النهي عن الإسراف

مِن الصفات المذمومة التي نهى الشارع عنها صفةُ الإسراف.

  • التصنيفات: تزكية النفس - أخلاق إسلامية -

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:

فمِن الصفات المذمومة التي نهى الشارع عنها صفةُ الإسراف.

قال الراغب: "هو تجاوُز الحدِّ في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أَشْهَرَ"[1].

وقال سفيان بن عُيَيْنة: "ما أنفقتَ في غير طاعة الله سَرفٌ، وإن كان ذلك قليلًا"[2].

 

قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}  [الزمر: 53].

 

والإسراف يَتناوَل المالَ وغيرَه؛ قال تعالى مُحَذِّرًا عبادَه من الإسراف: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}  [الأعراف: 31].

 

قال بعض السَّلف: "جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ في نصف آية: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [3].

وقال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}  [الأنعام: 141].

قال عطاءُ بن أبي رباح: "نُهُوا عن الإسراف في كلِّ شيءٍ"[4].

قال ابن كثير: "أيْ: ولا تسرفوا في الأكل؛ لِمَا فيه من مضرَّة العقل والبَدَن"[5].

 

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه رضي الله عنهما؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُوا، وتصدَّقوا، والبسوا، في غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ» [6][7].

 

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "كُلْ ما شئتَ، والْبَسْ ما شئتَ، ما أخطأَتْكَ اثنتانِ: سَرفٌ أو مَخِيلَةٌ"[8]. وعن المِقدام بن معدِي كَرِب رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما مَلأَ آدميٌّ وِعاءً شرًّا مِن بطنه، بحسْبِ ابن آدم أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإن كان لا محالة، فثُلُثٌ لطعامه، وثُلُثٌ لِشَرَابه، وثُلُثٌ لِنَفَسِه» [9].

 

وفرَّق بعضُ العلماء بين التبذير والإسراف الذي جاء النهي عنه في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]، فقالوا: إن التبذير هو صرف الأموال في غير حقِّها؛ إما في المعاصي، وإما في غير فائدة؛ لَعِبًا وتَسَاهُلًا بالأموال، أما الإسراف: فهو الزيادة في الطعام والشراب واللِّباس، في غير حاجةٍ.

 

قال تعالى مادحًا عبادَه المقتصِدين:  {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

قال ابن كثير رحمه الله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67]؛ أي: ليسوا بمبذِّرين في إنفاقهم، فيَصْرِفون فوق الحاجة، ولا بُخلاء على أهليهم، فيُقصِّرون في حقِّهم، فلا يكْفُونَهم؛ بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا"[10].اهـ.

 

وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، وهذا هو التوسُّط المأمور به: لا بخل، ولا إمساك، ولا إسراف، ولا تبذير، لكن بين ذلك.


قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيْش، ذامًّا للبخل، ناهيًا عن الإسراف: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29]؛ أي: لا تكن بخيلًا مَنُوعًا، لا تعطي أحدًا شيئًا، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]؛ أي: ولا تسرف في الإنفاق، فتعطي فوق طاقتك، وتُخرج أكثرَ من دَخْلِكَ؛ {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]؛ أي: فتقعد إنْ بَخِلْتَ ملومًا؛ يلومك الناس، ويذمُّونك، ويَستَغنُون عنك، ومتى بَسَطتَ يدك فوق طاقتك، قعدتَ بلا شيءٍ تُنفِقه؛ فتكون كالحسير، وهي الدابَّة التي عجزت عن السَّيْر"؛ ا هـ[11].

 

قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما أنفقتَ على نفسِكَ وأهلِ بيتكَ، في غير سَرفٍ ولا تبذير، وما تصدَّقتَ به، فهو لك. وما أنفقتَ رياءً وسمعةً، فذلك حظُّ الشيطان"[12].

 

وقال ابنُ الجَوْزي: "العاقل يُدبِّر بعقله معيشتَه في الدنيا، فإن كان فقيرًا اجتهَد في كسبٍ وصناعةٍ تَكُفُّهُ عن الذُّلِّ للخَلْق، وقلَّل العلائقَ، واستعملَ القَناعة؛ فعاش سليمًا من مِنَن الناس، عزيزًا بينهم، وإن كان غنيًّا، فينبغي له أن يُدبِّر في نَفَقَتِه؛ خوفَ أن يفتقر، فيحتاج إلى الذُّلِّ للخَلْق..."؛ إلى آخر ما قال[13].

 

وينبغي أن يُنْتَبَهَ لأمرٍ:

وهو أن الإنفاق في الحقِّ لا يُعَدُّ تبذيرًا؛ قال مجاهد: "لو أنفق إنسانٌ مالَهُ كلَّهُ في الحقِّ، لم يكن مبذِّرًا، ولو أنفق مُدًّا في غير حقٍّ كان مبذِّرًا"[14].

 

ومن الإسراف الذي يقع فيه بعضُ الناس: الإسْرَافُ في الولائم، وحَفَلات الزَّوَاجِ، وغَيْرها مِنَ المناسبات، صغيرة أو كبيرة؛ حيثُ تُقدَّم بها الأَطعمةُ أَكْثَرَ من الحاجة.

 

ومنها: الإسراف في استخدام نعمة الماء؛ فعن أنس رضي الله عنه: "إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتوضَّأ بالمُدِّ، ويَغتسِل بالصَّاع، إلى خمسة أمداد[15]"[16].

 

وقد نهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المؤمنَ أن يزيد على وضوئه ثلاث مرات؛ فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، قال: "جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوءَ ثلاثًا ثلاثًا"، ثم قال: «هكذا الوضوء؛ فمَن زاد على هذا، فقد أساء، وتعدَّى، وظَلَم» [17].

 

ومنها: الإسراف في استخدام نعمة المال؛ فعن خَوْلَة الأنصارية قالت: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ رجالًا يَتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ؛ فلهم النار يوم القيامة» [18].

 

ويَدخل في هذا الحديث: الذين يُسافرون إلى بلاد الكفار، فيُنفقون المبالغَ الطائلة في تلك الرحلات، وهم بهذا جَمعوا بين معصيتين:

الأولى: السفر إلى بلاد الكفار، وقد نهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فعن جرير رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أنا بريءٌ مِن كلِّ مسلمٍ يُقِيم بين أظهُر المشركين؛ لا تَرَاءَى ناراهما»[19].

الثانية: دعم اقتصاد هذه الدول الكافرة بهذه الأموال التي تُنْفَق فيها.

 

عن أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قَدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل: عن عُمره فيمَ أفناه؟ وعن عِلْمِه فيمَ فعل؟ وعن مالِه؛ مِن أين اكتسَبَه؟ وفيمَ أنفَقَه» [20]؛ الحديث، وغير ذلك من الصُّوَر.

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


[1] "موسوعة نضرة النعيم"، (9/ 3884).

[2] "موسوعة نضرة النعيم"، (9/ 3884).

[3] "تفسير ابن كثير"، (2/ 210).

[4] "تفسير ابن كثير"، (2/ 182).

[5] "تفسير ابن كثير"، (2/ 182).

[6] مَخِيلَة: هي العجب والكبر.

[7] "سُنن النسائي"، (5/ 79)، برقم (558)، ورواه البخاري معلقًا مجزومًا به، (4/ 53).

[8] "صحيح البخاري"، (4/ 53).

[9] "سُنن الترمذي"، (4/ 590)، برقم (2380)، وقال: حديث حسن صحيح.

[10] "تفسير ابن كثير"، (3/ 325).

[11] "تفسير ابن كثير"، (3/ 36).

[12] "الدر المنثور"، (5/ 275).

[13] "صيد الخاطر"، (ص: 404).

[14] "تفسير ابن كثير"، (3/ 36).

[15] المدُّ: مِلء كفَّيِ الرجل المُعْتَدِلِ.

[16] "صحيح البخاري"، (1/ 85)، برقم (201)، و"صحيح مسلم"، (1/ 258)، برقم (325).

[17] "سُنن النسائي"، (1/ 288)، برقم (140).

[18] "صحيح البخاري"، (2/ 393)، برقم (3118).

[19] "سُنن الترمذي"، (4/ 155) برقم (1604)، وصحَّحه الشيخُ الألباني في "صحيح الجامع الصغير"، برقم (1461).

[20] "سُنن الترمذي"، (4/ 612)، برقم (2426).

________________________________________________________

الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي