمَ؟
فكان الجواب: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
واجتمعت على المسلمين الجراحات، وتواصلت بجراح أخرى غائرة من أيام مكة، وزُفرت الأنفاس متعثرةً؛ ومتعثرةً في زفرات أخرى؛ زفرات الحُزن على أشلاء قد مزقها الحقد الأسود، وزفرات الأشواق إلى النَّصر والتمكين، وزفرات القَرْح الذي أصاب جسومهم، وغرقوا في بحار من الهم؛ يدهش فيها الفكر ويَحار، كأنَّما ألقت بهم طيارةٌ في فيافٍ سحيقة، لا ماء فيها ولا زرع ولا ضرع، فباتوا نادمين سَادِمين حائرين بائرين.
هنا تنقشع غمامة الحُزن عن صوت المؤمن الأكبر، والمسلم الأعظم، والنبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم أن يتراصُّوا صفوفًا، ليقفوا للدعاء: «اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي»، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا"؛ [أحمد: 15891، وصححه الألباني في تحقيق فقه السيرة، يقول: «حتى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي».
إن الله - سبحانه - له الفضل الحسن والثناء الجميل، في السراء والضراء، في النِّعمة والنقمة، في النصر والهزيمة، له الحمد على كل حال، له الحمد على النصر إذا نزل؛ فللنصرِ فرحةٌ، وحبرةٌ، ولذةٌ، ونشوةٌ، فضلًا عن الرزق الحسن الذي فيه من غنيمةٍ وتمكين، وله سبحانه الحمد على الهزيمة؛ {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، فقد تكون في الهزيمة رحمة؛ لما فيها من تذكير وعِبرة واتِّعاظ بخطورة المعصية، وقد تكون هزيمة أخف من هزيمة، وفي ذلك رحمة أيضًا، وله الحمد سبحانه كذلك أنْ حَفِظَ نبيه – صلى الله عليه وسلم - وله الحمد أنْ دفع قلوب المشركين عن المدينة – حرسَها الله - وله الحمد أن الجيش لم يُبَدْ عن بكرة أبيه، فهذه الانتكاسة التي أحدثها المسلمون كفيلة أن تُفني أيَّ جيشٍ، وذلك حسب النظرية العسكرية في الحروب؛ ولكنَّ الله سلَّم.
واصطفَّ المسلمون خلف نبيهم؛ ليُثْنِيَ على ربه، بعدما تفقهوا درسًا بليغًا في أسباب النصر والهزيمة، فماذا قال، وبماذا دعا؟
(اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ...)).
أنت القابض، أنت الباسط، تبسط الرزق لعبادك، وتوسعه عليهم بجودك، وتبسط الأَرواح في الأَجساد، وتبسط النصر في ميادين القتال لمن تشاء، وأنت القابض، لا شريك لك في ملك، لا تُسأل عما تفعل وهم يُسألون.
أنت الهادي، فنحن على ضلال إن لم تهدنا، ونحن على الهدى كل الهدى إن رضيتَ عنَّا.
أنت المانع، لا نملك شيئًا إن لم تعطنا، ونملك كل شيء إن رضيتَ عنا.
((لَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ))، فأنت رب الزمان والمكان تصرفهما كيف تشاء، فكل بعيد؛ قريب لك دان، وكل مبهم، واضحٌ لك ظاهر.
((اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ)).
اعترفنا بقدرتك وضعفنا، وغناك وفقرنا، ونحن الأذلاء بين يديك، معترفين بذنبنا، فابسط علينا من بركاتك؛ فأنت الغَنِي الكريم، ومن رَحْمَتِكَ؛ فأنت أرحم الراحمين، ومن فَضْلِكَ؛ فأنت الصمد سيد المُعطين، ومن رِزْقِكَ؛ فأنت الرزاق ذو القوة المتين.
ابسط علينا من بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ، فأعزَّ دولتنا الناشئة، واحفظ ديننا ومدينتا وشعبنا.
إذا ما أنعمتَ علينا من بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلكَ؛ فالكلُّ مكرمٌ مُعَزٌّ، لا غنى لنا عنك، ولا غنى لدولتنا عن فضلك.
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ، الذي لَا يَحُولُ، وَلَا يَزُولُ)).
فغايتنا رضاك، ومبتغانا الجَنَّة، نسألك في ميدان جهادنا هذا النَّعيم المقيم في الفردوس الأعلى، ذلك النعيم الذي لا يحول أبدًا، ولا يزول أبدًا، فما جئنا نكابد الوَغَى إلا ابتغاء رضاك والجنة.
ما جئنا إلى ساحات الغبار نقاتل عن نَعْرَة أو عصبيَّة؛ بل جئنا ها هنا من أجل غاية سَنية، جئنا نضرب روابي الطُّغاة، من أجل روابي الإنسانيَّة، جئنا نكسر أجنحة الظلم، من أجل أن يستظل الناس بأجنحة العدل، جئنا من أجل كلمتين؛ كلمة نضعها وأخرى نرفعها، فالأولى كلمة الباطل، والأخرى كلمة الحق؛ ولتكون دومًا { ... كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ)).
فأنت ترى حالنا، بين غريب وفقير، مع ضعف العدة، وقلة الزاد، والكفر مجتمعٌ على الإيمان، فنسألك أيضًا من نعيم الدُّنيا، من الرخاء الاقتصادي، والاستقرار الأمني، نسألك النعيم يوم الفقر والفاقة، والأمن يوم الخوف والحاجة.
فعماد المجتمعات في المجال العمراني: الغِنَى والأمن، فإذا هما غابا من مجتمعٍ، زال على أثرهما النظام، وفسد بسببهما الناس، فلا أنجع من طريقةِ بث الفقر والرعب في تحطيم الشُّعوب وإفساد النُّفوس.
إن سياسية التجويع والتخويف هي وسيلةٌ حربيةٌ قذرةٌ، يُمارسها أعداءُ الأمةِ في الداخل والخارج على الشعوب الإسلامية؛ وذلك لتذل وتخنع، وتضل وتخضع، وليحصل لها من القناعة الفكرية بعدم صلاحية الإسلام، وبحيث يجدون الغَوْثَ والمعونة دومًا من أناس لا يدينون دين الحق.
((اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ)).
وقد ابتلينا بالهزيمة، وحُرمنا النصر، فنعوذ بك من ذل الهزيمة، وعتو النصر، نعوذ بك من انتكاسة المنهزمين، وغرور المنتصرين.
((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ)).
حبب إلينا الإيمان، اجعله شهوتنا، واجعل فيه شرتنا، وزينه في قلوبنا، كما تُزين السماء المظلمة بالشموس النيرة، فبين الحُب الإيماني الذي في النفس، والزينة الربانية التي في القلب؛ يعيش المسلم يرفل في ظلال الله، يسعد بلذة الإيمان وحلاوته، يرتع في جنة الرب التي سكبها في نفس المؤمن.
حينها يتحول الْكُفْر وَالْفُسُوق وَالْعِصْيَان إلى أشباح مرعبة، يفرُّ منها المؤمن فراره من الأسد، أو تفر هي منه، فلا مكان لها في قلوب حية بالإيمان، ذاكية بلهيب الشوق، الذي لا يفارقها حتى تقر بالفردوس الأعلى.
وبين أوبة النفس إلى الإيمان ونفرتها من الكفر والفسوق والعصيان، تتحقق للإنسان صفة الرشاد، وينضم إلى زمرة الراشدين التي عزَّت في كثير من الأزمنة، تلك الصفة التي كان أحد الأنبياء يهتف بها في قومه، يرثي قلّتها فيهم، قائلًا: ﴿ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾ [هود: 78].
فيا رب: ((كَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ)).
((اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ)).
فأحسِن عاقبتنا وخاتمتنا، وتوفَّنا على المنهج، وأحْيِنا به، وألحقنا بإخواننا الذين ماتوا عليه، غير خزايا من ذنب أو كبوة، ولا مفتونين من كَرب أو فتنة.
(أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ))، اجعل الإسلامَ منهج حياتنا، ودستور نظامنا، اجعل صلاتنا ومحيانا ومماتنا لك وحْدَك لا شريك لك، اجعل الإسلامَ في نُفُوسنا، وخارج نُفُوسنا، في بيوتنا وخارج بيوتنا، في بلادنا وخارج بلادنا، واجعله عاليًا قائمًا من فوقنا ومن تحتنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن بين أيدينا ومن خلفنا، اجعلنا نحيا به، ونعمل له، ونموت في سبيله، ونُبعث في زمرته.
((وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ))، فلا تفرق بيننا وبينهم في الدُّنيا ولا في الآخرة.
هكذا الإيمان يربط بين المؤمنين بهذا الرباط الإيماني الوثيق، بين أهل الزمان وأهل كل زمان، بين أبناء المكان وأهل كل مكان، ليس في الدُّنيا فحسب، بل في الآخرة أيضًا.
((اللَّهُمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ؛ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ)) [أحمد: 15891، وصححه الألباني في تحقيق فقه السيرة].
فقد جاؤوا يُحادُّونك، ويعادون رسولك، وقد عزموا على استئصال الإسلام، واعتقال المسلمين، ولم يكفهم ما فعلوه بالمستضعفين من قبل، فلا يزالون يُقاتلون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم، كما أخبرتَ رَبَّنا، سبحانك، أنت أصدق القائلين.
إنها الحقيقة القرآنية الخالدة التي قلتَ فيها – تباركت وتعاليت -: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
أما أهل الكتاب الذين كذَّبوا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – وحاربوه، فقد قلتَ فيهم – سبحانك -: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].
لا غنى عنك في معركتنا، فأعنَّا وأيدنا على أئمة الباطل من الوثنيين وأهل الكتاب ممن يحاربون الإسلام والمسلمين.
وأنت أعلم بدخائلهم مِنَّا، وقد علمتَ ما فعل الوثنيون في مكة من قتل وتحريق وتهجير في ضُعفاء المسلمين، وعلمتَ ما فعلته يهود في المدينة، من غَدْر وخيانة، ودعم للوثنية، وإفساد في الأرض، فضلًا عن مُحاولة قتل خير البرية.
__________________________________________
الكاتب: آمال عاطف أبو عيش