إنصاف الإسلام للأم بتأكيده لأبويتها

كلمه الأب ومشتقاتها كالأبوين والآباء ترِد في السياق القرآني في مواقع كثيرة بدلالات نحسب أنها مختلفة للمتتبع ذلك، مما يتطلب التعمق في معرفة المعنى المقصود في سياق كل آية...

  • التصنيفات: القرآن وعلومه - اللغة العربية -

كلمه الأب ومشتقاتها كالأبوين والآباء ترِد في السياق القرآني في مواقع كثيرة بدلالات نحسب أنها مختلفة للمتتبع ذلك، مما يتطلب التعمق في معرفة المعنى المقصود في سياق كل آية، ومثال ذلك أن القرآن يذكر في قصة سيدنا آدم لفظ أبويكم {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]، فينسب هنا الأبوة لآدمَ وحوَّاء معًا، فنسَبُ الأبوة للام يحتاج التوقف عنده؛ لذلك يأتي بحثنا لنصل إلى المقصد الأساسي من هذا المفهوم الذي جعله الله حقًّا طوَّق به عنق الأم أينما كانت.

 

الأب فی اللغة: هو إنسان ذكر تولَّد من نطفته إنسان آخر؛ وكما قال الراغب الأصفهاني: (يسمَّى كلُّ من كان سببًا في إيجاد شي‏ء أو صلاحه أو ظهوره أبًا).

 

ويطلق كذلك الأب على الأب والعم والخال.

والمفهوم السائد هو أن الأبوة رباط يربط الأب (الرجل) بذريته.

 

الأب في القرآن: عندما نتأمل ذكر كلمة الأب في القرآن نجدها إما أن تأتيَ بصيغة المفرد أو التثنية أو الجمع؛ ولذلك سنتتبع المراد من هذه الصيغة وفقًا لموقعها كما يأتي:

أولًا: دلالة كلمة الأب بصيغة المفرد:

في القرآن نجد أن كلمة الأب بصيغة المفرد تدل على الأب الوالد دون الأم، وكذا الجد، كما جاء ذكرها كالآتي:

إطلاق لفظ الأب بمعنى الوالد؛ مثال ذلك قوله تعالى:

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف: 80]، {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93].

 

إطلاق صيغة الأب بصيغة المفرد على الجد؛ كما في قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].

 

ثانيًا: دلالة معنى الأب بالتثنية:

القرآن يذكر لفظ الأبوين بدلالة عدة معانٍ؛ وهي:

تسمية الأم والأب معًا بالأبوين؛ ومثال ذلك كما قال الله عن أبوينا آدم وحواء: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}  [الكهف: 80]، وفي سورة يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]، وقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11].

 

تسمية الجد بالأب وإن علا كما جاءت القرينة واضحة لإثبات أبوة إبراهيم وابنه إسحاق ليوسف الذي هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ كما في قوله تعالى: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 6].

 

ثالثًا: مفهوم لفظ الأب بصيغة الجمع:

إن لفظ الأب بصيغة الجمع في القرآن يرِد ليشمل المعنى الشامل للأبوة للأم والأب أو للاثنين معًا، وكذا الأعمام والأخوال، وما علا من الأصول؛ ومثال إطلاق لفظ الأب بصيغة الجمع ليشمل ذلك الأب والأم كما في آية الميراث التي تحدثت بالتفصيل عن نصيب الأب والأم والأبناء، ثم ختم الله بجمع لفظ {آباؤكم} دون الإشارة صراحة إلى الأم مما يعني شموله للأم والأب؛ كما في قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11]، وقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23]، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]، {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} [التوبة: 23].

 

وتسمية الأب بالجمع يكون بمعنى الجد والعم كما في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، فإسماعيل وإسحاق هم أبناء إبراهيم، ويعقوب هو ابن إسحاق، لذلك فإن أبناء إسحاق قالوا لوالدهم: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ}؛ أي: الجد الأكبر إبراهيم وإله جدنا (والدك إسحاق)، وأخيه؛ أي: عمك إسماعيل، ويستفاد من ذلك أنه إذا أطلق على أخي الجد تسمية الأب فإن العم الأقرب أحق بها كما سيأتي.

 

والأب بالجمع (آباء) يشمل الأم والأب والأخوال والأعمام وما علا من الأصول من الأم والأب؛ ومثال ذلك قوله تعالى:

{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31]، فهذه الآية لم تذكر صراحة الاستثناء بلفظ الأم من إبداء الزينة؛ ولذلك تدخل الأم وأخواتها والعمة في لفظ آبائهن، وما علا من الجدات من ناحية الأم أو الأب.

 

وكذا في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ } [الأحزاب: 55].

 

لماذا شرف الله الأم بمصطلح الأبوة:

مما سبق نجد أن الأبوة في القرآن ليست مقابل الأمومة فحسب، فالأبوة بصيغة المفرد في القرآن قد تتوافق مع المعنى اللغوي؛ أي: الرجل الذي ينتسب إليه الولد، وتشير الأبوة بصيغة الجمع إلى قوة العصبة ووحدة الأصول الرحمية، وإن بعُدت، وهي تشارك صيغة المثنى في معنى اصطلاحي، وهو استحقاق الأم ونَيلها شرف التسمية بالأبوة، وهذه التسمية استحقَّتْها بسلوكها في تحمل الأعباء وعظم المسؤولية في التنشئة الجسمية والتربية الأخلاقية والوجدانية للمولود وحسن رعايته، وكذا ما قد تتحمله الأم بمالها وجهدها في كثير من الأحيان مثل الأب في إعالة الأبناء، سواء في حالة وجود علاقة زوجية قائمة أو انفصال الزوج عن زوجته، أو انتهائها بسبب موت الأب وتحمل الأم وإن جزءًا يسيرًا منها.

 

ولذلك فإن كثيرًا من الآباء قد يحمل لفظ الأب في انتساب المولود إليه حكمًا - أي: كوالد - ويفقد الأبوة فعلًا بهروبه عن حضن أسرته وعدم تحمل مسؤولياته المختلفة تجاه أبنائه في حين تقوم الأم بكثير مما يتخلى عنه الأب من واجبات نحو الأبناء.

 

الفرق بين الوالدين والأبوين في القرآن:

لفظ الوالد يشمل الأم فهي والدة، والأب كذلك فهو والد، لكن الأم هي التي تلد المولد في الحقيقة، وألحق بها الأب لأنه سبب، ولا يسمى الأعمام والأخوال والأجداد بالوالدين؛ لأنهم ليسوا بسببٍ مباشر في وجود المولود، أما ذكر الوالدين في القرآن بصيغة التثنية، فهو ينطلق كذلك على الأب والأم؛ ومثال ذلك قوله تعالى: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83]، والله تعالى يخاطب الأبناء ببر الوالدين وليس الأبوين، وذلك بقصد استدرار أقصى قوة عطف من الأبناء نحو الوالدين حتى يرِقَّ ويحنَّ قلب الأبناء نحوهما، وتذكيرهما بمن تسبب في وجودهما حتى يقوموا بخدمتهما؛ وذلك لأن الأبوة بمعنى الرعاية وتحمل مسؤولية التنشئة البدنية بالإنفاق، والروحية بالأخلاق في أغلب الأحوال تكون قد انتهت، وذلك إما بقعود الأبوين عن العمل والكسب أو كبرهما وحاجتهما إلى عَون الأبناء دومًا، وإما باستواء قوة الابن واشتداد عوده وتحمله مسؤولياته بعيدًا عن احتياجات أبويه المادية، وكذا بانتهاء مسؤولية التربية وتجاوز الابن مرحلتها في أكثر الأحوال، ومثال ذلك:

قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]، وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}  [لقمان: 14]، وقوله تعالى على لسان يحيى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14].

 

أبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأمومة نسائه:

من حكمة الله أن ينفي أبوة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين والتي يترتب عليها حرمة المصاهرة بين الأب وأبنائه، فلو أثبت الله أبوة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين لَما جاز له التزوج بابنة الصديق عائشة رضي الله عنهما؛ لذلك قال الله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]، ولكن الله خص النبي صلى الله عليه وسلم بولايته على المؤمنين؛ فهي أعظم وأتم من ولاية الأب من حيث الإرشاد والتزكية، وتحقيق مصالحهما بما يحقق الخير لهم في الدنيا والآخرة، وفي المقابل كرم الله نساء نبينا وأثبت لهن حكمًا أمومة جميع المؤمنين؛ فزوجاته أمهاتنا تشريفًا لنا وتعظيمًا لحقهن، ولكن الله أجرى عليهن بقية الأحكام في التعامل مع المرأة الأجنبية رغم أمومتهن لنا وذلك في قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. صورة أخرى لتكريم الإسلام للأم:

ولعظم ما تتحمله الأم من مسؤوليات الأبوة وما تتحمله من واجبات أساسية، تنفرد وتتميز بالأمومة دون الأب؛ فهي تتعب في حمل المولود وولادته، وتتتهي بتغذية المولود بالحنان والإطعام.

 

لذلك كان أمر نبينا الأبناء بحسن الصحبة والاهتمام بها كما في الحديث عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جاء رجل إلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا رَسُول اللَّهِ، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من قال: «أمك»، قال: ثم من قال: «أمك»، قال: ثم من قال: «أبوك» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].

 

لكن يجب أن يُفهَم من هذا الحديث أنه رغم تقدير الإسلام لمكانة الأم في بث الحضن والدفء الأسري، فإن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الأبناء لصحبتها ثلاث مرات ثم الأب في المرة الرابعة – لا يعني ذلك تنقيصًا لمكانة الأب في الأسرة، بل إن تلك الصحبة والحنان والاحترام للأم تظل في تقوية مصب علاقة الأم نحو الأب والأسرة؛ لأن كل أفراد الأسرة مأمورون بالطاعة للأب ما لم يأمرهم بمعصية الله، وهذا مما يدعم من مكانة الأب في الأسرة، لأنه مصدر قوتها وأساس استقرارها وتماسكها.

_____________________________________
الكاتب: الأمين مختار الأمين الناير