الخلفية الفكرية لتحديد النسل

تعد الدعوة لتحديد النسل انبعاثاً لدعوات مماثلة موغلة في القدم، تعود لما قبل الميلاد، وبرغم وجود بعض الاختلافات في المسوغات إلا إ نها تُجمع على إبقاء عدد الجنس البشري في حدودٍ معينة، وضرورة التطهير العرقي للمرضى والضعفاء، بل إن التطهير شمل أولئك الذين ينتمون لأعراق معينة، اعتبرها الملأ دونية وغير صالحة للحياة!

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية - - ثقافة ومعرفة -
الخلفية الفكرية لتحديد النسل

تعد الدعوة لتحديد النسل انبعاثاً لدعوات مماثلة موغلة في القدم، تعود لما قبل الميلاد، وبرغم وجود بعض الاختلافات في المسوغات إلا إنها تُجمع على إبقاء عدد الجنس البشري في حدودٍ معينة، وضرورة التطهير العرقي للمرضى والضعفاء، بل إن التطهير شمل أولئك الذين ينتمون لأعراق معينة، اعتبرها الملأ دونية وغير صالحة للحياة!

وفيما يلي إطلالة سريعة على أبرز تلك الدعوات:

1- أفلاطون واليوتوبيا:

جاء في كتاب «الجمهورية» لأفلاطون ما يدل على بداية الدعوة لتحديد النسل، حيث تبدأ رحلة الإعداد للمدينة الفاضلة

 بالتخلص من المواليد المرضى، والضعفاء، ولا يتم الاحتفاظ سوى بالمواليد الأصحاء الأقوياء.

وحدد أفلاطون الحجم الأمثل للسكان بـ5040 مواطناً دون عبيد، واختياره لهذا الرقم ليس عبثاً، فهو يقبل القسمة على 12، 

ورقم ١٢ له معنى ديني وأسطوري يقدسه اليونان، ثم إن الرقم 5040 يمثل عدد الوحدات السياسية التي تتشكل منها المدن اليونانية. 

ووصية أفلاطون إلى الحكام أن يكون عدد السكان في المدينة عند الحد الأمثل؛ لذا يجب أولًا: تحديد الزواج، ثم: تحديد 

النسل، ثم: منع الهجرة إلى البلاد. وفي الوقت نفسه على الحاكم أن يراقب، ففي حالة انخفاض عدد السكان يوصي بالتشجيع على الزواج والنسل.

وننتقل إلى تلميذه أرسطو، لنجده يسير على خطى أستاذه، فيرى أن وظيفة الدولة تحديد حجم السكان الأمثل، بحيث 

لا يزيدون عن مائة ألف نسمة؛ لتطبيق نظام اجتماعي، وسياسي للدولة، من خلال تحديد النسل، وإعدام الأطفال المشوهين، والإجهاض. فهو يوافق على الإجهاض؛ من أجل الحد من زيادة السكان، والتخلص من المواليد المشوهين بعد الولادة.

من جهة أخرى، يعد أرسطو من رواد المفكرين الذين اهتموا بقضية تحديد حجم السكان، مؤيداً سياسة تحديد النسل، وكذلك تحديد عدد السكان بالنسبة لأرسطو يجنب الفقر، ثم يرى كذلك أن عملية الإجهاض ضرورية؛ للحفاظ على الحد الأنسب 

من السكان، وبشكل يوازي إمكانيات وقدرات الدولة. ثم يركز على العمر المفترض الذي يقود الاتحادات الزوجية وكذلك 

تحديد سن الإنجاب ولا يوصي بالزواج المبكر؛ لأن ذلك - بحسب زعمه - يضر بالأطفال، ويضر كذلك في اعتدال الحواس.

ويشير كذلك إلى أن الزواج المبكر يؤدي إلى أمراض عصبية شديدة، حيث يقول: «الأجنة في الأرحام تتأثر بما تتأثر به الأمهات، كما تتأثر الثمرات بالتربة التي تغذيها»[1].

وكان من نتائج الدعوات إلى تقليل عدد السكان في المجتمع اليوناني انتشار الشذوذ الجنسي، وعزوف الشباب عن الزواج، 

وكان الرجل في حال زواجه يعزف عن الإنجاب، ويقتصر على ولدين كحد أقصى[2].

وفي بعض النقوش الأكدية - عزاها العلماء إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد - نصوصٌ تشير إلى أن الآلهة كانت تنزعج من 

كثرة الناس وتزايد الضجيج؛ فيأمروا بإحلال الأوبئة والأمراض، وحجبِ المطر عن الناس، وغيرِها من الوسائل التي تؤدي إلى الحد من عدد السكان[3]!

 

2- متواليات مالثوس:

ثم عادت أصداء الدعوة لتحديد النسل تتردد في القرون الوسطى، على يد القس والاقتصادي الإنجليزي توماس‌ مالثوس Thomas Maltose (1766–1834م) في نظريته التي نشرها في كتاب له بعنوان: «بحث في مبدأ السكان»، حيث اعتبر أن البشر يميلون إلى التكاثر، بسرعة تفوق ازدياد وسائل العيش، فعددهم يتضاعف كل خمسة وعشرين عاماً حسب متوالية هندسية، بينما في المقابل، يزداد الإنتاج - وعلى فرض العناية بالأرض عناية فائقة - بحسب متوالية حسابية؛ فعلى سبيل المثال، لو فرضنا أن عدد السكان الحاليين على الأرض ألف مليون، فهم سيتزايدون على الشكل التالي: 1-2-4-8-16-32  إلخ، بينما يتزايد القوت بهذا الشكل: 1-2-3-4-5-6 إلخ، وعلى ذلك فبعد 150 سنة سيكون عدد السكان بالنسبة إلى المواد الغذائية كنسبة 32/6، وهى نسبة تلوّح بإمكانية حدوث مجاعة، نتيجة عدم قدرة نسبة الإنتاج على تغطية حاجات السكان.

رأى مالثوس أن أهم مساعدة يمكن أن تقدم للفقراء هي تبصيرهم بقانون السكان، وتجدر الإشارة هنا إلى أن مالثوس كان من أشد المعارضين لقانون «إغاثة الفقراء» الذي كان يقضي بتوزيع بعض المعونات على المعوزين؛ لأنه يرى أن إغاثة الفقراء من شأنها تشجيع الفقراء على الزواج وزيادة نسلهم!

ويذهب إلى أبعد من ذلك فيقول‌: 

«إن العدد الفائض‌ من‌ جميع‌ الأطفال‌ الذين‌ ولدوا، على ما يلزم‌ لحفظ‌ عدد السكان‌ في‌ مستوي‌ مطلوب‌، ينبغي‌ ضرورةً أن‌ يفنى‌ إلا إذا فُسح‌ لهم‌ المجال‌ بموت‌ الأفراد الكبار في‌ السن... وعليه‌... فإنه‌ يجب‌ علينا، بدلاً من‌ السعي‌ الأحمق‌ غير المثمر للوقوف‌ بوجه‌ عمليات‌ الطبيعة‌ في‌ إحداث‌ هذا الموت‌ والفناء، وبدلاً من‌ أن‌ نوصي‌ الفقراء برعاية‌ النظافة‌ والطهارة‌ أن‌ نحثهم‌ على عادات معاكسة، لذلك‌ علينا أن‌ نجعل‌ الشوارع‌ في‌ مدننا أضيق‌ وأقل عرضاً، وأن‌ نضع‌ عدداً أكبر من‌ السكان‌ في‌ البيوت‌، وندع‌ الطاعون‌ يعود من‌ جديد... بل‌ إن علينا - فوق‌ هذا كله ‌- أن‌ نقف‌ في‌ وجه‌ نشاط‌ هؤلاء الأفراد الخيرين،‌ الذين‌ يرتكبون‌ خطأً فاحشاً، ويتخيلون‌ أنهم‌ يقدمون‌ خدمة‌ إلى البشرية‌ بإيجاد خطط‌ لاستئصال‌ بعض‌ الأمراض»[4].

 

3- الداروينية الاجتماعية:

كان لأفكار مالثوس أثرها الكبير على تشارلز دارون، صاحب نظرية النشوء والارتقاء، ونجد تلك الأفكار ماثلة بوضوح في كتاب «أصل الأنواع»؛ حيث يقرر دارون أن كل الكائنات الحية تتكاثر بمتتالية هندسية، وأنه برغم هذه القاعدة، فإن عدد كل نوع من الأنواع يبقى ثابتاً إلى حد ما؛ نظراً لأن هناك صراعاً على المكان والغذاء والبقاء. وأطلق دارون على هذا الصراع «الانتخاب الطبيعي»، لكنه قبل أيضاً التعبير الذي أطلقه عليه صديقه هربرت سبنسر «البقاء للأصلح»[5].

من هنا، نقل دعاة الداروينية الاجتماعية فرضية داروين - بعد أن حولوها لنظرية وحقيقة علمية - من عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان، وقرروا أن العلاقة بين الكائنات الحية في الطبيعة لا تختلف عن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية، ولا عن العلاقات بين المجتمعات والدول. وعلى هذا، تم استخدام النموذج الدارويني لا لتفسير الطبيعة (المادة وحسب) وإنما لتفسير حياة الإنسان الفرد في المجتمعات، وفي تفسير العلاقات بين الدول والمجتمعات على المستوى الدولي.

وقد وُظِّفت الداروينية الاجتماعية في تبرير التفاوت بين الطبقات داخل المجتمع الواحد، وفي الدفاع عن حق الدولة العلمانية المطلقة، وفي تبرير المشروع الإمبريالي الغربي على صعيد العالم بأسره. فالفقراء في المجتمعات الغربية، وشـعوب آسـيا وإفريقيا (والضعفاء على وجه العموم) هم الذين أثبتوا أن مقدرتهم على البقاء ليست مرتفعة، ولذا فهم يستحقون الفناء أو على الأقل الخضوع للأثرياء ولشعوب أوربا الأقوى والأصلح.

ومهما كانت آلية البقاء فلا علاقة لها بأية قيم مطلقة، مثل الأمانة أو الأخلاق أو الجمال، فالبقاء هو القيمة المحورية في المنظومة الداروينية، التي تتجاوز الخير والشر، والحزن والفرح.

والنوع الذي ينتصر يورث الخصائص التي أدت إلى انتصاره (سر بقائه) إلى بقية أعضاء النوع، بمعنى أن التفوق يصبح عنصراً وراثياً.

وهذا يعني استحالة وجود مساواة مبدئية بين الأنواع أو بين أعضاء الجنس البشري[6]!

 

4- اليوجينيا والهندسة الوراثية:

تعني اليوجينيا: تحسين النسل وراثياً، وهي كلمة مشتقة من عبارة يونانية تعني: «الفرد الطيب الحسب والنسب، النبيل العرق» ويتم هذا التحسين بانتقاء مجموعة من الأفراد، هم الأكثر صلاحية من غيرهم؛ لامتلاكهم صفات وراثية مرغوبة، وتشجيعهم على الزواج بمن كان مثلهم، وحملهم على التكاثر، ومساعدتهم على تربية 

أطفالهم، وإجراء الفحوصات الجينية للراغبين في الزواج قبل إتمامه.

يسود الاعتقاد بأن اليوجينيا قد انتهت مع هزيمة هتلر عام 1945، بعد أن جاء بفكرتها السير فرانسيس جالتون، الذي صاغ 

المصطلح عام 1883، إذ رأى أن التطور الصحيح للجنس البشري قد انحرف، حيث قادت نزعة الخير لدى الأثرياء وإنسانيتهم إلى تشجيع «غير الصالحين» على الإنجاب، الأمر الذي أفسد آلية الإنجاب الطبيعي، ومن ثم أصبح جنس البشر في حاجة 

إلى نوع من الإنجاب الصناعي، أطلق عليه اسم «اليوجينيا».

كان اليوجينيون قبل نهاية الحرب العالمية الثانية يعملون في العلن، أما بعدها فقد اضطروا للعمل في الخفاء؛ نظراً لارتباط 

مبادئهم بالنازية. فبدأوا بممارسة «اليوجينيا المستورة أو الخفية»، فجماعة منهم تؤكد أيديولوجيا تفوق الجنس الآري، 

وأخرى تعمل كي يصبح الإجهاض قانونياً في العالم بأسره، وثالثة تطور وسائل منع الحمل، ورابعة تعيد تسمية السيطرة على موارد العالم، فتطلق عليها «الحفاظ على الموارد»، وخامسة تعمل على توجيه تدريس علوم البيولوجيا؛ لتجمع في النهاية كل هذه الأجزاء المتناثرة، وتصاغ في صورة سياسية اجتماعية. وأصبحت «الجمعية الأمريكية لليوجينيا» تعرف باسم «جمعية دراسات البيولوجيا الاجتماعية». وهدفهم الرئيس هو تخفيض أعداد سلالات بذاتها وتحويلها إلى شظايا عقيمة.

ثم أخذت اليوجينيا تطرق مدخلاً جديداً، هو تحويل نمط حياة وثقافة المجتمع لسكان العالم الثالث، كي يتوافق أكثر مع  نظرة الغرب المتحررة نحو الجنس والتناسل. 

فنجد هنا فخاً للمصطلحات: فبعد اسم تحسين النسل، ظهر الاسم في 1950 باسم تنظيم الأسرة، ثم اسم الأمومة والطفولة، ثم الأمومة الآمنة، ثم الوالدية المخططة، أو الأبوة المخططة، ثم الصحة الإنجابية والجنسية، وكل هذه المسميات تعمل  بالأجندة نفسها، وللأهداف  نفسها، والتي تتمثل أولاً وأخيراً، في حد نسل الأمم غير المرغوب في تكاثرها، ولكن بطرق سلمية مقبولة ولطيفة[7].

فالعامل المشترك بين هذه الدعوات هو الأسس المتداعية التي تستند عليه، من ميثولوجيا إغريقية، وتكهنات رياضية تكفل   الزمن ببيان خطئها، وفرضيات عجز دعاتها - برغم استماتتهم - 

عن إثبات صحتها، وتفوق عرقي مزعوم، يرى وجود غيره في هذه الحياة غلطة لا بد من تصحيحها!

_________________________________________________________________-

:: مجلة البيان العدد  351 ذو القعدة  1437هـ، أغسطس  2016م.

[1] حقيقة تحديد النسل، د. حياة باأخضر: (http://www.h-baakhdar.com/ha/?p=563 ).

[2] الأساس الفكري لدعوة تحديد النسل، د. نهى قاطرجي:

http://www.aldhiaa.com/arabic/woman/trbiah/1h0ly5xn.htm ).

[3] حقيقة تحديد النسل، د.حياة باأخضر: (http://www.h-baakhdar.com/ha/?p=563).

[4] الرؤية الإسلامية لعلاقة الإنسان بالموارد وحقيقة النظرية السكانية، صبحي رمضان فرج: (http://cutt.us/7aLr2  ).

[5] النزعة العنصرية لدارون ونظريته وما نشأ عنها، د. منى زيتون: (http://cutt.us/Z05U ).

[6] الداروينية الاجتماعية، د. عبد الوهاب المسيري: (http://cutt.us/g4BSR ).

[7] تنظيم الأسرة، د. ست البنات خالد: (http://www.umatia.org/familyregular.html ).

______________________________________________
الكاتب:  . فاطمة بن محمد جامع