التعجب
محمد بن إبراهيم الحمد
" والتعجب: انفعال يحدث في النفس؛ جراء الشعورِ بأمر يخفى سببه، أو رؤيةٍ، أو سماعٍ لشيء خارج عن نظائره؛ فينتج عنه إظهار لذلك الانفعال، وهو ما يعرف بالعجب، أو التعجب "
- التصنيفات: محاسن الأخلاق -
التعجب مصدر الفعل تعجَّب يتعجَّب تَعَجُّباً. والتعجب: انفعال يحدث في النفس؛ جراء الشعورِ بأمر يخفى سببه، أو رؤيةٍ، أو سماعٍ لشيء خارج عن نظائره؛ فينتج عنه إظهار لذلك الانفعال، وهو ما يعرف بالعجب، أو التعجب.
وقد يكون باعث التعجب خوفاً، أو فرحاً، أو دهشةً، أو استغراباً، أو إنكاراً، أو طرباً، أو اهتزازاً لمكرمة، أو استبعاداً لحدوث أمرٍ ما، أو نحو ذلك.
وللتعجب في اللغة العربية أسلوبان: أحدهما: سماعي، وهو ما لا ضابط له؛ فلا تَحْكُمه قاعدة معينة، ولا وزن يقاس عليه.
بل يُوكَلُ ذلك إلى مراد المتكلم، وما أوتي من بلاغة، وفصاحة، ويُفهم من قرائن تدل عليه، كقول: سبحان الله، أو ما شاء الله، أو تبارك الله، أو يا له من كذا، أو عجب، أو عجيب، أو لله أنت، أو لله أبوك، أو لله دَرُّك.
بل قد يكون من خلال إشارة، أو إطراقة، أو وقوفٍ، أو تحريك رأسٍ تصعيداً أو تصويباً، إلى غير ذلك مما يُظْهِرُ التعجب.
والأسلوب الآخر وهو القياسي، وله صيغتان معروفتان عند النحاة إحداهما: ما أفْعَلَه، ومن أمثلتها: ما أجمله، وما أروعه، ونحو ذلك.
والأخرى: أفْعِلْ بِهِ، ومن أمثلتها: أكرم بفلان، وأنعم به، وما جرى مجرى ذلك.
ولهاتين الصيغتين شروط، وأحكام تُعرف تفصيلاً في مواضعها من كتب النحو، والصرف، والبلاغة.
وليس هذا موضع الكلام حولها، وإنما مرماه ههنا دائر حول إظهار التعجب، وعدم إظهاره؛ ذلك أن من جميل الأدب، ومن علامات الذوق، وأمارات حسن الفهم - أن يُظْهِر الإنسان التعجب إذا رأى ما يُتَعَجَّب منه حقًّا، سواء كان ذلك شعراً، أو نثراً، أو خبراً، أو فائدة علمية، أو موقف مروءة وشهامة.
أو كان بخلاف ذلك مما يثير الاستغراب، أو الفرح، أو الخوف، أو الدهشة؛ فمن المستحسن في مثل تلك الأحوال أن يظهر الإنسان التعجب، فيعبر عنه بما يلائم المقام.
وإظهار التعجب دليلُ فهم، وذوق، وكرم، ولطف.
وهو باعث على المكارم، ومُغْرٍ بالترقي في مدارج الكمالاتِ، وناشر للبهجة والسرور في المجالس.
ولقد عني القرآن الكريم بالتعجب، في أساليبَ شتى؛ وآياتُ الكتابِ العزيز حافلة بذلك؛ فتارة يأتي التعجب في إحدى صيغتيه القياسيتين كما في قوله -تعالى- : {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} البقرة: 175، وقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} الكهف: 26.
وتارة يأتي بالتعجب عبر أسلوب النداء كما في قوله -تعالى- : {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} يوسف:19، وقوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} يس:30.
وتارة يأتي التعجب في أسلوب الاستفهام بسائر أدواته كالهمزة، كما في قوله -تعالى-: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً } هود:72 .
وباستعمال (أي) كما في قوله -تعالى-: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} عبس: 15.
أو باستعمال (ما) كما في قوله - تعالى-: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} الحاقة: 1-2، وقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ } الواقعة: 27.
وقد يكون التعبير عن التعجب عبر استعمال مادة (عجب) بمختلف تصاريفها، وذلك كثير في القرآن، كما في قوله -تعالى- مخبراً عن الجن لما استمعوا القرآن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} الجن: 1، وكما في قوله -تعالى-: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الأعراف:63، وقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} يونس:2، وقوله: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} هود: 73، وقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} الرعد: 5، وقوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} الصافات: 12، وقوله: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} ق: 2.
وباستخدام إحدى الصيغ السماعية كما في قوله -تعالى-: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} الإسراء: 93، وقوله: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} الواقعة:91.
ولقد كان من هدي نبينا محمد " التعجب، وإظهار ذلك عند حدوث مقتضيه، ومن ذلك أنه كان يعجبه التَّيَمُّنُ في تنعُّلِه، وترجُّلِه، وشأنه كله.
وكان - عليه الصلاة والسلام- لا يخفي إعجابه ببعض الناس، أو بعض المواقف، بل يظهر ذلك، ويسمعه من يستحقه، كقوله لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه - لما سمع تلاوته: «لقد أُوتِيتَ مزماراً من مزامير آل داود» .
وقوله لابن عمر -رضي الله عنهما- وقد أعجبه سمته، وأراد مزيد كمالٍ له: «نعم الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل».
ولقد أنشد كعبُ بن زهير قصيدته المشهورة (بانت سعاد) أمام النبي ﷺ فكان للنبي" وقفات أثناء إلقاء القصيدة يحاور قائلها، وأصحابَه فيها، ومن ذلك أن كعباً لما بلغ إلى وصف راحلته، فقال:
قنواء في حرتيها للبصير بها *** عِتْقٌ مبينٌ وفي الخدين تسهيل
قال رسول الله " لأصحابه: ما حرتاها؟ فقال بعضهم: عيناها، وسكت بعضهم، فقال رسول الله ": هما أذناها.
ولما بلغ كعب قوله في مدح المهاجرين:
لا يقع الطعن إلا في نحورهم *** وما لهم عن حياض الموت تهليل
نَظَرَ رسول الله "إلى من حوله من قريش نَظَرَ مَنْ يومئ إليهم أن اسمعوا هذا المدح.
ولقد بلغ من إعجابه -عليه الصلاة والسلام- بتلك القصيدة أن عفا عن كعب بعد أن كان قد أهدر دمه، ومنَّ عليه ببردته.
يقول الشيخ عبدالحي الكتاني رحمه الله : "وقد اشترى تلك البردة منه معاوية بثلاثين ألف درهم، وكانت عنده من أَجَلِّ ملكه وأعظم.
وكانت أمراء بني أمية يتبركون بلبسها في الأعياد والمواسم، ويعدونها أفخر لباس، حتى وصلت مع الدولة لبني العباس.
وكان للأمة الإسلامية كبير اعتناء بهذه القصيدة اللامية البديعة حفظاً، واستنشاداً، وشرحاً، ومعارضة.
قال الشيخ الأديب أبو جعفر البصير الألبيري الأندلسي لما ذكر الكعبية هذه: وهذه القصيدة لها الشرف الراسخ، والحكم الذي لم يوجد له ناسخ، أنشدها كعب في مسجده -عليه السلام- بحضرته، وحضرة أصحابه، وتوسل بها فوصل إلى العفو عن عقابه، فسد" خلته، وخلع عليه حُلَّته، وكَفَّ عنه كَفَّ مَنْ أراده، وأبلغه في نفسه وأهله مراده، وذلك بعد إهدار دمه، وما سبق من هدر كلمه، محت حسناتها تلك الذنوب، وستر محاسنُها وجهَ تلك العيوب"([1]).
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "جالست رسول الله "أكثر من مائة مرة، وكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، فربما يبتسم معهم"([2]).
وربما أُنْشِد الشِّعرُ، فتمثل في بعض ما أُنْشِدَ أمامه، فعن الأعشى المازني قال:
"أتيت النبي ﷺ فأنشدته:
يا مالك الناس وديانَ العرب *** إني لقيت ذِرْبةً من الذِّرب
أخلفتِ الوعدَ ولَطَّت بالذنب *** وهن شرُّ غالبٍ لمن غلب
فجعل"يتمثلها، ويقول: وهن شرُّ غالبٍ لمن غلب"([3]).
وربما أنشده أحد الشعراء، فاستوقفه، وحاوره، وسأله عن مقصوده في أحد الأبيات، وربما دعا له، فعن يعلى بن الأشدق قال: سمعت النابغة الجعدي يقول: أنشدت النبي ﷺ :
بلغنا السماءَ مجدنا وجدودنا *** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال: "أين المظهر يا أبا ليلى؟".
قلت: الجنة، قال: "أجل إن شاء الله".
ثم قال:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادرُ تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليمٌ إذا ما أورد الأمرَ أصدرا
فقال رسول الله": "لا يفضضِ الله فاك مرتين".
ويروى أن النابغة كان أحسن الناس ثغراً، وأنه عاش مائة وثلاثين سنة، فكان إذا سقطت له ثنية نبتت مكانها أخرى ([4]).
وربما استنشد -عليه الصلاة والسلام- أحد جلاسه؛ فعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: "استنشدني النبي ﷺ من شعر أمية بن أبي الصلت؛ فأنشدته مائة قافية وبيت".([5])
وربما تمثل بالشعر في مجلسه؛ ففي الصحيحين عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: أصابت أصبعُ النبي ﷺ شيئاً، فدَمِيت.
وفي لفظ: بينما نحن جلوس مع رسول الله" في بعض المشاهد إذ أصابه حجر، فعثر، فدميت أصبعه فقال:
هل أنت إلا أَصْبُعٌ دَمِيت *** وفي سبيل الله ما لقيت([6])
وعن عكرمة قال: سألت عائشة -رضي الله عنها-: هل سمعت رسول الله" يتمثل شعراً قط؟
فقالت: أحياناً إذا دخل بيته يقول: "ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ"([7]).
وقوله: "ويأتيك بالأخبار من لم تزود" هذا عجز بيت لطرفة بن العبد في معلقته المشهورة، وصدره:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً *** ........................................
والأمثلة من هذا القبيل في كتب السنة، والسيرة النبوية كثيرة جداً.
وكتب السير، والأدب، والتراجم حافلة بذلك، ولا زال كرام الناس، وأكابرهم يتعجبون مما يتعجب منه؛ فذلك من جملة المناقب، ودلائل الخيرية.
ومن الأمثلة على ذلك ما كان من شأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع زهير بن أبي سلمى؛ فقد كان رضي الله عنه يعجب بزهير، ويفضِّله على غيره، وكان يتمثل بقوله:
فإن الحق مقطعه ثلاثٌ *** يمين أو نفارٌ أو جلاء
يريد ثلاث خصال؛ فمنها نفار: أي تنافرٌ إلى رجل يتبيَّن حجج الخصوم، ويحكم بينهم، ومنها يمين، ومنها جلاء: وهو أن ينكشف الأمر، ويتجلى، فَتُعْلَمَ حقيقته، فَيُقْضَى به لصاحبه دون خصام
ولا يمين.
فكان عمر رضي الله عنه يتعجب من معرفته بمقاطع الحقوق - كما يقول النويري-.
وقال ابن هشام رحمه الله- : "لما سمع عمر رضي الله عنه قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاثٌ *** يمين أو نفارٌ أو جلاء
قال: لو أدركته لولَّيته القضاء؛ لمعرفته ما تثبت به الحقوق.
قال ابن رشيق القيرواني:"وسمي زهير قاضيَ الشعراء بهذا البيت".
ومن ذلك -أيضاً- أن عَمْر بن سالم المالقي أنشد في مجلس أبي محمد عبدالوهاب أبياتاً لبعض الأندلسيين، ومنها:
ورأوا حصى الياقوتِ دون صدورهم *** فتقلدوا شُهْبَ النجومِ عقودا
فصار أبو محمد في حال من الإعجاب حتى تصبب عرقاً، وقال: "إن مما يقهرني ولا أملك نفسي عنده: الشعرَ المطبوع".
وروى حماد بن إسحاق أن أباه قال له: كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئاً استحسنه أطرفني به، وأفعل معه مثل ذلك؛ فجاءني يوماً ووقف بين البابين، وأنشد أبيات عبدالله بن الدمينة في داليته المشهورة:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد *** فقد زادني مسراك وجداً على وَجْدِ
ثم ترنح ساعة، وقال: "انطح العمود من حسن هذا البيت؟".
فقلت: "لا، ارفق بنفسك".
وكثيراً ما يصل الإعجاب بحسن المنطق إلى أن يكون سبباً في إنجاح المهمة، وإطْلابِ الطَّلِبَةِ، وتحقيق المراد.
ومما يذكر من ذلك ما جاء في أخبار ابن شرف من أن أحد عمال المعتصم ناقشه في قرية له؛ فَوَرد ابن شرف على المعتصم شاكياً هذا العامل، وأنشد بين يديه قصيدة في الغرض، ولما بلغ قوله:
لم يبقَ للجور في أيامهم أثر *** إلا الذي في عيون الغيد من حَوَرِ
قال المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها من بيت؟ قال: فيها خمسون بيتاً؛ فقال له المعتصم: أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقَّع له بها، وعزل عنها كل وال.
ومن هذا القبيل ما جاء في مناقب وزير الأندلس المشهور محمد بن الخطيب السلماني المعروف بلسان الدين بن الخطيب؛ إذ قال عند سفارته عن سلطان غرناطة محمد بن أبي الحجاج إلى سلطان المغرب أبي عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه، والتي يقولفيها :
خليفةَ الله سـاعـدَ الـقـدرُ *** عُلاك ما لاح في الدُّجى قمر
ودافعت عنكَ كفُّ قُدْرَتِه *** ما ليس يَسْطيع دَفْعَهُ بشرُ
والناس طُرَّا بأرض أندلـس *** لولاك ما وطَّنوا ولا عمروا
وقد أهمتهم نـفـوسُـهُـمُ *** فوجهوني إليك وانتظـروا
وجملةُ الأمرِ أنه وَطَنٌ *** في غير علياك ما له وطرُ
فاهتز السلطان أبو عنان لهذه الأبيات، وبلغت منه كلَّ مبلغ، وقال لابن الخطيب: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم، وأذن له في الجلوس، فسلم عليه.
قال القاضي أبو القاسم الشريف -وكان من جملة الوفد-: "لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا".
فهذه لُـمُعٌ يسيرة من أخبار التعجب مما يتعجب منه، والأمثلة عليه لا تكاد تحصى كثرة؛ مما يدل على أهمية ذلك، وعظم موقعه.
وأما ترك التعجب من العجب فآفة مذمومة، وخصلة قبيحة تدخل في عموم المصائب التي يبتلى بها الناس.
وذلك كصنيع بعض الناس ممن تساق لهم الأخبار السارة، ويسمعون من نفائس العلم وغرائب الأخبار، وروائع الأشعار، ومستجادات الأجواد؛ فلا تراهم يتعجبون، ولا يطربون،
ولا يظهرون أي تأثر لما يسمعون أو يشاهدون؛ فكأنهم خشب مسندة؛ لا تحس لهم وجبة ولا تسمع لهم ركزاً من جفاء طباعهم، وجفاف مشاعرهم؛ فكأنهم:
نفروا عنها لواذاً وإذا *** جفَّ طبعُ المرء لم تُغْنِ النُّذُرْ
وهذا ما جعل علي بن الغُدَيِّر الغنوي يرى ذلك الأمر من الهلاك، حيث قال -وما أجمل ما قال-:
وهُلْكُ الفتى ألا يَراحَ إلى الندى *** وألا يرى شيئاً عجيباً فيعجبا
وهو ما حدا ببكر بن عبدالله المزني أن يقول: "كنا نتعجب من دهر لا يتعجب أهله من العجب؛ فقد صرنا في دهر لا يستحسن أهله الحسن، ومن لا يستحسن الحسن لا يستقبح القبيح".
وذكر ابن قتيبة بسنده عن أبي الزناد عن أبيه قال: "لا يزال في الناس بقية ما تُعُجِّبَ من العجب".
يعني أن الناس لا يزالون بخير ما تعجبوا إذا رأوا أو سمعواما يُتعجب منه؛ فإذا رأوا أو سمعوا ما يتعجب منه، ولم يتعجبوا هلكوا.
وقال بعضهم: "العجب ممن لا يتعجب من العجب".
وجاء في أخبار أبي القاسم الزجاجي ما نصه: "أخبرنا ابن دريد قال حدثنا السجستاني عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء بأن العلاء قال: قيل لرجل من بني بكر بن وائل قد كَبِر حتى ذهب منه لذة المأكل والمشرب والنكاح: أتحب أن تموت؟
قال: لا، قيل فما بقي من لذائذك في الدنيا؟ قال: أسمع العجائب، وأنشد يقول:
وهُلْكُ الفتى ألا يَراحَ إلى الندى *** وألا يرى شيئاً عجيباً فيعجبا
ومعنى يراح: يرتاح، ومعنى الكلام: وأن لا يعجب إذا رأى العجب".
والحاصل أن ترك التعجب من العجب بلادة في الحس، وبرودة في الطبع، وكثافة في النفس.
ومن كان كذلك فليعالج نفسه ما استطاع حتى لا يكون كَلا على غيره، وألا يصبح ثقيلاً مستثقلاً في المجالس.
على أنه يجمل بذي الطبع الكريم أن يحسن الظن ببعض الناس؛ إذ قد يكون طروباً كريماً أريحياً لكنه لم يعتد على أن يعبر عما في نفسه.
وكما أن ترك التعجب من العجب داخل في قبيل الذم - فكذلك التعجب مما لا يتعجب منه، كصنيع بعض الناس مما يظهر العجب والدهشة من أمور لا تستحق التعجب؛ فذلك دليل جهل، وربما كان أمارة غباوة وحمق.