بين الفن والأنِّ
"الفن أصبح لغة العصر" جملة صارت قاعدة في هذه الأيام مع طغيان القنوات الفضائية، وانتشار الموسيقا والأغاني و(الكليبات)، والأفلام والمسلسلات..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
"الفن أصبح لغة العصر" جملة صارت قاعدة في هذه الأيام مع طغيان القنوات الفضائية، وانتشار الموسيقا والأغاني و(الكليبات)، والأفلام والمسلسلات، والبرامج التي لها معنًى أحيانًا، وليس لها في أغلب الأحيان سوى أنها تغطي ساعات بثِّ القنوات الفضائية لتملأ المسامع والأبصار بما تقيئه من تُرَّهات تسميها في النهاية "فنًّا".
لقد بلغ التضخم أَوْجَه في عصر التواصل والاتصالات والفضائيات، حتى صار غثاءً لا يسمن ولا يغني من جوع، بعد أن كان من المفروض له أن يحكي لغة التواصل بين البشر؛ لذلك عندما نسمع أن الفن أصبح لغة العصر، ونرى السواد الأعظم من البشر لا يجيد بل لا يفهم هذه اللغة، ندرك حقيقة التناقض.
في الحقيقة إن الفن لديه قدرة عجيبة على تغيير وقْع المشكلات حتى صار الشارع العربي كمَن يقرأ قصة كليلة ودمنة على أنها قصص حيوانات مسلية، ويجهل أنها كانت ولا تزال تحكي واقعًا مرًّا معيشًا.
إذا كان الفن يعكس الواقع، ويعبر عن رسالة يعبُر بها إلى القلوب، فمن المعيب أن نلوي عنقه لنغمس رأسه في الطين، ونكون مثل أولئك الذين سرقوا التوابل من حقيبة الهندي ووضعوها في طعامهم، ثم تبيَّن لهم بعد أن أكلوا أن هذه التوابل لم تكن سوى رماد جثة والد الهندي!
إن الشعوب التي يعتصرها الألم، وتئنُّ تحت وطأة الظلم والاضطهاد، لا أظنها ترضى أن تعبِّر عن آلامها بكتابات لا تلبث أن تتحوَّل بواسطة (فنِّنا العظيم) إلى مسلسلات وأفلام لمجرد التسلية في سهرات الشتاء والصيف، أو مسرحيات يضحك لها الصغير والكبير دون فهْم لمعناها، أو بأشعار يحوِّلها الفن إلى أغنيات تتراقص عليها العاهرات والمُجَّان.
أذكر في أحد البرامج التي قُرِّر لها أن تردم الهوَّة بين جيلين، تساءل مقدِّمه مستغرِبًا عن ضعْف متابعة هذا البرنامج من قِبَل الجماهير، مع أن الجواب أكثر من واضح، بل هناك أجوِبة عديدة؛ فلا أظن أن مَن يبحث عن كأس ماء في جنوب السودان قادر على الاشتراك في سوبر ستار، ومن المستحيل أن نتوقع ممَّن أظهرت المجاعةُ أقفاصَهم الصدرية أن يشاركوا في الرابح الأكبر، ولا شكَّ أن الموظف الذي يعمل 16 ساعة ليستطيع تغطية نفقات أسرته وإيجار بيته لن يتمكَّن من الذهاب مع ابنه للمشاركة في برنامج سوبر ديو، إن مَن لا يأمن على نفسه ولا على أهله في العراق، ومَن يقاتل ويرزح تحت الاحتلال في فلسطين، ومَن يعول أسرةً كبيرة فيها المرضى والكبار - غيرُ قادر على المشاركة في ستار أكاديمي، ولعل مثل هؤلاء وأكثر لا يرغبون في فتْح التلفاز لمشاهدة الكليبات الماجنة، والموسيقا الهابطة ليروِّحوا عن أنفسهم، كما أنهم ليسوا على استعداد نفسي لمتابعة الإسفاف والانحراف في المسلسلات والأفلام، هذا كله إن كان لديهم تلفاز أصلاً أو كهرباء.
إنها لفتة تساعد على إيصال الرسالة، وتعبِّر عن الآمال والآلام، وتوضِّح الرؤية لِمَن أبى إلا أن يترك غشاوة الخداع الإعلامي أمام عينيه، وأقفل عقله ليستعيض عنه بشريحة إلكترونية يتحكَّم بها روَّاد الإعلام العالمي بجهاز تحكُّم عن بعد.
ولكن عندما يصل الأمر إلى هذا الحدِّ يحقُّ لنا أن نقول: لئن أعلن (نتن ياهو) أن إسرائيل لن تتوقف عن بناء المستوطنات - فإننا لن نسكت، وسنردُّ عليه بأغنية يجتمع لها كل فناني العرب لتعبر عن حلمنا.
_______________________________________________________
الكاتب:مصطفى محمود سليخ