(2) هل تقتضي المساواة العدل
أخطأ على الإسلام من قال: إن الدين الإسلامي دين المساواة. بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساويين، والتفريق بين المتفرقين، ومن أراد بالمساواة العدل فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ.
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -
هل تقتضي المساواة العدل؟
قامت دعوة مناهضة التمييز بين الجنسين باعتبار أن الإخلال بالمساواة التامة بين النساء والرجال ظلم للمرأة، وكل ما يمكن اعتباره امتيازاً يناله الرجل هو بالضرورة امتهان للمرأة، وحط من قيمتها، وتمييز يجب التصدي له؛ وهذا ما لا يسلم به نظار الشريعة.
"أخطأ على الإسلام من قال: إن الدين الإسلامي دين المساواة. بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساويين، والتفريق بين المتفرقين، ومن أراد بالمساواة العدل فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ. ولهذا كان أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9]، {هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} [الرعد:16]، {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10]، {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} [النساء:95]، ولم يأت حرف واحد في القرآن يأمر بالمساواة أبداً، إنما يأمر بالعدل"[1].
فالإسلام يساوي بين المتساويين فـ"لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"[2]، ويساوي بين ما بينهما اختلاف في الجملة لكن استويا في مواضع في محل التساوي بينهما، كما سوى بين الرجل والمرأة في ثواب العمل الصالح المشترك بينهما، كقراءة القرآن مثلاً، قال الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]، وبالمقابل يفرق الإسلام بين ما بينهما شبه في الجملة واختلاف في أمور في محل الاختلاف، كالتفريق بين الذكر والأنثى في كثير من التكاليف كالجهاد والإمامة الكبرى ونحوهما.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأحكام الله الأمرية الشرعية كلها هكذا، تجدها مشتملة على التسوية بين المتماثلين وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين، وعدم تسوية أحدهما بالآخر"[3].
"وقد فطر الله سبحانه عباده على أن حكم النظير حكم نظيره، وحكم الشيء حكم مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، وعلى إنكار الجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعاً وقدراً يأبى ذلك... وشرع الله، وقدره، ووحيه، وثوابه، وعقابه كله قائم بهذا الأصل؛ وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل"[4].
وبالمقابل مهما وجدت شيئين مختلفين سَوَّت الشريعة بينهما في حكم من الأحكام وجدت المتعلق والمعتبر الذي أنيط به ذلك الحكم مستوياً في ذينك المختلفين، فيكون حكم الشريعة حينها من قبيل التسوية بين المختلفين في محل التساوي.
قال ابن القيم رحمه الله: "وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنى قام بها أوجب اختصاصها بذلك الحكم، ولا اشتركت صورتان في حكم لاشتراكهما في المعنى المقتضى لذلك الحكم، ولا يضر افتراقهما في غيره كما لا ينفع اشتراك المختلفين في معنى لا يوجب الحكم، فالاعتبار في الجمع والفرق إنما هو بالمعاني التي لأجلها شرعت تلك الأحكام وجوداً وعدماً"[5].
"وأما التسوية بينهما فى الحكم مع افتراقهما فيما يوجب الحكم ويمنعه، فهذا قياس فاسد، والشرع دائماً يبطل القياس الفاسد"[6]، فإذا نُزِّل هذا القياس الفاسد في الأحكام بين الناس كان ظلماً، وهذا مما ينزه رب العزة تبارك وتعالى عنه، قال شيخ الإسلام: "فقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35]، وقوله تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28]، وقوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} [الجاثية: 21]، إلى غير ذلك يدل على أن التسوية بين هذين المختلفين من الحكم السيء الذي ينزه عنه، وأن ذلك منكر لا يجوز نسبته إلى الله تعالى، وأن من جوز ذلك فقد جوز منكراً لا يصلح أن يضاف إلى الله تعالى؛ فإن قوله: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} استفهام إنكار، فعلم أن جعل هؤلاء مثل هؤلاء منكر لا يجوز أن يُظن بالله أنه يفعله، فلو كان هذا وضده بالنسبة إليه سواء جاز أن يفعل هذا وهذا. وقوله: {ساء ما يحكمون} [الأنعام: 136] دل على أن هذا حكم سيء والحكم السيء هو الظلم الذي لا يجوز، فعلم أن الله تعالى منزه عن هذا. ومن قال إنه يسوي بين المختلفين فقد نسب إليه الحكم السيء، وكذلك تفضيل أحد المتماثلين. بل التسوية بين المتماثلين، والتفضيل بين المختلفين هو من العدل والحكم الحسن الذي يوصف به الرب سبحانه وتعالى، والظلم وضع الشيء في غير موضعه. فإذا جعل النور كالظلمة، والمحسن كالمسيء، والمسلم كالمجرم، كان هذا ظلماً وحكماً سيئاً يقدس وينزه عنه سبحانه وتعالى"[7].
من نتائج المساواة:
في أواخر القرن التاسع عشر ظهرت حركات التحرير النسائية في أوروبا وأمريكا ولم تكتف بالمطالبة برفع الظلم الواقع على المرأة بل طالبت بالمساواة الكاملة مع الرجل والاستقلال بشأن معاشها، وبعد طول كفاح وشغب سُنت القوانين والتشريعات التي ترمي للمساواة التامة بين الرجل والمرأة، ومما ساعد على ذلك النظام الرأسمالي الذي يمجد الحرية الفردية العارية من كل شرط أو قيد.
فكانت ثمرة الكفاح والتحرير فظلم من نوع جديد!
لقد تخلصت المرأة الغربية من قبضة الحرمان لتقع في هوة الانفلات.
فكانت ثمرة الكفاح والتحرير فظلم من نوع جديد!
لقد تخلصت المرأة الغربية من قبضة الحرمان لتقع في هوة الانفلات.
وها هي اليوم إما "بنت تتقاذفها أيدي الذئاب البشرية، أو زوجة كادحة لا تكاد تأوي إلى بيتها إلا كالّة مرهقة لتشارك الرجل حتى في دفع أقساط السيارة والبيت وإلا فلا قيمة لها، أو أم يقذفها أولادها في النهاية في إحدى دور الرعاية الاجتماعية"[8].
إن الأضرار الصحية، والخلقية، والنفسية، والاجتماعية، والأسرية التي لحقت بالمجتمعات المتحررة[9] كثيرة لا يكاد يخفى أمرها على أحد، والشبكة العنكبوتية تطفح بمواقع المؤسسات الأكاديمية، ومراكز الدراسات والبحوث، والمؤسسات العدلية التي تبين حجم المشكلات التي تصبحهم وتمسيهم.
بل تطفح بمواقع المنظمات الغربية المضادة لمنظمات الحركات النسوية والتي أصبحت تعرف بـ"Antifeminism "، فقد أدرك بعض العقلاء آثار المساواة، وعلموا أن تكليف المرأة بواجبات الرجل هو الظلم العظيم الذي ينبغي أن يرفع عن المرأة.
ــــــــــــــــــــــ
[1] ابن عثيمين: شرح العقيدة الواسطية، 189، بتصرف يسير.
[2] مسند أحمد: 5/411(23536)، الألباني: السلسلة الصحيحة، 6/203 (2700).
[3] ابن القيم: إعلام الموقعين،1/195، بتصرف يسر.
[4] ابن القيم: المصدر السابق،1/196، باختصار وتصرف يسير، وينظر كذلك في هذه المعاني زاد المعاد 4/269.
[5] ابن القيم: إعلام الموقعين، 2/75.
[7] ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 5/106-107، بتصرف يسير، وينظر في نفس المعنى كلام ابن القيم في مفتاح دار السعادة 2/11-12.
[8] د. زيد بن محمد الرماني: المرأة المسلمة بين الغزو والتغريب، ص16.
[9] سواء الغربية أو العربية، والتناسب طردي بين الضنك والشقاء، والإعراض عن دين الله تعالى.
_____________________________________________
الكاتب: أسماء عبدالرازق