من التاريخ المعاصر: تاريخ مرض ووفاة عبد الناصر
عبد المنعم منيب
كبير الأطباء الروس: كيف تم شفاء جمال عبد الناصر في روسيا ولماذا مات في مصر؟
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
أدلى الكثيرون بشهادتهم بشأن مرض جمال عبد الناصر وأسباب وكيفية وفاته، لكن هناك شهود مهمين لم يتم تسليط الأضواء علي شهادتهم بالقدر الكافي ربما لصالح هدف الزعم بأن جمال عبد الناصر مات مقتولا بفعل مؤامرة خفية.
البروفسير "يفغيني شازكوف" كبير أطباء الكريملين في نهايات عهد جمال عبد الناصر يكشف عن شهادة الجانب الروسي على مرض جمال عبد الناصر ووفاته وذلك في مذكراته المنشورة بعنوان "مذكرات كبير أطباء الكرملين.. الصحة والسلطة" وتأتي أهمية مذكرات الدكتور شازكوف من طبيعة المنصب الذي شغله إذ شغل منصب رئيس "الادارة الرابعة" للصحة بالكريملين بين عامي 1967 و1985 كما أنه أصبح وزيرا للصحة حيث كان آخر وزير للصحة في الاتحاد السوفيتي السابق.
وكانت "الادارة الرابعة" بوزارة الصحة السوفيتية تتبع زعماء الكرملين ورئاسة المخابرات (كي.جي. بي) مباشرة وضمت هذه الادارة عدد محدود من المستشفيات والعيادات في العاصمة موسكو وفي عواصم الجمهوريات السوفيتية السابقة وفي شبه جزيرة القرم، وعمل في تلك الادارة أنبغ الأطباء السوفييت وقد تم تزويدها بأحدث الأجهزة العلمية والطبية في العالم.
وفي هذه الادارة تم تسخير كافة الامكانات البشرية والفنية والعلمية من أجل الحفاظ على صحة كبار المسئولين الحكوميين والحزبيين والعلماء سواء في موسكو أو في بقية الجمهوريات السوفيتية الأخرى، كما تولت هذه الادارة علاج ومتابعة الحالة الصحية لأصدقاء الاتحاد السوفيتي من الزعماء السياسيين في العديد من دول العالم، وكان من ضمن الحالات التي تابعتها هذه الادارة الحالة الصحية لكل من الزعيمين المصري جمال عبد الناصر والجزائري هواري بومدين حتى وفاة كل منهما.
تسلم شازكوف رئاسة "الادارة الرابعة" بقرار من بريجينيف وهو في الـ 37 من العمر لأن ابحاثه وخبراته في علاج الذبحة الصدرية وموت عضلة القلب وتجلط الدم بالشرايين التاجية جعلت منه طبيبا مشهورا على مستوى العالم كله في ذلك الوقت.
وقد نشر "يفغيني شازكوف" مذكراته عام 1993 أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مما أعطاه قدرا أكبر من الحرية في كتابته عن أسرار الحالة الصحية للزعماء الذين تولت إدارته علاجهم، فنجده على سبيل المثال يلمح تلميحا أشبه بالتصريح إلى أن بومدين مات مسموما وأن علماء السوفييت والعديد من علماء فرنسا والولايات المتحدة عجزوا عن علاجه.
ومن هنا تأتي أهمية شهادته عن حالة جمال عبد الناصر الصحية منذ إصابته بالمرض أول مرة عام 1968 وحتى وفاته عام 1970.
وتبدأ شهادة "شازكوف" عن مرض عبد الناصر بكلامه عن اتصال غامض من زعيم الاتحاد السوفيتي حينئذ "ليونيد بريجينيف" في أوائل يوليو 1968 يخبره فيه بمرض أحد أعز أصدقاء الاتحاد السوفيتي من كبار الزعماء الدوليين وحاجة معالجيه لنصيحة الأطباء الروس ولم يخبره بريجينيف باسم الزعيم ولا بلده.
و بعيدا عن ترتيبات السرية التي حرص عليها المصريون سواء في عملية الاستشارة الطبية أو في عملية توقيع الكشف الطبي بعد ذلك على جمال عبد الناصر و علاجه بالاتحاد السوفيتي فإن هناك تفصيلات أخرى غريبة جدا وردت بمذكراته منها ان الأطباء المصريين كانوا يظنون أن هناك "ورما" ما في الجهاز البولي للرئيس جمال عبد الناصر لكن الأطباء الروس تبينوا انه مجرد انسداد في شرايين القدمين، و منها ان المصريين كانوا يمانعون في البداية من توقيع الكشف الطبي المباشر على جمال عبد الناصر فضلا عن ان يمكث فترة للعلاج بروسيا كما أن بريجينيف نفسه أمر شازكوف بكتمان أسرار حالة جمال عبد الناصر الصحية حتى عن اي زعيم سوفيتي مهما كانت مكانته.
وإذا مررنا على مثل هذه الغرائب ودخلنا في صلب الموضوع فإننا سنجد شازكوف يصف حقيقة الحالة الصحية لجمال عبد الناصر فيقول: بناء على ما استمعنا إليه من الأطباء المصريين وما عرضوه من نتائج تحاليل وأشعة خرجنا بانطباع أن المريض يعاني من تصلب تقليدي للأوعية الدموية في الساقين وبداية اختلال الدورة الدموية بهما وأبلغنا المصريين أنه لا يمكننا التشخيص بشكل نهائي إلا بعد فحص المريض بأنفسنا، وكان المصريون يخشون تسرب الخبر لاسرائيل فلم يرحبوا باقتراحنا لكنهم اقترحوا بحث الأمر مع ناصر نفسه.
وكان الفحص الموعود لجمال عبد الناصر شخصيا في 6 يوليو أثناء زيارته للاتحاد السوفيتي بشكل رسمي يقول شازكوف: كان المرض والهزال والقلق واضحا على وجه الزعيم المصري وكان معه م السادات وعدد من الأطباء، ويضيف شازكوف: عندما سألناه عن شكواه قال بضجر أنه يعاني من عذاب من آلام شديدة في الساقين والفخذين.
وذكر شازكوف خطوات العلاج التي نفذها السوفيت مع ناصر بقوله لناصر: أول ما نطلبه منك ان تقلع عن التدخين وفي التو طلب جمال عبد الناصر مرافقه وأعطاه علبة السجائر (الجمل) وقال لمرافقه: من اليوم لن أدخن.
بعد ذلك التفت جمال عبد الناصر لشازكوف قائلا: لو ان هذا الأمر يتعلق بي شخصيا لجادلتك ولكنه يتعلق بمصير مصر.
بعد ذلك قرر الأطباء السوفيت أن حالة تصلب الشرايين عند ناصر بلغت درجة لا تتحمل معه التدخل الجراحي في الوقت الذي كان العلاج الطبيعي بماء وطين ينابيع (تسخالطوير) في جورجيا قد أثبت نجاحا في مثل هذه الحالات، وأبلغ شازكوف القرار لبريجينيف الذي وافق على الفور، وقال له "افعلوا كل ما بوسعكم كي يسترد عبد الناصر عافيته لا يوجد في الشرق الأوسط زعامة اخرى يمكن ان توحد العرب في مواجهة أسرائيل وأمريكا ولو اختفى من المسرح السياسي فإننا سنتلقى أكبر ضربة قاصمة تضر بمصالحنا ومصالح العرب".
و بعدما تم التريتب بصعوبة كي يستقر فترة العلاج في(تسخالطوير) و تلقى هناك العلاج الطبيعي بدأت أعراض الغرغرينا التي كانت في أصابع قدمي ناصر تختفي بالتدريج كما اختفت الآلام و الأرق الذي كان يعاني منهما ناصر، و يعلق شازكوف على هذه النتيجة قائلا: لم أكن أتوقع هذه النتائج الايجابية رغم ايماني بقدرات العلاج الطبيعي بحمامات المياه الطبيعية و المعدنية، و يضيف: كان ناصر نفسه مندهشا للسرعة التي أنقذناه بها من مرض بدا ميئوسا منه و قد ربطت بين ناصر و أطبائه السوفيت صداقة وطيدة خصوصا الدكتور "تيولبين" الذي عيناه للاشراف على علاجه.
و اعتبر الطباء السوفيت أن هذا التحسن في صحة جمال عبد الناصر سببه نمو اوعية دموية جديدة إلى جوار الأوعية القديمة مما وفر دورة دموية طبيعية للساقين، و حسب شازكوف فإن قدرات الطب لم تكن تصل في هذا الوقت إلى ايقاف تصلب الشرايين تماما و منع ظهوره في أجزاء أخرى من جسم المريض لا سيما أن جمال عبد الناصر كان يعاني من مرض السكر، و يؤكد شازكوف على أن السوفيت كانوا على وعي بأن مرض تصلب الشرايين سيستمر و يتزايد لدى ناصر لكنه كان من الصعب توقع أي من الأوعية الدموية سيصاب في المستقبل و يضيف: لذا كانت نصائحنا واضحة بضرورة اتباع ناصر لنظام العلاج و تجنب الاجهاد و الانفعالات.
واقترح السوفييت على جمال عبد الناصر أن يفحصوه بعد أربعة شهور للاطمئنان عليه واقترحوا عليه أن يصحبه الطبيب "تيوبلين" هذه الفترة بجانب اللأطباء المصريين إلا أن جمال عبد الناصر أشار إلى أن ذلك ربما يسئ الشعب المصري فهمه ولذلك رفض صحبة الطبيب السوفيتي.
و بعد مضي الفترة المحددة زار شازكوف جمال عبد الناصر بالقاهرة فوجد حالته ممتازة و يلعب التنس و يعمل كثيرا بلا أي عناء، لكن بعد ذلك بشهور و تحديدا في سبتمبر 1969 أبلغ رئيس المخابرات السوفيتية شازكوف بحتمية أن يتوجه سرا و فورا للقاهرة بناء على طلب جمال عبد الناصر، و علم شازكوف بعد حضوره القاهرة أن جمال عبد الناصر شعر يوم 10 سبتمبر 1969 بألم شديد في صدره و أثبت رسم القلب انه اصيب بذبحة صدرية و موت جزء من عضلة القلب، و قد نوقشت الحالة الصحية لجمال عبد الناصر في اجتماع بمنزله حضره عدد من القادة المصريين منهم السادات و شعراوي جمعة و الفريق محمد فوزي و حذر الأطباء المصريون في هذا الاجتماع من الخطر الذي يهدد حياة جمال عبد الناصر و اقترح السادات و هيكل استدعاء شازكوف بدل من استدعاء أطباء أجانب آخرين كما كان مقترحا لأن استدعائهم قد يؤدي لتسرب الخبر لإسرائيل.
و عندما فحص شازكوف جمال عبد الناصر في بيته تبين أن التطور الخطير في حالة ن جمال عبد الناصر لم يكن قد مر عليه سوى يومين ووجده يعاني من موت في عضلة القلب متوسط الخطورة، كان يتعين على جمال عبد الناصر الراحة لمدة شهر على الأقل حسب رأي الأطباء المصريين و طلبت زوجة جمال عبد الناصر من شازكوف اقناعه بقبول ذلك، جمال عبد الناصر ذكر لشازكوف حالة المواجهة مع اسرائيل و اعادة بناء الجيش المصري و تكثيف الموساد جهوده لمعرفة حقيقة الحالة الصحية لجمال عبد الناصر كي يعلل بها رفضه للراحة و الاختفاء عن الكاميرات و لكن شوازكوف اقنعه بالراحة التامة عشرة أيام على الأقل بعدها يقرر بناء على حالته و حينئذ سأل جمال عبد الناصر شازكوف عن التغطية السياسية المناسبة لاختفائه فاقترح شازكوف أن يتم الاعلان عن اصابة الرئيس بانفولونزا حادة جدا و اثناء ذلك يظهر من حين لآخر أمام الكاميرات مع بعض المسئولين بشكل مبرمج مسبقا و لكن لتبدو كأنها عفوية.
بعد ذلك عاد شازكوف لموسكو وهو في أشد القلق على مصير جمال عبد الناصر.
وحصل شازكوف على أعلى وسام سوفيتي هو وسام لينين و قال له رئيس المخابرات السوفيتية تعليقا على حصوله على هذا الوسام "ما فعلته من اجل ناصر هو من أجل بلادنا.. أنت لا تعرف مدى ما تمثله صحته لنا من رأس مال سياسي كبير".
وكما كان شازكوف شاهدا على بدايات مرض جمال عبد الناصر فقد كان شاهدا على نهيته فقابل جمال عبد الناصر في موسكو قبيل وفاته عام 1970، ويعلق على هذا اللقاء فيقول: لم أكن أتصور أن صحة جمال عبد الناصر قد تدهورت إلى هذا الحد فعلاوة على قصور الوعية الدموية بدأت تظهر علامات الهبوط وتعجبنا للسرعة التي تسبب فيه موت جزء من عضلة القلب في هبوط القلب ففي مثل حالته لا يتطور المرض بهذه السرعة، وعندها تلقى جمال عبد الناصر قسطا من الراحة والعلاج في مدينة "بارفيج" السوفيتية مما أدى لتحسن حالته الصحية.
ويؤكد شازكوف أن جمال عبد الناصر وعده عند مغادرة "بارفيج" بأن يلتزم بجميع النصائح الطبية ولكنه يضيف: الا أن هذا الوعد تبخر بمجرد عودته للقاهرة حيث انهمك في عمل مكثف.
ويفجر شازكوف المفاجأة بقوله: كنا ندرك أن المأساة قد تحدث في أي لحظة تعقب مجهودا عصبيا أو بدنيا كبيرا، وهو ما كان.
ويكاد شازكوف يشخص حالة موت ناصر بقوله: "كان التوتر الشديد الذي يحيط بجمال عبد الناصر لا يناسب مريضا بتصلب الشرايين وموت جزء من عضلة القلب، وفي بلادنا يقولون عن هذه الحالة أن المريض قد احترق، و بالفعل احترق جمال عبدالناصر و كان احتراقه هو موته" انتهى كلام شازكوف.
لكننا نجد الأساطير يطلقونها وينسجونها حول مؤامرة قتلت جمال عبد الناصر بالسم المزعوم بهدف تصفية حسابات سياسية بين أجنحة نظام جمال عبد الناصر تارة أو لإضفاء بطولة زائفة على جمال عبد الناصر الذي لم يحقق أي بطولة حقيقية طوال حياته اذ كانت حياته أغلبها هزائم واخفاقات وظلم وطغيان.