البراجمـــاتية - نشأتها وأثرها على سلوك المسلمين

ابتُليت الأمة الإسلامية عبر تاريخها بتيارات هدامة تسعى إلى الفتك بجسمها، وتشتيت فكرها، وإهدار كرامتها، وتمزيق هويتها، والحيلولة بينها وبين الوصول إلى أهدافها وغايتها.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - الإسلام والعلم -

ابتُليت الأمة الإسلامية عبر تاريخها بتيارات هدامة تسعى إلى الفتك بجسمها، وتشتيت فكرها، وإهدار كرامتها، وتمزيق هويتها، والحيلولة بينها وبين الوصول إلى أهدافها وغايتها. وقد تدرجت تلك التيارات في خطورتها وضلالتها، كما تدرجت وتباينت في خفائهـا وتلبيسها على أبناء هذه الأمة. ومن تلك التيارات التي بدأت تتشكل وتستشري بين أفراد هذه الأمة ومثقفيها ( التيار البراجماتي ) الذي يدعو إلى الذرائعية، وتمييع المفاهيم، وتقديس الواقعية، وتسويغ الوسائل للوصول إلى الغايات العملية.

هذا الفكر الدخيل وجد أتباعاً ومريدين، بل ودعاة ومروجين له ـ ولو لم يسمعوا به من قبل، أو يخطر لهم على بال. وهذا البحث المختصر يلقي الضوء على نشأة هذا التيار، وأسباب انتشاره، وأثره على سلوك المسلمين وتوجهاتهم الأدبية والإعلامية والاقتصادية.

ما هي البراجماتية ؟
إن البراجماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني براجما (pragme) وتعني "  العمل "  . وعرفها قاموس ويبستر العالمي (Webster) بأنها تيار فلسفي أنشأه شارلز بيرس (price) ( ووليام جيمس William James)  يدعو إلى أن حقيقة كل المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة العلمية ".

أما ديوي فقد وصف البراجماتية بأنها " فلسفة معاكسة للفلسفة القديمة التي تبدأ بالتصورات، وبقدر صدق هذه التصورات تكون النتائج، أما البراجماتية فهي تدعُ الواقع يفرض على البشر معنى الحقيقة، وليس هناك حق أو حقيقة ابتدائية تفرض نفسها على الواقع "(2).

وكما يؤكد جيمس الذي طور هذا الفكر ونظّر له في كتابه " البراجماتية "  Pragmatism ، فإن البراجماتية لا تعتقد بوجود حقيقة مثل الأشياء مستقلة عنها. فالحقيقة هي مجرد منهج للتفكير، كما أن الخير هو منهج للعمل والسلوك؛ فحقيقة اليوم قد تصبح خطأ الغد؛ فالمنطق والثوابت التي ظلت حقائق لقرون ماضية ليست حقائق مطلقه، بل ربما أمكننا أن نقول: إنها خاطئة.

بين العلمانية والعقلانية: 

يخلط من يعتبر البراجماتية مصطلحاً مرادفاً للعقلانية؛ فالبراجماتية تقرر أن الحقيقة أو التجربة أو الواقع يتغير، أما الواقع والحقيقة في نظر العقلانية فهي قائمة منذ الأزل؛ فبمقدار ما ينظر العقلانيون إلى الماضي يعتد البراجماتيون بالمستقبل وحده. أما العلمانية أو " اللادينية " بتعريفها العلمي الدقيق فقد كانت وما تزال منهجـاً فكـرياً هـداماً تسللت من خلاله أفكـار الغرب وقيمه التي حملها، وكان من أخلص دعاتها بَعْضٌ أبناء هذه الأمة وفلذات كبدها. إلا أن تيار الصحوة الإسلامية الذي اجتاح بفضل الله ورحمته بقاع الأرض تصدى لهذا الفكر الفاسد، وعرَّى دعاته، ورد كيد مروِّجيه؛ فلم يعد للعلمانية في عدد من ديار المسلمين التي نضجت فيها الصحوة ونمت وأثمرت مشاعل خير وهدى، لم يعد لها بريق أخاذ كما كانت في الماضي؛ فقد أصبحت الأصوات المنادية بأفكارها نشازاً، ودعاتها منبوذين، واستبانت للجماهير " سبيلُ المجرمين " وطرقُهم. فلم يعد مقبولاً في أكثر بلاد المسلمين أن ينعق أحد بالقول: " ما للإسلام وسلوكنا الشخصي ؟ "، " وما للإسلام وزي المرأة ؟ "، " وما للإسلام والأدب ؟ "، "وما للإسلام والاقتصاد ؟ ". لكن هذه الأصوات تجد آذانا صاغية، بل وأتباعاً ومريدين ومؤيدين حينما تنهج الفكر البراجماتي فتقول: " إنه لا بأس بوجود القنوات الفضائية العربية الماجنة طالما أنها تصرف المشاهدين المسلمين عن القنوات الكفرية المنحلة "، أو تنادي بأن التمكين في الأرض واستخلافها يسوِّغ بعض الربا إذا ما أدى إلى انتعاش موارد الأمة وقوة اقتصادها. كما أنه ليس في بعض الكفر والإلحاد بأس إذا ما أنتج الأدب إبداعاً ثقافياً مميزاً. فهذا المذهب الذرائعي البراجماتي ربما كان مطية يمتطيه أصحاب الفكر العلماني للوصول إلى مآربهم وأهدافهم في تمييع شـرائع الدين ونقض أصوله وثوابته.

والحق أن البراجماتية ـ على هذا النحو ـ تعد أكثر خطراً على سلوك المسلمين وعامتهم من العلمانية في وقتنا المعاصر. كما أن دعاتها الذين استمرؤوا هذا الفكر ودافعوا عنه، وروجوا له وحسنوه في أعين الناس، وارتضوه معتقداً ومنهجاً لسلوكهم ليسوا مجرد عُصاة، بل مبتدعة ومحدثون يسري فيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وقوله ـ عليـه الصـلاة والسلام ـ: " من أحدث فيها أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ". وهم أشد من مرتكبي المعاصي المقصرين والمعترفين بذنوبهم وآثامهم، فكما قال سفيان الثوري: " البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها " فخطرهم قد امتد إلى كثير من نواحي الحياة، ولم يقتصر على السلوك الشخصي لأبناء الأمة، بل تجاوزه إلى التغلغل إلى معاملاتهم الاقتصادية، وتوجهاتهم الأدبية، ومناهجهم السياسية، ومنطلقاتهم الإعلامية.

البراجماتية في الأدب: 
إن التزام المسلم فيما يكتب ويقول يعد مبدأ هامّاً من المبادئ المقررة في الشريعة وهو " الالتزام " الذي تدعو إليه أدبيات الدعوة، وسيرة السلف الصالح.

فحياة المسلم وأفكاره ومنطلقاته لا تسير عبثاً ولا تتشكل ارتجالاً، بل قوامها ومرجعها الثوابت الأساسية، والشرائع الربانية التي تعد الإطار العام الذي ينظم للمسلم ومنطلقاته وتوجهاته العلمية والأدبية والسياسية والاقتصادية وسائر حياته العامة. 

والناظر إلى المذاهب الأدبية المتعارضة والمتناقضة يجد أنهـا كانت نتاج أزمات وردود أفعال زمنية مَرَضِيَّة مرتبطة بالحالات والأزمان التي عايشتها. لذا فقد ظهرت تلك الأفكار ونمت تلك الاتجاهات الأدبية المريضة وما يقابلها من اتجاهات معاكسة وانبثقت من المجتمعات التي تسودها الأنانية المطلقة والحرية الفردية التي تقدس الوحدوية وتسعى إلى نقل ذلك التقديس الفردي إلى ما يصدر عن ذلك الفرد من أقوال لا ترتبط بثوابت ولا بقيم.

وقد كان للاتصال بالغرب والتتلمذ على أيديهم الأثر الكبير في تبني تلك المذاهب الأدبية المنحرفة، فبدافع الواقعية أو البراجماتية في الاستفادة من العلوم الغربية ومحاكاة الغرب والتنافس معه في طلب العلم والمعرفة أقبل الأدباء والمفكرون المسلمون على تبني تلك المناهج الأدبية المنحرفة، وسايروا توجهاتهم الفكرية والأدبية، ونقلوها على علاتها وأسقامها، فظهر المتبنون للمناهج الأدبية التي منها تلك المناهج التي تجعل كاتب النص أو مستقبله يترفع عن المبادئ والقيم التي تحكم المجتمع، فيقرأ المستقبل للنص، وهو يشارك القائل الحرية في معناها الإنساني دون أن يكون للنص علاقة بصاحبه أو بمظاهر الحياة أو قيمها التي تسود في ذلك الزمن الذي صدر فيه النص. كما ظهر أولئك المسايرون للمذاهب الحداثية في دراسة النصوص، فاعتنوا بالشكل دون المضمون، وأصبحت دراسة النص لديهم تنْحو المنحى التحليلي المعتمد على الدلالات والرموز والطلاسم والإشارات المتحررة من جميع النـزعات الدينية أو السياسية أو المذهبية، وتخلَّوْا عن مصطلحات النقد العربي إلى المصطلحات الغربية ليضفوا على توجهاتِهم الشرعيةَ والعلميةَ فتحوَّل المجاز في اللغة إلى " انحراف " ودلالات الألفاظ إلى " سيميوتيكا "، والإشارات الموحية إلى " سوسيولوجيا "، وقواعد اللغة إلى زوايا وخطوط وتقاطعات وتداخلات هندسية، وحلت هذه المصطلحات محل مصطلحات النقد الأدبي الموروث؛ ليختلط بذاك المعنى مع التركيب مع الدلالة ولتصبح إبداعاً وابتكاراً وتجديداً يختلط فيه الصحيح مع السقيم والحق مع الباطل، والخير مع الشر دونما رابط أو محدد أو إطار ينظم ذلك الإبداع ويقوِّمه.

البراجماتية في الإعلام:  

خلافاً للأدب الذي كانت بداياته وأصوله الإسلامية حسنة منذ زمن طويل، فإن ولادة الإعلام في كثير من بلاد المسلمين كانت على يد المستعمر الأجنبي الذي أنشأ تلك الوسائل الإعلامية التي من أهدافها أن تديم وتبقي استعماره، وترسخ سيطرته وسطوته؛ ولذلك فقد كانت منطلقات الإعلام وأهدافه لا تمت بصلة لخدمة قضايا الأمة، ولا ترتبط بتراثها الأصيل؛ فالإذاعة على سبيل المثال بدأت في بلادنا العربية كمحطات أهلية صغيرة متفرقة في مصر هدفها خدمة الاستعمار، فلما تحولت إلى مؤسسات حكومية ظلت تقلد الغرب وتعتمد على الترجمة والاقتباس والنقل الأعمى لما تبثه إذاعات الغرب ووسائله، وهكذا كان الحال في معظم البلاد العربية والإسلامية، وما يسري على الإذاعة يسري كذلك على التلفاز والمسرح والسينما التي تنافست في تشتيت هوية الأمة، وإهدار فكرها، وتمزيق وحدتها، وإفساد أخلاقها.

وعلى هذا فقد بُني أغلب إعلامنا لخدمة الغرب ومبادئه، وغلب عليه الانفصام بين الدين والدنيا، والبعد عن الأصالة، والإيغال في التقليد الأعمى، ولم تكن الحركات الإصلاحية الرسمية ذات أثر فعال سوى فيما يحقق أهدافها ومآربها من توجهات إعلامية ترضيها، وتعمل على تقديسها وإضفاء الشرعية المطلقة لأحكامها وأوامرها.

ولما هيأ الله لهذه الأمة صحوة مباركة أيقظت أبناءها من السبات العميق، والغفلة الغارقة، أدرك المصلحون الحاجة إلى صياغة أخرى للإعلام الإسلامي وخدمة قضايا الأمة وأهدافها السامية؛ حينها ظهرت المحاولات الجادة " لأسلمة " الإعلام، وجعله أداة داعية إلى الخير العام للإنسانية، ومعيناً على عمارة الأرض والاستخلاف فيها، ومحققاً للعبودية الخالصة لله ـ عز وجل ـ كما قال - تعالى -: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [الأنعام: 162]، وظهر في الساحة الإسلامية أولئك المتبنون والمتحمسون لتقديم إعلام إسلامي رزين، يكون بديلاً لتلك المعاول الهدامة والوسائل المفسدة، ولكنها لم تكن سوى بدايات متواضعة واجتهادات بسيطة أمام ذلك الفساد الجارف، ونشأ بين هؤلاء وأولئك البراجماتيون الذين خلطوا السم بالدسم؛ ليقدموا إعلاماً هجيناً مشوَّهاً يختلط فيه الحق بالباطل والخير بالشر؛ فظهرت تلك الصحف والمجلات والقنوات الفضائية، التي جعلت الترويج والترفيه هدفاً أساساً وغاية كبرى للإعلام الإسلامي البديل فخلطت المفاهيم، ومُيِّعت القضايا باسم الإسلام ونصرته ونشر مبادئه السمحة؛ فليس هناك غضاضة لدى القائمين عليها من أن تعرض تلك القنوات أفلاماً عربية ساقطة ومفسدة للأخلاق بحجة أنها البديل الأفضل والأهون ضرراً على المشاهد العربي المسلم من تلك الأفلام الأجنبية الغربية الخليعة. كما أنه لا بأس في عصر الحضارة والتقدم أن تنبري بعض الماجنات والمتغربات مظهراً ومخبراً لتقديم الفتاوى الإسلامية، ومناقشة القضايا الدينية والاجتماعية في حياة أبناء وبنات هذه الأمة.

فكان هذا التوجه البراجماتي الخطير نذير شؤم على تصحيح مسار الإعلام الإسلامي النبيل، فدعاته هم أولئك الذين يملكون السبل المادية، والإمكانات البشرية التي يحلو لها الرقص على ما يثير نزواتها وشهواتها.

البراجماتية في الاقتصاد: 
يقول الدكتور محمد عزيز سالم: " إن البراجماتية تعبير صادق عن الفلسفة الأمريكية "، فهي تدعو إلى " العملية " وتتخذ من " العمل " مقياساً للحقيقة، لتوافق بذلك ما يدعو له النظام الرأسمالي الذي يربط بين الحقيقة من جهة، والذاتية والنفعية من جهة أخرى. 

وأصبحت البراجماتية منذ ذلك الحين المبدأ الإداري والاقتصادي الحكيم الذي يتعامل مع الواقع وما يحيط به من ظروف متغيرة بصورة عملية تحقق الأهداف القائمة على مبدأ المنافسة الحرة بكفاءة واقتدار. وأصبح المصطلح البراجماتي مفهوماً مرتبطاً بالإدارة والاقتصاد وتسلل هذا المفهوم إلى مبادئ الاقتصاديين والإداريين المسلمين وسلوكيات التجار وأصحاب الأموال والاستثمارات، فتساهل الممارسون للأعمال التجارية في استخدام جميع الوسائل ـ بغض النظر عن شرعيتها ـ للوصول إلى ما يعتقدونه هدفاً سامياً، وغاية حسنة تسوغ الوسائل كلها، فظهر من ينادي بحِلِّ بعض أنواع الربا حتى تتمكن البنوك الإسلامية من مقارعة مثيلاتها الغربية الكافرة ومنافستها، واستحلال اليانصيب لجمع الأموال وإنفاقها في وجوه الخير، كما ظهر من لا يرى غضاضة في استخدام الأساليب الإعلامية والإعلانية الشهوانية، تقليداً للغرب؛ وذلك بحجة جذب المستهلكين إلى الصناعات المسلمة، وصرفها عن صناعات أعدائها؛ فأصبح من المضحك المبكي أن ترى من لا يجد بأساً في ظهور الفتيات الفاتنات يعرضن إعلاناً لأحد المنتجات العربية، ما دمن متحجبات الحجاب العصري الجديد. كما ظهرت في بلادنا العربية تلك الاستثمارات السياحية المشبوهة والاحتفالات المختلطة التي يسوِّغ دعمها صرف الشباب المسلم عن الوقوع فريسة السياحة الغربية الكافرة. والأمثلة كثيرة على تلك الاستثمارات التجارية المتنامية في بلاد المسلمين التي تقوم على أسس براجماتية وذرائعية.

أسباب انتشار البراجماتية: 
إن أسباب انتشار الفكر البراجماتي كثيرة ومتعددة، كما أن العوامل التي ساهمت في نموه وقبول فئة من الناس له مختلفة ومتداخلة.


وإجمالاً للقول: فإن من تلك الأسباب الكثيرة التي يحسن إلقاء الضـوء عليها:
أولاً: قلة العلم الشرعي.
ثانياً: اتباع الهوى.
ثالثاً: اتساع الفجوة بين العلماء والمفكرين.
رابعاً: التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أولاً: قلة العلم الشرعي: 
لعل من أبرز عوامل بروز هذه الظاهرة هو: قلة العلم والعلماء المختصين بالعلم الشرعي، وندرتهم لسد حاجة الأمة؛ فقد أتى على المسلمين زمن ضعفت فيه همم الشباب عن طلب العلم الشرعي، والتخصص فيه ومتابعة علومه، واكتفى كثير منهم بالعلم السطحي المادي مسايرة للتقدم الحضاري الغربي، فظهرت الفجوة الكبيرة والنقص الواضح في المرجعية والتخصص العلمي، وظهرت طبقة جديدة من المثقفين وجيل جديد من المختصين الحاملين للشهادات العلمية البراقة والأسماء العلمية اللامعة التي لا تحمل في جعبتها من العلم الشامل إلا القليل؛ فانتشرت بذلك " الجهالة المقنعة"، وترأَّس أولئك المثقفون والمفكرون المعاهد والأقسام، وتصدروا مجالس الفتوى ومنابر الفكر، ونعتهم الإعلام بالمفكرين المثقفين؛ فصاروا مرجعاً للعلم والإفتاء، فخلطوا الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، فصدق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيهم:
 «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»، فلا غرو والحالة هذه أن نرى في وسائل الإعلام من يتخبط بالقول منكراً أن يكون للمسلمين علاقة دينية بالمقدسات الفلسطينية، أو أن نسمع فتاوى تروِّج لها وسائل الإعلام المكتوبة تبيح ربا البنوك اليوم بحجة أنه ليس من " الربا القرآني المحرم "، أو أن يخرج علينا فقيه عصري يحل أموال اليانصيب والمشاركة فيها تفويتاً لاستغلالها من قِبَلِ الكفار.

وكان من أولئك المفكرين من أعمل العقل في كل شيء، وجعل النقل تابعاً لاستنباطات العقل ومداركه وما يراه عملياً في عصره وبيئته، فقدموا عقولهم المحدودة على النقل، وحكَّموها في قبول النصوص الصحيحة الصريحة وردها، وظهرت المدرسة العقلية من جديد ولكنها عبر الذرائعية، لتكثر المناقشات والمجادلات والمواقف العلمية الشاذة، والشبهات العقلية المنحرفة، والتأملات الفكرية المنكرة. ومن ذلك ما ذكر عن أحد المفكرين الذي ملأت سمعته الأصقاع أنه عندما خرج إلى رمي الجمار في منى فشاهد زحام الناس الشديد عليها وقف قريباً من خيمته وقال لمن معه: إن الله لم يكلف نفساً إلا وسعها، وإن الغاية من الرمي تجسيد عداوة الإنسان للشيطان، فتعالوا نرمي هنا، فرمى حصى الجمرات بجوار خيمته !. أو تسمع عن ذلك الإمام الإسلامي الكبير الذي أجاز لأتباعه في أمريكا الشمالية أن يؤدوا صلاة الجمعة يوم الأحد بدلاً من يوم الجمعة، وذلك كي يتمكن المسلمون من الحضور واستماع الخطبة؛ نظراً لارتباطهم بأعمالهم يوم الجمعة ‍!

ثانياً: اتباع الهوى:
يقول المولى - عـز وجـل -:
{واتـل عليهـم نبـأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف: 175، 176].

يقول سيد قطب - رحمه الله - في الظلال: " والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وزمان، وفي كل بيئة.. حتى إنه لتمر فترات كثيرة، وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مَثَلُه؛ فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله، ممن لا ينسلخون مـن آيات الله، ولا يخلـدون إلى الأرض، ولا يتبعون الهوى، ولا يستزلهم الشيطان.. ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً، ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر. ورأينا من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس، ويخلع على هذا الوحـل رداء الدين وشـاراته وعناوينه ".

وما ظهر الاتجاه الذرائعي في الفتوى والأحكام والمعاملات إلا من بعد أن ركن هؤلاء الدعاة إلى ما تميل إليه نفوسهم، وترغبه وتهواه من أمور تسوِّغ لهم تصرفاتهم، وتحقق لهم مصالحهم، وتزكي لهم أعمالهم. وكانت مجالستهم واختلاطهم بالنفعيين المتزلفين وأصحاب الأهواء فتيلاً أجج نار الهوى لديهم؛ فاعتدُّوا بآرائهم واستحسنوها ووجدوا من أتباعهم من تروق له هذه الأفكار والأحكام والاتجاهات ومن باركوها وتتلمذوا عليها. وظهر من ينادي بأن " الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان " ويحتج بأن العلماء غيَّروا فتاواهم عندما تغيرت أماكنهم وأزمانهم، كما كان من الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ عندما ذهب إلى مصر فصار يفتي بغير ما كان يفتي به في الشام حتى صار له مذهبان: أحدهما قديم، والآخر جديد. وهكذا حتى وجدوا تخريجاً لكل ما تهوى أنفسهم من أفعال وأقوال.

ومن أكبر تبعات اتباع الهوى إضلال الآخرين وإبعادهم عن الطريق الحق؛ فالهوى لا يقتصر خطره على صاحبه، بل كثيراً ما يتعداه إلى غيره من الناس؛ فقد قال المولى - عز وجل -: {وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم} [الأنعام: 119] فعامة الجماهير لا تفرق بين الحق وقائله، فتعرف الحق بالرجال؛ فإن صدر ممن اشتهر بين العامة بالعلم أخذوا منه كل ما قال، وإن اشتهر بعمل الخير سوَّغوا له كل ما عمل، وقلدوه في كل أمر، وهكذا حتى انتشر المذهب الذرائعي البراجماتي بين الناس بزلات أهل العلم والاختصاص واتباعهم لأهوائهم.

ثالثاً: اتساع الفجوة بين العلماء والمفكرين: 
لقد استيقظت الأمة الإسلامية من غفلتها وسباتها وقد سبقها الغرب إلى ركب الحضارة والتقدم والمعرفة، فلم يكن لأبنائها بد من السعي الحثيث لاقتفاء أثر المعرفة الدينية والدنيوية في معاقل الغرب ومعاهدهم، فنشأ جيل من المفكرين والمثقفين الذين تتلمذوا وتعلموا على أيدي الغرب ومناهجهم، وكان منهم من يستهجن آراء بعض العلماء وفتاويهم وتصريحاتهم ومحاضراتهم ويكثر من العبارات المنتقصة لوعيهم وإحاطتهم بالواقع المعاصر، وظهرت المصطلحات الساخرة " كدعاة الجمود " و" التحجر الفكري " و " غلق باب الاجتهاد ". 

وفي المقابل فقد كان لانغلاق العلماء الشرعيين في حدود بيئتهم الضيقة سبب في اتساع هذه الفجوة؛ فقد ترفع بعض هؤلاء العلماء عن مخالطة المفكرين والرد عليهم والاطلاع على آرائهم وكتبهم، واكتفى بعضهم بالحكم على بعض أقوال المفكرين أحكاماً عامة لا تَشْفِي غليل الأجيال الناشئة التي كانت الضحية الأولى لهذه الفجوة.  ففي حين ظهر تيار شعبي رافض لجميع وسائل الحوار والرد والتصدي لمثل هذه الأفكار ومناقشتها بحجة الحكم مسبقاً على أصحابها بالضلالة، ظهر تيار آخر من تلك الأجيال الناشئة راقت له هذه الآراء وتبناها وعمل بها ودعا إليها، دون تمحيص أو تقييم؛ فزاد هذا التقسيمُ الفجوةَ اتساعاً يصعب الآن ترقيعه.

رابعاً: التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة التي بعث الله بها الرسل أجمعين. وبإقامته كما أمر الله - سبحانه وتعالى - استحقت هذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس؛ حيث قال المولى - عز وجل -: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]؛ وإن من أشق ما تواجه الأمة اليوم هو الغبش والغموض في مدلول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعناه الشامل الذي يقتضي " استبانة سبيل المجرمين" وإظهار الحق ومناصرته، ودحض الباطل وتعريته.

وقد كان لاختلاط المسلمين بالمجتمعات الغربية أثر واضح في تمييع المفاهيم الإسلامية والتساهل في بعض الأحكام، بل وردها أحياناً مجاراةً لتحقيق التعايش وتبادل المصالح وتقارب الأفكار. فلم يعد مستغرباً أن نستمع الآن إلى خطيب يستنكر على أصحاب العقول المتحجرة أنهم يصرحون بدخول النصارى النار، محتجاً بأن القرآن امتدحهم وأن بعضهم قدّم للإنسانية أجمع أعمالاً جليلة في حين يرتكب بعض المسلمين جرماً وآثاماً تعجز عن حملها الجبال ولا يحكم عليه بدخول النار ! كما أنه لم يعد مستغرباً اعتراض بعض الكتاب على الحجاب الإسلامي، واعتباره مسألة هامشية ينبغي ألا تعيق المرأة من مشاركتها في تنمية المجتمع والمساهمة في بنائه أسوة بمثيلاتها في الغرب. ومن ذلك أيضاً احتجاج بعضهم بالقاعدة الدعوية المعروفة " نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه "، فوسعوا هذه القاعدة حتى شملت إعذار من لا يشك في كفره وضلاله، واختلط الأمر على بعض المسلمين الذين عاشوا بين ظهراني الغرب، واعتادوا على التعاون معهم، فاختلط عليهم معنى التعاون والمودة والإعذار؛ فالتعاون مع الكفار لرد الشر والباطل بشتى أنواعه وطرقه أمر مجاله فسيح وبابه واسع؛ لكن مودتهم ومحبتهم لا تحل لمسلم لقول المولى ـ عز وجل ـ:  {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 22] فالإنكار عليهم واجب، وإعذارهم لا ينبغي؛ فمحل الإعذار بين أهل السنة من المسلمين وليس مكانه بينهم وبين غيرهم.

وأخيراً فإن البراجماتية ستبقى مستشرية في جسد هذه الأمة، ناخرة في عقول أبنائها إن لم يتصدَّ العالمون بحقيقتها وسبيلها بواجبهم في الإنكار على مروِّجيها وسالكي سبلها، وبيان خطرها على تراث الأمة ودينها؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» وفي رواية أخرى لمسلم: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» وإذا كان هذا الخطاب للمسلمين عامة فإنه على العلماء العارفين أوجب. فالأحرى بمن ملك العلم منهم أن يخرج من العزلة المعنوية والمحلية الضيقة إلى العالمية الفسيحة والمعايشة الدائمة لمشكلات العالم الإسلامي المعاصرة، وأن يتخذ من الأساليب الحديثة طرقاً للحوار والاتصال بالمفكرين ووسائل الإعلام.

كما أنه من الواجب على أصحاب الفكر والمثقفين الرجوع إلى فتاوى وآراء أهل العلم الشرعي، والاستماع لهم، ومناقشتهم، وسد النقص الذي لديهم، فإن حسن نواياهم وسلامة مآربهم وإخلاص أعمالهم لا تشفع لهم أخطاءهم واجتهاداتهم الفكرية الشاذة. والله أعلم.