قواعد: ( ١٤) {بلْ نَتَبِعُ مَا ألْفَينَا عَلَيهِ آباءَنَا}.. فِطرَةُ المُحاكَاة!

أسماء محمد لبيب

فَمَن غَفَلَتْ عن ذلكَ  حتى تَزَوجَتْ وفُوجِئَتْ بابنِها يُحاكِي كلامَها وأفعالَها الصالحةَ والطالِحَة، فلتُدرِكْ يَقينًا أنَ ماكينةَ القدوةِ بدأتْ إنتاجَ القماشِ

  • التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -

 
قال أبٌ لولَدِه: [[انتبهْ بُنَيْ إلى خطواتِكَ وأنتَ تَسِير!]] فأجابه: [[بَل انتبِهْ أنتَ يا أبَتِ لخُطُواتِكَ فأنا عليها أسِيرُ]]!!

بسببِ تَقلِيدِ الصغارِ لنا واستِعراضِهِم لِمِرآتِنا السلوكيةِ في كلِ صغيرةٍ وكبيرةٍ، أصبحَ مِن إيجابياتِ الإنجابِ أنهم يُعَزِزُونُ بداخلِنا عقيدةَ الإيمانِ بوجودِ مَلَكٍ رقِيبٍ عتيدٍ مُلازِمٍ لنا يُحصِي علينا أعمالَنا وربما أنفاسَنا واللهُ المستعان..!


المحاكاةُ غَريزةٌ، والغريزةُ هي الدافعُ للإنسانِ إلى عَمَلٍ دونَ تفكيرٍ وهي جُزءٌ من الفِطرَة*ِ.
فالإنسانُ بطبيعَتِهِ يَمِيلُ للتقلِيد، لِما فِي ذلكَ من إشباعٍ لشعورِهِ بالانتماءِ مَع مَن حَولِهِ في سُلُوكِهِم، خاصَّةً الأطفالُ، حيثُ يعتقدونَ أن كلَ أفعالِ الكبارِ صحيحةٌ فيقلِدُونَهُم، بدافِعِ مَحَبَتِهِم إياهُم أولًا والتجربةِ ثانيًا. وهذا بالطبعِ يُخالفُ مَزاعِمَ فرويد صاحِبِ عُقدَةِ "أوديب"، أن الولدَ يُضمِرُ بُغْضَ أبيهِ لأنهُ ينافِسُهُ على أمِهِ، وهذا افتراءٌ واتهامٌ باطِلٌ لفِطرَةِ الأطفالِ الأبرياءِ بالنفاقِ والحِقدِ، وليس المجالُ الآنَ لتفصِيلِهِ* (كتاب التربية-مشكاة-بتصرف)

القدوةُ إذًا 
من أهَمِّ صُوَرِ انتقالِ السلوكِ علَى مَرِّ الأُمَمِ، حتى بينَ الحيواناتِ وبعضِها، بل بينَ الحيواناتِ والبَشَرِ..
تأملوا نبأَ ابنَيْ آدمَ وكيفَ بَعَثَ اللهُ غُرابًا يَبحَثُ في الأرضِ ليُرِيَ ابنَ آدَمَ القاتلَ كيفَ يُوارِي سَوءةَ أخيهِ المقتولِ، فيتعلَمُ الدفنَ بالمُحاكاة..
بَل يَتَعَجَبُ الإنسانُ إذا جاءَهُ مَن يَصرِفُهُ عن تَقلِيدِ آبائِهِ: {
{أَجِئتَنا لِتَلفِتَنا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيهِ آباءَنا} }!
فالقدوةُ سلاحٌ ذو حَدَّينِ ولاعجَبْ.. فهي غَنِيمَةٌ عظيمةٌ لو كان القائدُ صالحًا، ونِقمَةٌ وشقاءٌ إن كان مُعوَجًّا..
ولو اجتمعَ مَعَها الحُبُ صارتْ أبلَغَ في الأثَرِ كالنَقْشِ علَى الحَجَرِ، فالحُبُ أداةُ الاستِمالَةِ، والقُدوَةُ أداةُ الإقناع، وهما معًا جناحا الاتباعِ..
إذًا الأصلُ هو المحاكاةُ، والتِي أبرَزَها القرآنُ مِرارًا---
< {
{بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كذلكَ يَفعَلُونَ} }/ { {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا علَى آثارِهم مُقتَدُون} }/ { {بَلْ نَتَبِعُ ما ألفَينَا عَلَيهِ آباءَنَا} }..!
ثم تكونُ العاقبةُ: 1-إما {
{وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّیَّتُهُم ((بِإِیمَـٰنٍ)) أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَمَاۤ أَلَتۡنَـٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَیۡءࣲ} }/
2-وإما {
{إذْ تَبَرَّأَ الذِينَ اتُبِعُوا مِنَ الذِينَ اتَبَعُوا ورأَوا العَذَابَ وتَقَطَعَتْ بِهِمُ الأسباب} }..

ولأجلِ ذلكَ حَذَّرَ الإسلامُ مِن المُجاهَرَةِ بالخطأِ والتفاخرِ به وكَشْفِ سِتْرِه، لئلا يصيرَ عَدوَى سلوكيةً ولكيلا تُخدَشَ القدوةُ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعافَى إلَّا المُجاهِرُين"..!
وَشَدَّدَ على اختيارِ الزوجةِ المتدينةِ وعدمِ تفويتِ الخاطبِ المتدينِ، لأنَ هؤلاءِ هُمُ الآباءُ قدواتُ الصغارِ مُستَقبَلًا:
"
إذا خَطَبَ إليكُم مَن تَرضَونَ دينَه وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلا تَفعَلوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرضِ"، "فاظفَرْ بِذاتِ الدِينِ تَرِبَتْ يداكَ"..!
ووجَّهَ كذلكَ إلَى انتقاءِ الجُلَساءِ وضرورةِ حَبْسِ النفسِ مع الأخيارِ فهؤلاءِ هم قدواتُ الحاضِرِ:
{
{يَا وَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتِخِذْ فُلانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكرِ بَعدَ إِذْ جاءَنِي} }، و"مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والسَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ"..
وحَثَّ كثيرًا علَى تَعلُمِ سِيَرِ السلَفِ الصالحِ لأنَ هؤلاءِ هُم قدواتُ الماضِي:

{
{لَقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِیهِمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ} }/ { {فبهداهم اقتدِه} }..
فالشريعةُ أحاطتْ الإنسانَ بقدواتٍ عبرَ كلِ المراحلِ الزمنيةِ لأهميتِها السلوكية..


فمتى يبدأُ الاقتداءُ؟
جزءٌ مِن طباعِ أبنائِنا طَبائِعُ كانتْ أو لازالت فينا وانتقلَتْ إليهم جِينِيًا بالوراثةِ، أو اكتِسابًا بالمُمَارَسَةِ أمامَهم.
قال ابنُ القيمِ في مَدَارِجِ السالِكِين: [[الخُلُقُ: مِنهُ ما هو طَبيعَةٌ وجِبِلَّةٌ، وما هُو مُكتَسَبٌ]]..

وبعضُ الطباعِ  لَهُ وجهانِ: وَجهٌ حَسَنٌ مَحمُودٌ ووجهٌ قبيحٌ مَعيوبٌ.. مثال: سُرعةُ الكلام، مَمدوحةٌ لو لدينا مُصِيبَةٌ ونحتاجُ لمُوجَزٍ سريعٍ لما حدثَ لنَهْرُعَ بالتصرُفِ السليمِ، لكنها مُزعِجَةٌ جدًا فِي الحِوارَاتِ اليَومِيةِ الطبيعيةِ ومُخالفِةٌ للتريثِ النبويِّ الكلامِيِّ المُبِين..

والتقليدُ يبدأ عادةً بعدَ العامِ الأول، ويَبلُغُ درجةً كبيرةً عند السادسةِ والسابعةِ، ويستمرُ مُعتدلا حتى مرحلةِ الحَزَاوِرَةِ، وهِيَ ما يُعرَفُ بالطُفولةِ المُتأَخِرَةِ، أو المراهَقةِ مَا قَبْلَ البُلُوغ...*
فماذا كانَ يَحدُثُ قبلَ العامِ الأولِ؟

قنصٌ لكلِ شيءٍ بالحواسِّ الخَمسَةِ وتخزينُهُ ومُعالجتُهُ.. كاميرا ومُسَجِّلُ صوتٍ وبِطاقَةُ ذاكِرةٍ وَنَولٌ وخُيوطٌ، حتى إذا حانَتْ لحظةُ التَصدِيرِ أنتجَتْ الماكينةُ القماشَ ورأينا الثَّوبَ الذِي كانَ يُغزَلُ بسلوكِياتِنا..
فلا تَظُنِّي الماكينةَ كانتْ مُعَطَلةً قبلَ ذلكَ وعلَى مُؤَشِّرِ "غَيرِ نَشِطٍ" لأنَ القماشَ غَيرُ مَرئِيٍّ لَكِ بَعدُ!


لذلكَ نقولُ..
التربيةُ تبدأُ مِن تَزكِيةِ أنفسِنا نحنُ أولًا والنظَرُ إلَى طبائِعِنا المُكتَسَبَةَ والمَوروثَةَ والجِبِلِيَةَ، والعملُ على تهذِيبِ ما أمكنَ مِنها بالإيمانِ وسِيَرِ الصالِحينَ، قبلَ الزواجِ والإنجابِ بفترةٍ طويلةٍ لاستحقاقِ زوجٍ صالحٍ يكونُ أبًا صالحًا لذريةٍ صالحةٍ.. فنعتني بالقدوةِ بنظرةٍ مُبَكرَةٍ شامِلَةٍ، لتهيئةِ القدواتِ الصالحةِ في حياةِ الطفلِ قبلَ مَجيئِهِ، فإن لم تَكُنْ التزكيةُ قد بدأَتْ مُبكرًا منذ صِغَرِنا نحنُ في بيتِ أهلِنا، فلنبدأْها بأنفسِنا على أقصَى تَقدِيرٍ منذُ بلوغِنا الحُلُمَ وجريانِ القلمِ علينا، لنُقَدمَ من أنفسِنا نموذجًا في الصلاحِ لأبناءِ المستقبلِ، تَمهيدًا لأسرةٍ مسلمةٍ، للمتقينَ إمامٍ بحولِ اللهِ وقوتِهِ..

فَمَن غَفَلَتْ عن ذلكَ  حتى تَزَوجَتْ وفُوجِئَتْ بابنِها يُحاكِي كلامَها وأفعالَها الصالحةَ والطالِحَة، فلتُدرِكْ يَقينًا أنَ ماكينةَ القدوةِ بدأتْ إنتاجَ القماشِ وأنها لن تُلاحِقَ سُرعتَها فكلُ شيءٍ قد تَمَّ ويتِمُ قَنصُهُ بِدقَّةٍ، وسَترَى الثَّوبَ قريبًا على وَلَدِها.. فلتقِفْ معَ نفسِها وتُحَلِلِ المَشاهِدَ وتنظُرْ أيُّها أزكَى سُلُوكًا فتُعَزِّزُهُ لديها لينعَكِسَ عليهِ، وأيُّها أولَى بالسِّترِ والمُجاهَدَةِ لينزوِي مِنْ مِرآةِ ولدِها السُّلُوكِيِّةِ...
فالتربيةُ بالقدوةِ تحتاجُ مُحاسَبَةً وتزكيةً وتَجَرُّدًا للحقِ
..
وهذه جميعًا تحتاجُ علمًا وصبرًا: عِلمَ الأخلاقِ وعِلمَ الإيمان..
وإنما العِلمُ بالتعلُمِ... وإنما الحِلمُ بالتحلُمِ..
وقد وصفَ اللهُ عَبدَه إبراهيمَ قائلًا {
{إنَّ إبْرَاهِيمَ لأواهٌ حَلِيمٌ} }، وهِي صِيغَةُ مبالغَةٍ من ((الحِلْمِ)) تُؤَكِدُ كَثرَةَ المُواظَبَةِ عَلَيهِ حتى صارَ صِفةً مُلازِمةً لَه، فلا عَجَبَ بعدَها حينَ نَقرأُ بِشارَةَ اللهِ لَهُ في وَلَدِهِ إسماعيلَ الذِي تَحلَّى بِنَفْسِ ثوبِ الحِلمِ بِالمِثلِ: { {فبشرنَاهُ بغلامٍ حَلِيمٍ} }..
فهما طريقانِ: إما {
{جَعلناهُمْ أئِمَةً يَهدُونَ بأمرِنا} } ونسألُ اللهَ أن نكونَ مِنهم..
وإما {
{جَعلناهُم أئِمةً يَدعُونَ إلى النَّارِ} } ونَعُوذُ باللهِ مِن ذلك..

فماذا نفعلُ إذا خُدِشَتِ القُدوَةُ وبدأَ أبنائِي يُصدِرونَ سلوكياتٍ خاطِئَةٍ؟
الجوابُ في القاعدةِ القادمةِ بإذن الله.

--
أسماءمحمدلبيب
أمةالله-عفا الله عنها