الفكر المقاصدي عند الإمام الشافعي
إن المتتبِّع لمباحث الفكر المقاصدي في التراث الإسلاميِّ، يجد أن مقاصد الشريعة ليستْ عِلمًا مستقلاً عن علم أصول الفقه؛ لأن ما استُخدم في مقاصد الشريعة في أغلبه يرجع أساسًا إلى علم أصول الفقه
- التصنيفات: الإسلام والعلم - - آفاق الشريعة -
إن المتتبِّع لمباحث الفكر المقاصدي في التراث الإسلاميِّ، يجد أن مقاصد الشريعة ليستْ عِلمًا مستقلاً عن علم أصول الفقه؛ لأن ما استُخدم في مقاصد الشريعة في أغلبه يرجع أساسًا إلى علم أصول الفقه، لا مِن حيثُ المصطلحاتُ، ولا القواعد، ولا المناهج، وإن كان من تجديدٍ في المصطلحات فلا يصل إلى درجة انقلاب العلم إلى غيره، وإنما هو تجديد في صلب العلم وفي بنيته.
نعم، هناك إضافات أضافَهَا أعلامُ الفكر المقاصدي، ومفاهيم أيضًا اقتبسوها من علومٍ وفنون أخرى، ووظَّفوها في علم أصول الفقه من باب مقاصد الشريعة؛ لكن هذه الألفاظ لم تبلغ درجةَ الخروج عن علم أصول الفقه وحدِّه، وأقصى ما يمكن أن يقال: إنهم طوروا بابًا من أبواب علم أصول الفقه، وهو طور كبير وعظيم جدًّا.
ولما كانت المكونة لأصول مقاصد الشارع من وضع الشريعة هي القصدَ الابتدائي، والقصد الإفهامي، والقصد التكليفي، والقصد الامتثالي التعبُّدي[1]، كانت البدايات الأولى لعلم أصول الفقه تعالج هذه الأمورَ التي تكون بنية مقاصد الشريعة وصلبها، وهي التي كانت سبب ظهور علم أصول الفقه منذ البداية؛ لأن ما كتبه الإمام الشافعي في "الرسالة" لا يخرج عن المبدأ الثاني من مبادئ مقاصد الشريعة، وهو قصد الشارع من وضع الشريعة للإفهام.
بل إن شيخ المقاصد أبا إسحاق الشاطبي عند تقريره لمسألة قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام، نقل فقراتٍ حرفيةً من كتاب "الرسالة"، وأحال عليه بالنص، فالمادة هي عينها مادة كتاب "الرسالة"[2].
قال الإمام الشاطبي في مقدمة كتاب المقاصد: "والمقاصد التي ينظر فيها قسمان: أحدهما: يرجع إلى قصْد الشارع، والآخر يرجع إلى قصد المكلف، فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضْع الشريعة ابتداء، ومن جهة قصده في وضعها للإفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلَّف تحت حكمها؛ فهذه أربعة أنواع"[3].
ثم قال في النوع الثاني: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام: "وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نَزَلَ بلسان العرب على الجملة، فطلبُ فهمِه إنما يكون من هذا الطريق خاصةً؛ لأن الله - تعالى - يقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]...
فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربيٌّ، وإنه لا عُجمةَ فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فُطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يُراد به ظاهرُه، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكلُّ ذلك يعرف من أول الكلام، أو وسطه، أو آخره، وتتكلَّم بالكلام يُنبئ أولُه عن آخره، أو آخرُه عن أوله، وتتكلَّم بالشيء يُعرف بالمعنى كما يُعرف بالإشارة، وتُسمِّي الشيءَ الواحد بأسماء كثيرة، والأشياءَ الكثيرة باسم واحد، وكلُّ هذا معروف عندها، لا ترتاب في شيء منه هي ولا مَن تعلَّق بعِلم كلامها.
فإذا كان كذلك، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يُفهم من جهة لسان العرب، كذلك لا يمكن أن يُفهم لسانُ العرب من جهة فهم لسان العجم؛ لاختلاف الأوضاع والأساليب، والذي نبَّه على هذا المأخذ فى المسألة هو الشافعي الإمام، فى "رسالته" الموضوعة فى أصول الفقه، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبُّه لذلك، وبالله التوفيق"[4].
وقال في "الاعتصام": "هذا كله معنى تقرير الشافعي - رحمه الله - في هذه التصرفات الثابتة للعرب، وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يُفهم إلا عليه، وإنما أتى الشافعي بالنوع الأغمض من طرائق العرب؛ لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلُها، وهم أهل النحو والتصريف، وأهل المعاني والبيان، وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة، وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال، فجميعه نزل به القرآن؛ ولذلك أطلق عليه عبارة "العربي"[5].
والإمام الشافعي كان يرى أن عِلم النحو أو علم اللغة العربية، لم يكن كافيًا لفهم النصوص الشرعية ومقاصدها؛ بل هناك فرق كبير بين شكل الخطاب العربي، وبين مقاصده؛ فالنحو ما يضبط في العربية شكلَ الكلام؛ هل ترفع أو تنصب أو تجر؟ فمعروف أن النحو لا يهتم بالمعاني أصلاً، فلو قلتَ: "أكل الحجرُ ولدًا"، لصحَّتْ من الناحية النحْوية؛ ولكن من حيث المعنى لا تصحُّ، فالنحوُ اهتم بالشكل، والبلاغةُ اهتمَّتْ بالجمال اللغوي، من التشبيه، والإيجاز، والاستعارة، والطباق، والجناس، ونحوها، إذًا بقي جانبٌ آخر يتعلَّق بمقاصد الخطاب لم يُضبَطْ بعدُ.
ومقاصد الخطاب لا تُدرَك إلا عند تكييف الخطاب في الواقع عند تطبيقه، وهو مراد الشارع - عندما يتعلق بالخطاب القرآني والحديثي - من الكلام، كيف ينزل هذا الأمر، ولا يستطيع أن يضبطها مَن كان ملمًّا بالنحو، ولا البلاغة، ولا أي علم من العلوم التي تُتلقَّى، سواء بالنقل، أو بضبط القواعد المستقرأة من العربية العامة، إلا من كانت له خبرة بمقاصد الخطاب العربي، وهو ما يسمَّى بقصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
وهذا القصد الشرعي يحتاج إلى أمور، منها: إتقان العربية في فصاحتها، وأصالتها، وبلاغتها، ومساقات استعمالها، ليس في نحوها فقط؛ بل كيف كانت تستعملها العرب؟ وفي أي ظروف؟ فيحتاج هذا الأمر إلى عربي أصيل فعلاً.
ولذلك لم يكن عبثًا ولا صدفة أنْ كان الإمام الشافعي، وهو المطلبي المنسوب إلى عبدالمطلب، والذي كان قد أتقن أشعار الهذليين، كما قال عنه الأصمعي صاحب اللغة: "صحَّحت أشعارَ الهذليين على شاب من قريش بمكة، يقال له: محمد بن إدريس الشافعي"[6]، ولم يكن عبثًا أن يكون هذا الرجل هو الذي يتصدَّى للكتابة والتصنيف في علم أصول الفقه، ومن حيث الفصاحة لم يكن ينقصه شيء، وكانت لغته العادية حجة في اللغة[7]، حتى وإن خالف القاعدة، فتكون لغتُه حُجة على أن تلك القاعدة ناقصة، كما قال الشيخ أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه "للرسالة"، وهذا الأمر مجمع عليه بين العلماء الأقدمين.
وكذلك كان يُطلب في ضبط المساقات نوعٌ من التمرُّس على كتاب الله - عز وجل - وعلى سنة نبيِّه - عليه الصلاة والسلام - من حيث الاستنباط، والتعامُل الفقهي مع النصوص، وهذا الأمر معلومٌ أن الإمام الشافعي قد تفرَّغ له، سواء من حيث تتلمُذُه على الإمام مالك، أو من حيث إبداعه - رحمه الله - حتى كان له مذهبه المشهور.
والسبب في تأليفه "الرسالة" هو طلب عبدالرحمن بن مهدي، وهو من فقهاء المحدثين في البصرة، فلما "كتب عبدالرحمن بن مهدي إلى الشافعي، وهو شاب، أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحُجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة؛ فوضع له كتاب "الرسالة"[8].
فواضح من هذا النص أن سبب تأليف "الرسالة" هو علاج المشكلة التي اعترضتِ ابنَ مهدي، وهي مشكلة "فهم" بالدرجة الأولى، فهم معاني الشريعة مما تعلَّق بدلالة القرآن، ومشكلة النسخ الراجعة إلى تعارُض النصوص في مقتضياتها الدلالية، ثم بالدرجة الثانية قضية الاستدلال، وحجية بعض الأدلة، كالإجماع، وخبر الواحد.
إذًا؛ جاء الطلب، كيف البيان؟ وهو مجمل السؤال الذي أرسل به ابن مهدي، وأجاب الإمام الشافعي في "الرسالة" كيف البيان، فكان كتاب "الرسالة" كله جوابًا عن: كيف البيان؟
والسؤال جاء من المحدثين، وكان أغلبهم من الموالي الذين كان عندهم مشكلة في مقاصد الاستعمال، ليس في ضبط اللغة ونحوها؛ بل مساقات الاستعمال، ولذلك أنتج الإمام الشافعي.
أما قواعد الدلالة اللغوية في أصول الفقه، فهي قواعدُ أخرى، لم تكن من اختصاص أهل النحو، فما أغنتْ قواعدُ النحاة وحدها في فهْم كلام الله - عز وجل - ولا شك أنها تساعد في ذلك، ولكن ما أغنتْ وحدها، ولا أغنت قواعد اللُّغويين، ولا قواعد المعجميين في معاجمهم، فاحتيج إذًا إلى قواعدَ أخرى من طراز آخر، وهي: "قواعد الدلالات"، فتحدث الإمام الشافعي كلامه العجيب، الذي بقي إلى الآن جديدًا يجدّ مع كل عصر، في كلمة مشهورة في "الرسالة": "فإنما خاطَبَ اللهُ بكتابه العربَ بلسانها، على ما تعرف من معانيها"[9].
استعمل عُرْف الكلام، ومعهود الاستعمال، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدلُّ على أن الإمام الشافعي - رحمه الله - كان يستقرئ طُرُق العرب في تنزيل الكلام في الواقع، ليس فقط من حيث الفهم العام، وهو ليس المقصود بمبدأ الإفهام، ولكن يتعلق بإفهام الكيفيات، فمقصود من حديث: «صلوا كما رأيتموني أصلي»[10]؛ أي: كما وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - للهيئة والكيفية التي تتعلَّق بالتحقيق الواقعي والتنزيل، وكذلك حديث: «خُذوا عني مناسككم» [11]؛ يعني: كما ترون، فهذا هو الإفهام الذي كان يتحدَّث عنه الإمام الشافعي، ويبين كيف يُفهم من النصِّ الهيئةُ، والتطبيق، والتنزيل؟
ولا يَفهم ذلك إلا مَن أدرك عُرفَ الاستعمال ومقاصدَه، وهيئاتِ التنزيل وكيفياته لدى العرب، وكان الإمام الشافعي - رحمه الله - يستقرئ ذلك، ويقعِّد لمجموع ما يستقرئ قواعدَ يرصها، فكان كتاب "الرسالة"، وكان علم أصول الفقه.
وفي حقيقة الأمر هذا هو مقاصد الشريعة، ما الفرق إذًا؟ لا فرق من حيث "ماذا"، ولا من حيث السياق، ولا من حيث القصد، ولا من حيث بيان للكيفيات[12].
تلك كانت الأصول الأولى لأصول الفقه، ومن هنا جاء كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي مستوفيًا لكل ذلك؛ لكن الناظر فيه يجد أن توزيع هذه المادة خلال مباحثه، لم يكن متساويًا؛ ذلك أن ما يقارب الثلثين منه اختصَّ بقضايا الدلالة، وما يتعلق بها، والباقي هو الذي جعل في الاستدلال، وقضايا الحجية، والاجتهاد، ونحو ذلك.
فبعد خطبة الشافعي المستفيضة للكتاب، كان الباب الأول هو باب كيف البيان؟[13] ثم (باب البيان الأول)، ثم الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، فهي خمسة أنواع[14]، وفي كل ذلك ذكر البيان الشرعي من حيث هو بلسان العرب.
وختم البيانات الخمسة بقوله: "فإنما خاطَبَ اللهُ بكتابه العربَ بلسانها، على ما تَعرفُ من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتِّساعُ لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عامًّا ظاهرًا يُراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعامًّا ظاهرًا يراد به العام ويَدخُله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعامًّا ظاهرًا يراد به الخاص، وظاهرًا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام، أو وسطه، أو آخره.
وتبتدئُ الشيءَ من كلامها يبين أولُ لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيءَ يبين آخرُ لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تُعَرِّفُهُ بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تُعَرِّفُ الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها؛ لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها، وتسمي الشيءَ الواحدَ بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة"[15].
ثم يقول بعد ذلك مباشرة، وكأنه ينتقد ظاهرةَ الجهل باللسان في عصره: "وكانت هذه الوجوه التي وصفتُ اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها - معرفةً واضحةً عندها، ومستنكرًا عند غيرها، ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءتِ السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلَّف ما جهِل وما لم تُثبِتْه معرفته: كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه -: غيرَ محمودة، والله أعلم، وكان بِخَطَئِه غيرَ معذورٍ، إذا ما نطق فيما لا يُحِيطُ علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه"[16].
ثم ذكر لها بعض الأمثلة، منها:
1- قال - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، فهذا من العام الظاهر، الذي لا خصوص فيه؛ فإن كل شيء من سماءٍ وأرض، وذي روح وشجر، وغير ذلك، فاللهُ خالِقُه، وكل دابة على الله رزقها {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [17].
2- قوله – تعالى -: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]، إنما أريد به مَن أطاق الجهاد مِن الرجال، وليس لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي: أطاق الجهاد أو لم يطقْه، ففي هذه الآية الخصوص والعموم[18].
3- قوله – تعالى -: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77]، فهذا من العام المراد به الخاص؛ لأنهما لم يستطعما جميع أهل القرية[19].
4- قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فهذا عام لم يخرج عنه أحدٌ من الناس، وقال إثر هذا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فهذا خاص؛ لأن التقوى إنما تكون على مَن عقَلها من البالغين[20].
ثم استرسل في بيان قضايا العموم والخصوص في خمسة أبواب[21]، وبعد ثلاثة أبواب من اتِّباع السنة، بحث "ابتداء الناسخ والمنسوخ"، ثم شرع في تفصيل "بابالفرائض التي أنزل الله نصًّا"، وهو في كل ذلك يفتأ يحتكم إلى اللغة، حيث رجع في الباب الأخير إلى مسألة العموم والخصوص، فعقد بابًا مطولاً ذكر فيه: "الفرض المنصوص الذي دلَّتِ السنة على أنه إنما أراد الخاص".
ثم رجع بعد ذلك إلى قضية النسخ، و"ما يعد مختلفًا وليس عندنا بمختلف"، ثم قضايا النهي وما يتعلق بها، وفصل فيها كثيرًا، ثم عقد بابًا سماه "باب العلم" أوجز جدًّا، ثم عقد "باب خبر الواحد" أطال فيه واستفاض، ثم عقد "باب الإجماع" مختصرًا جدًّا، ثم "القياس" مختصرًا، فـ"باب الاجتهاد"، و"باب الاستحسان"، و"باب الاختلاف"، ثم "أقاويل الصحابة"، و"منزلة الإجماع والقياس"، وبه ختم كتاب "الرسالة".
وهو حتى في هذه الأبواب الأخيرة دائم الاحتكام إلى اللغة، ذلك كما في قوله عند استدلاله بعدة نصوص من الكتاب والسنة، على جواز الاختلاف بين أهل العلم، قال بعدما عرض المعاني المحتملة للاختلاف: "واللسان واضح على هذه المعاني، والله أعلم"[22].
وهكذا فإن كتاب "الرسالة" مليءٌ بالقضايا اللُّغوية والدلالية الأصولية، سواء منها ما عُقد له بابٌ خاص به، وهو أغلب ما بث فيه، أو ما عُرض في سياق قضايا القياس والاجتهاد ونحوها.
وإنما حرصنا على هذا العرض المركز لمضمون كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي؛ تأكيدًا لما قررناه من أن بداية علم أصول الفقه، كانت أساسًا تعالج مشكلة "فهم" عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء من حيث الدلالة اللغوية الطبيعية، أو الدلالة (الدلالية) الأصولية التقعيدية؛ بل إن هذه إنما هي تطوُّر عن تلك، فيما يتعلق بفهم النص الشرعي خاصة، كما يتبين من نص الإمام الشافعي المذكور سلفًا، والمتعلِّق بكون خطاب الله إنما هو بلسان العرب على ما تعرف من معانيها، قال: "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها".
ومن هنا وجدنا كثيرًا من النصوص التي تؤرِّخ لهذا العلم، تؤكِّد هذا، معلِّلةً إياه بالتحوُّل الاجتماعي، الذي طرأ على العرب بإسلام العجم، وخاصةً الفرس، مما أدَّى إلى نشأة جيل فشا فيه اللحنُ، وضاعتْ منه الفصاحةُ نطقًا واستيعابًا، فأثَّر ذلك على فهم النص الشرعي؛ ولذلك كانت رسالة ابن مهدي للشافعي تَطلبُ أول ما تطلب بيانَ "معاني القرآن" كما سبق نصه، وكان ابن مهدي - وهو عالم بالحديث - ينوب عن جمهور المحدثين[23] الذين تجمَّعت لديهم الرواياتُ المتعارضة ظواهرها، فلا يستطيع غيرُ العربي الفصيح منهم تبيُّنَ المراد، خاصة وأن أغلبهم كان من غير العرب، والفصاحة تراجعتْ بسبب ما ذكر من اختلاط الأجناس، واختلاط اللغات، في المجمتع الإسلامي[24].
فكان سؤال المحدِّثين خاصة، عن حل مشكلة البيان، فبادَرَ الإمام الشافعي إلى حل المشكلة، وإنما "أوجب عليه القيامَ بهذا العمل دخولُ الدخيل في لسان العرب، وامتزاجُ اللغة بلغة الأعاجم، وضعفُ المدارك عن فهم مقاصد الشريعة بسبب ذلك... فبذلك تمكَّن مِن وضع قواعدَ تجمع بين الأحاديث التي ظاهرُها التعارض"[25].
بناء على ذلك كله؛ فإن الإمام الشافعي هو أول من نبَّه على منهج الفكر المقاصدي، بل إنه أول من وضع ضوابط لفهم مقاصد الشريعة، والتي سماها الإمام الشاطبي "بالأدوات التي بها تفهم المقاصد"[26].
ثم إن موضوع الفكر المقاصدي عند الإمام الشافعي موضوع ذو شجون، وما سُطِّر عنه هنا لا يعدو لمحات خاطفة، ونظرات سريعة، ولعل في هذا ما يفتح موضوعًا جديدًا لدراسةٍ أكثرَ شمولاً، وأعمقَ فكرًا، ويكفي أن يكون هذا البحثُ عن عالِم قريش الذي ملأ الأرض علمًا، قد أسهم في تجلية بعض جوانب العبقرية والنبوغ لإمامٍ قد حقَّق في عمره القصير للفكر الأصولي ما حقَّقه أعظم الفلاسفة، فكان بحق فيلسوف الإسلام، ورائد التأليف المنهجي فيه.
قال الإمام أحمد بن حنبل: "الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه"[27].
رحمه الله رحمة واسعة، ورزقنا التأسي به في طلب العلم والعمل به.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
[1] انظر: "الموافقات"، للإمام الشاطبي، 2/8.
[2] انظر: "الموافقات"، 2/101- 104، 5/52 - 57، و"الاعتصام"، ص 495 - 499.
[3] "الموافقات"، 2/7، 8.
[4] "الموافقات"، للشاطبي، 2/101- 104.
[5] "الاعتصام"، للشاطبي، ص 498، 499.
[6] "مناقب الشافعي"، للبيهقي، 2/44.
[7] قال ابن هشام النحوي صاحب المغازي: "كان الشافعي حجةً في اللغة"، انظر: "آداب الشافعي ومناقبه"، لابن أبي حاتم الرازي، ص 101، و"الانتقاء"، لابن عبدالبر، ص 148.
[8] "مناقب الشافعي"، للبيهقي، 1/230.
[9] "الرسالة"، ص 51، 52.
[10] رواه البخاري، رقم 6008.
[11] أخرجه مسلم 2/943، وأحمد 3/318، واللفظ لأحمد.
[12] محاضرات تعميق التخصص، للدكتور فريد الأنصاري، لطلبة وحدة الفتوى ومقاصد الشريعة والمجتمع سنة 2003، بجامعة المولى إسماعيل - مكناس، المغرب.
[13] "الرسالة"، ص 21.
[14] "الرسالة"، ص 26 - 53.
[15] "الرسالة"، ص 51، 52.
[16] "الرسالة"، ص 52، 53.
[17] انظر: "الرسالة"، ص 54، و"الاعتصام"، للشاطبي، ص 496.
[18] انظر: "الرسالة"، ص 54، و"الاعتصام"، للشاطبي، ص 496، 497.
[19] انظر: "الرسالة"، ص 55، و"الاعتصام"، للشاطبي، ص 497.
[20] انظر: "الرسالة"، ص 57، و"الاعتصام"، للشاطبي، ص 497.
[21] "الرسالة"، ص 53 - 79.
[22] "الرسالة"، ص 569.
[23] قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: "كانت أقفيتنا لأصحاب أبي حنيفة، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم"، وقال: "ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيَّنها لهم"، انظر: "تهذيب الأسماء واللغات"، للإمام النووي، ص 85.
[24] انظر: "المصطلح الأصولي عند الشاطبي"، للدكتور فريد الأنصاري، ص 125 - 132.
[25] "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي"، للعلامة الحجوي الفاسي، 1/403.
[26] "الاعتصام"، للشاطبي، 2/293.
[27] "مناقب الشافعي" للبيهقي، 2/41، و"تاريخ دمشق"، لابن عساكر، 51/350.
____________________________________________________
الكاتب: أحمد وفاق بن مختار