(4) من همم الكبار
فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ ♦♦♦ إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرَامِ فَلاحُ
- التصنيفات: أخلاق إسلامية -
مضى معنا - في الحلقة الماضية - حديث حول علوِّ الهمة، وعظيم فائدته في بلوغ أشرف الأمور، وعدم الرضا بخسيسها وسفسافها، ونودُّ اليوم أن نعرفَ - إن شاء الله - بعض النماذج من هِمَم الكبار، الذين مضوا، فتركوا بصماتهم في جبين التاريخ، تكتب بسيرهم الملاحم، ويستضيء بهممهم الراغبون في الفوز بخيري الدنيا والآخرة.
وسوف ترى من خلال قصصهم العجيبة أنك أمام قوم لا نكاد نمتُّ إليهم بصلة، إلا بأسمائنا، وأنسابنا، وبعض عاداتنا؛ ولكنَّها سنَّة الله في خَلْقه، أن جعل منهم رجالاً مؤهَّلين لِحَمْل لواء دعوته، والدِّفاع عنها بالغالي والنفيس؛ يُصَدِّقُ ذلك قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله - عز وجل» (متفق عليه).
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبُ أعلى همة في الوجود، يقول عنه عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أَثَّرَ في جنْبِه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء، فقال: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدُّنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة، ثم راح وتركها» [1]، نعم، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عَلَّم صحابته كيف تُهْتبل الأوقات، وتُستغلُّ الخلوات، فكان هو وصحابته أَمَنَةً لنا وأمنا.
فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ ♦♦♦ إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرَامِ فَلاحُ
يمتحن النبي صلى الله عليه وسلم الصحابةَ الكرام؛ ليعرف أعلاهم همة، فيسألهم قائلاً: «مَن أصبح منكم اليوم صائمًا»؟، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا، قال: «فمَن تبع منكم اليوم جنازة»؟، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا، قال: «فمَن أطعم منكم اليوم مسكينًا»؟، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا، قال: «فمَن عاد منكم اليوم مريضًا» ؟، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» [2]؛ ولذلك صدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذًا خليلاً، لاتَّخَذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي» (متفق عليه).
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ♦♦♦ تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ
وهذا أبو هريرة، كان رجلاً فقيرًا مُعدَمًا، وظيفته خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وأجرته أن يملأ بطنه، قال: "كنتُ امرأ مسكينًا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مِلْءِ بطني"؛ متفق عليه، وكان يقول: "آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنتُ لأشد الحَجَر على بطني من الجوع"؛ البخاري، ويقول الناس: مجنون، وما بي إلا الجوع، كان باستطاعته أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ الله له أن يُعطَى شيئًا منَ الدنيا، ولكن سؤاله كان قوله: "يا رسول الله، إنِّي سمعتُ منك حديثًا كثيرًا فأنساه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ابسط رداءك»، فبسطتُه، فغرف بيديه فيه ثم قال: «ضُمَّه»، فضممتُه، فما نسيتُ حديثًا بعدُ"؛ البخاري.
ولذلك استحق أن يكون أروى الصحابة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه الإمام الشافعي: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره"، وقال عنه البخاري: "روى عن أبي هريرة نحو ثمانمائة أو أكثر من الصحابة والتابعين وأهل العلم".
لهذا كان أبو هريرة سبَّاقًا إلى السؤال عن مصيره في الآخرة، فقال: يا رسول الله، مَن أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننت - يا أبا هريرة - ألا يسألني عن هذا الحديثَ أحدٌ أَوَّلُ منك، لما رأيتُ من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه».
وكان من طلباته أن يشرحَ اللهُ صدر أمِّه للإسلام، قال أبو هريرة: "كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد أم أبي هريرة»، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف (مغلق)، فسمعتْ أمي خشف قدمي (صوتهما على الأرض)، فقالت: مكانَك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة الماء، قال: فاغتسلتْ، ولبستْ درعها (قميصها)، وعَجِلت عن خمارها، ففتحتِ الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا، قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يُحَبِّبَني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويُحَبِّبَهُم إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين»، قال: فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني"؛ مسلم.
أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ ♦♦♦ إِذَا جَمَّعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ
ومثله ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه الذي قال: "كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي: «سل»، فقلت: أسالك مرافقتك في الجنة، قال: «أوغير ذلك»؟، قلت: هو ذاك، قال: «فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود» [3].
هل تصدق أن داود بن أبى هند صام أربعين سنة، لا يعلم به أهله، ولا أحد من الناس؟ كان خبازًا، فيحمل معه طعامه من عند أهله، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًّا، فيفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق.
قال عمر بن عبدالعزيز: "إن لي نفسًا توَّاقة، وما حققت شيئًا إلاَّ تاقت نفسي لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزواج من بنت عمي فاطمة، فتزوجت، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة، فوليتها، ثم تاقت نفسي إلى الخلافة، فنلتها، والآن: تاقت نفسي إلى الجنة، فأرجو أن أكون من أهلها".
عن القاسم بن محمد قال: "كنا نسافر مع ابن المبارك، فكثيرًا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟ إن كان يصلي إنا لنصلي، وإن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنَّا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج، قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام، فتعشى ليلة في بيت، إذ طفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج، وأخذ يستطلع، فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك، ولحيتُه قد ابتلَّت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج وصار إلى ظلمة، ذَكَر القيامة".
هذا عن الرجال، فماذا عن النساء؟
هكذا يكون التنافس في الخيرات، والتسابُق إلى أعلى الدرجات، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "يرحم الله أبا بكر، ما سبقته إلى خير قط إلا سبقني إليه"، ويقول أبو مسلم الخولاني: "أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا، والله لننافسنَّهم فيه".
اصْحَبْ خِيَارَ النَّاسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ *** خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا
وَالنَّاسُ مِثْلُ دَرَاهِمٍ مَيَّــــزْتَهَـــــــا *** فَوَجَدْتَ مِنْهَا فِضَّةً وَزُيُوفَـــــا
أما همم الصغار، فكانتْ كهمم الكبار؛ لأن المدرسة واحدة، والمشارب واحدة؛ فعن سهل بن سعد الساعدي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام (هو عبدالله بن عباس)، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء»؟ فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحدًا، قال: فتله (وضعه) رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده"؛ متفق عليه.
وفي امتحان آخر للصحابة الكرام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ منَ الشَّجَر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدِّثوني: ما هي»؟، فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبدالله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة»، قال عبدالله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتَها، أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا؛ متفق عليه.
هذه هِمَم السَّلف، رجالِهم ونسائِهم وأطفالِهم، أما نحن، فهمم كثير منا تكاد لا تعدو حطام الدنيا، إن أنفقنا فبتقتير، وإن أعطينا فبمَنٍّ وتقصير، وإن استُنصرنا فجبن وتأخير، وإن تكلمنا فعويل وزفير، مشغول بعضنا ببعض إلا من رحم الله، فمَن منَّا اتَّصَل بهاتفه المحمول جهة غزة ليواسي أحد أفرادها؟ وهذه قنوات مالية لمناصرة المنكوبين في فلسطين، فمَن بعث بشيء من ماله أو زكاته؟ وهذه قوافل الأدوية تشق طريقها إلى غزة المحاصرة، فمن تحركت أريحيته؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويُرَدُّ على أقصاهم» [4].
امرأة أردنية على فراش الموت، أوصتْ أبناءها بتقديم مصاغها الذهبي لسكان غزة، والتبرع أيضًا بنفقات عزائها دعمًا لهم ولصمودهم، إن الأقصى يجأر بصوته مناديًا:
ظَفِرَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ يَوْمَ وَدَاعِكُمْ *** فَدِمَاؤُنَا فَوْقَ الدِّمَاءِ تُـرَاقُ
هُتِكَ السِّتَارُ وَقُطِّعَتْ أَوْصَالُنَــا *** وَنِسَاؤُنَا نَحْوَ الهَوَانِ تُسَاقُ
أَوَهَكَذَا يَنْسَى الحَبِيبُ حَبِيبَــهُ *** بِحُطَامِ دُنْيَا مَا لَهَا مَيثَــاقُ
[1] ص. ابن ماجه.
[2] رواه مسلم.
[3] مسلم.
[4] ص. ابن ماجه.
وعن عبد الله ابن أخت مسلم بن سعد أنه قال: "أردت الحج، فدفع إلي خالي مسلم عشرة آلاف درهم، وقال لي: إذا قدمت المدينة، فانظر أفقر أهل بيت بالمدينة فأعطهم إياها، فلما دخلت، سألت عن أفقر أهل بيت بالمدينة، فدللت على أهل بيت، فطرقت الباب، فأجابتني امرأة: من أنت؟ فقلت: أنا رجل من أهل بغداد، أُودِعتُ عشرة آلاف درهم، وأمرت أن أسلمها إلى أفقر أهل بيت بالمدينة، وقد وصفوكم لي فخذوها، فقالت: يا عبد الله، إن صاحبك اشترط أفقر أهل بيت، وهؤلاء الذين بإزائنا أفقر منا، فتركتهم وأتيت إلى أولئك، فطرقت الباب، فأجابتني امرأة، فقلت لها: مثل الذي قلت لتلك المرأة، فقالت: يا عبد الله، نحن وجيراننا في الفقر سواء، فاقسمها بيننا وبينهم"، وصدق الله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9].